رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تجربة سياسية



لم أتعود على سرد تجاربى فى مجال السياسة، فقد كانت لى تجربة قبل ثورة يناير فى حزب الجبهة الديمقراطية، وخرجت منها قبيل انتخابات برلمان ٢٠١٠، السيئ الحظ، الذى جلب ثورة يناير، لكن ما حدث معى مؤخرًا جعلنى أسرد تلك التجربة.
منذ فترة، اتصل بى فى مدينتنا بوسط الصعيد أحد أقطاب حزب جماهيرى كبير، يتمتع هذا الحزب بشعبية واسعة فى أوساط الأعيان ورجال السياسة السابقين، الرجل مرموق، وله تخصص طبى متميز، فضلًا عن ذلك لم نلتق رغم شهرته الواسعة، طلب أن نلتقى فى مقر الحزب، وقتها كان كتابى عن معمر القذافى قد صدر حديثًا وطلب نسخةً من الكتاب وقال إنه يريد أن نتكلم معًا.
الحقيقة أنا، ككاتب، أشعر بالضعف أمام من يطلب كتبى ليقرأها ويناقشنى فيها، وبالفعل ذهبت إليه فى مقر الحزب.
مقر الحزب قريب جدًا من بيتى، شقة واسعة من بناية جديدة، فى موقع متميز فى مدينتنا، عندما دخلت وجدت مكاتب عليها أوراق وإدارة وموظفين خلف المكاتب، وحركة كأنها إحدى إدارات الحكومة، مع أن الوقت كان ليلًا.
قادنى فراش إلى حيث يجلس من دعانى، وجدت مكتبًا كبيرًا وحوله أرائك فخمة وجديدة للجلوس، وكان رئيس الحزب يجلس فى الصدارة على مكتبه، يرتدى بدلةً كاملةً، وعدد كبير من الرجال يتحلقون حوله.
اكتشفت أننى دُعيت مع أربعة من كبار الشخصيات من رجال المدينة، رحب بنا رئيس الحزب، وبدأ يسرد تجربة الحزب، ظل يتكلم طويلًا عن شعبية الحزب وقوته وامتداده على مستوى الجمهورية وعراقة أعضائه.. وكان يستعين ببعض الحاضرين للتدليل على صحة أقواله، وكان الحاضرون ينصتون لخطبته بإمعان شديد، وبعد أن رحب الرجل بنا بدأ يشرح نظام العمل فى الحزب والديمقراطية المتبعة فى اتخاذ القرار.
فاتنى أن أذكر أننى أعرف كل الحاضرين، ومعظمهم من شباب عائلات مدينتنا، أولاد شخصيات لها ماضٍ عريق فى العمل السياسى، منذ الاتحاد الاشتراكى، ومرورًا بحزب الوسط ثم الحزب الوطنى، الحقيقة كان نشاطهم محدودًا ولا يظهر إلا أثناء الانتخابات فى مدينتنا، ولم يتجاوزوه، وبعضهم أولاد عُمد، وأعيان.
كلهم يرتدون الملابس الكاملة من الصوف الثقيل، مع أننا كنا فى وقت الصيف والحر، والمكتب مكيف.
تكلم رئيس الحزب، وكان ينظر ناحيتى دائمًا، وقال إن كل العائلات هنا على قدم المساواة، وإنه كواحد من أبناء تلك العائلات يقف على مسافة واحدة من كل العائلات، وبعد أن انتهى، طلب من مثقفى المدينة أن يبرزوا هذا الجهد الضخم الذى يقوم به الحزب منفردًا فى الساحة السياسية، ثم تحدث مضيفى وطلب أن يسمعنى.
لم أكن جاهزًا للحديث، ولكننى وجدتها فرصة للاستفسار عن ثلاثة أشياء:
أولًا: ميزانية الحزب، من أين ينفق على الحزب وفروعه المنتشرة فى المدن والقرى، فى ظل الإيجارات الباهظة؟.. ثانيًا: ماذا قدّم الحزب لشعب مدينتنا؟.. ثالثًا: القضايا الجماهيرية التى يتبناها الحزب ويلتف حولها.
عندما تناقشنا لم أسمع أى ذكر لأى قضية من القضايا التى تعانى منها مدينتنا.
وقيل لى إنّ رئيس الحزب لا تغمض له عين إلا بعد أن يتأكد أن مصالح الجماهير قد انقضت، وأخبرونى بأنه تم تكليف مجلس المدينة لإصلاح الشوارع، وكأن رئيس المدينة يأتمر بأمرهم!
طلبت أن أتعرف على خطة الحزب لتحقيق الانتشار الجماهيرى فى الأوساط الشعبية والعمال والشباب، فأخبرونى، بافتخار، بأن الحزب متغلغل!
كما طلبت أن يتبنى الحزب مشكلة من المشاكل التى يعانى منها الناس، وهى مشاكل الصرف الصحى، وعدم استواء الشوارع، وقذارة المدينة، والبطالة، وسفر الشباب للعمل فى الشمال، وتكدس أصحاب المعاشات أمام مكاتب البريد فى الشمس والحر الشديد، وأمام البنوك، بطريقة مهينة من الرابعة صباحًا.
كما طلبت الالتفاف حول مشروع قومى ضخم، يخدم شباب المدينة لتوفير فرص عمل للشباب.
بدأ الحاضرون يتململون تحت وطأة الملابس الكاملة والثقيلة فى الحر الشديد، رغم التكييف، وكان الليل قد انتصف، وخرجنا، ولم أعد مرة ثانية.