رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد فؤاد عبدالباقى.. صائم الدهر «1»



لم تقتصر النهضة التى شهدتها مصر فى النصف الأخير من القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين على مجالات الأدب والشعر والصحافة، وإنما تجاوزتها إلى آفاق الفكر الرحيب، وميدان العلم الفسيح، إلى الفقه والقانون والتاريخ والسياسة، وعلوم السُنة، وكان لها فى كل فن أعلامها البارزون ونجومها المتألقون، وأغلب الظن أنه لم يجتمع لمصر مثل هذه الكوكبة اللامعة فى تاريخها الطويل، إذا أخذنا فى الاعتبار قصر الفترة الزمنية التى سطعوا فيها، ويمكن تذكر عشرات الأعلام فى كل فن وتخصص ممن تفخر ببعضهم أى أمة من الأمم إذا انتسبوا إليها، فكيف إذا انتسبوا جميعًا لدولة واحدة. وكان من شأن السُنة أن انتهت علومها إلى نفر من المحدثين البررة، برز منهم اثنان خدما السُنة نشرًا وتحقيقًا وفهرسة: أما أحدهما فهو العالم الجليل والمحدّث النابغة الشيخ أحمد محمد شاكر، الذى انشغل بالسُنة وقضى عمره فى خدمتها، ونشر دواوينها، وأما الآخر فهو محمد فؤاد عبدالباقى الذى دخل مجال الحديث النبوى من باب فهرسة كتبها، وترك آثارًا عظيمة فيها، تدل على صبره وجلده، وتبين دقته فى العمل وإتقانه.
وُلد محمد فؤاد عبدالباقى فى إحدى قرى القليوبية فى مارس ١٨٨٢، ونشأ فى القاهرة، وسافر وهو فى الخامسة من عمره مع أسرته إلى السودان، حيث كان والده يعمل وكيلًا للإدارة المالية بوزارة الحربية، وظل هناك نحو عام ونصف العام التحق أثناءها بمدرسة أسوان الابتدائية، ثم عادت الأسرة إلى القاهرة، واستقرت تمامًا هناك.
التحق محمد فؤاد عبدالباقى بمدرسة عباس الابتدائية، وظل بها حتى بلغ امتحان الشهادة الابتدائية فى سنة ١٨٩٤، لكنه لم يوفق فى الحصول عليها بعد أن رسب القسم الفرنسى كله بالمدرسة، فتركها إلى مدرسة الأمريكان، ودرس بها عامين، ثم تركها أيضًا، وفى سنة ١٨٩٩ عمل بمركز تلا التابع لمحافظة المنوفية مدرسًا للغة العربية فى مدرسة جمعية المساعى المشكورة، وبعد فترة عمل ناظرًا لإحدى المدارس فى قرى الوجه البحرى، وظل فى هذه الوظيفة سنتين ونصف السنة.
لما أعلن البنك الزراعى عن وظيفة مترجم تقدم لها، وعُين بالبنك فى ٣٠ ديسمبر ١٩٠٥، ويبدو أنه وجد ميلًا وارتياحًا إلى وظيفته الجديدة، فعمل بها طويلًا حتى ٣ أكتوبر ١٩٣٣م. هيأ له استقراره فى هذه الوظيفة أن ينصرف إلى القراءة، ومطالعة أمهات كتب الأدب فى العربية والفرنسية، وأن يرتبط بصداقات مع أعلام عصره.
وكان ممن ارتبط بهم محمد فؤاد عبدالباقى بصداقة وتلمذة العالم المحدث محمد رشيد رضا، تلميذ الإمام محمد عبده، وراعى حركة الإصلاح من بعده، وصاحب مجلة «المنار» التى أسدت إلى الفكر الإسلامى خدمات جليلة، وكانت مشعل نور للمسلمين الباحثين عن الهداية والطريق القويم. لازم «محمد فؤاد عبدالباقى» صاحب المنار منذ أن التقى به سنة ١٩٢٢ ولم يفارقه حتى وفاته، ونهل من علمه، وفتح له آفاقًا واسعة فى علوم السُنة، ووجهه كثيرًا حتى وثق به الشيخ، فكان يستعين به فيما يُعرض عليه من مسائل وقضايا، المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوى.
شاء الله أن يقع فى يد الشيخ رشيد رضا النسخة الإنجليزية من كتاب «مفتاح كنوز السنة» لـ«فنسنك» Wensinck أستاذ اللغات الشرقية بجامعة لندن، وهو فهرست معين الباحث فى الوصول إلى مكان الحديث فى مصادره المشهورة، فأعجب به، ورغب فى ترجمته، وعهد بهذه المهمة إلى صديقه محمد فؤاد عبدالباقى، واستغرقت ترجمة هذا العمل خمس سنوات من العمل الجاد حتى أتمه سنة ١٩٣٣ على خير وجه، وكم كانت سعادة العلامتين الشيخ رشيد رضا وأحمد شاكر بإنجاز هذا العمل، وإدراك أهميته، وكان المشتغلون بالحديث يعانون معاناة شديدة فى تخريج الحديث، وربما قلب أحدهم صفحات كتاب من كتب السُنة حتى يعثر على الحديث.
قبل أن يشرع الرجل فى الترجمة كان قد أرسل إلى الدكتور «فنسنك» يطلب منه إذنًا صريحًا بالترجمة باعتباره مؤلف كتاب «مفتاح كنوز السنة» واستجاب له الدكتور «فنسنك»، ولم يكتف بالموافقة فحسب، بل أرسل إليه الفصل الأول من المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوى، فاطلع عليه، ووجد به أخطاء كثيرة، فضمنها كشفًا أرسله إلى الدكتور «فنسنك»، فسُر لذلك وطلب منه «فنسنك» تصحيح «بروفات» المعجم، ومضى فى ذلك إلى آخر حياته. وقد تخطف العلماء هذا المعجم أول ظهوره، حتى إنه كان يباع قبل أكثر من أربعين سنة بخمسة آلاف ريال كما ذكر بعض المشايخ والمعمَّرين، حين كانت الآلاف الخمسة هذه تساوى ثروة كبيرة فعلًا. وقد بقى هذا المعجم- زمنًا طويلًا- الذراع اليمنى لطلاب الحديث النبوى الشريف. وإذا علمنا أن المعجم يقوم به أكثر من أربعين مستشرقًا فى أنحاء العالم، ثم يصحح عملهم ويستدرك عليهم مجتمعين أدركنا قيمة العمل الذى كان يقوم به الرجل، وقد نوه «فنسنك» بمشاركة «عبدالباقى» القيمة فى تقدمته للمجلد الأول من المعجم. «المعجم المفهرس لألفاظ الحديث» يقوم على إيراد الألفاظ الواردة فى الحديث النبوى، وترتيبها على حروف المعجم، مع ذكر عبارة من الحديث الذى وردت فيه الكلمة، فإذا أردت معرفة مصدر الحديث، كشفت عنه عن طريق أحد ألفاظه، فتردك إلى مصدره. الكتاب من الأعمال العظيمة التى خدمت السُنة ويسرت الوصول إلى الحديث، فى وقت لم تكن فيه الأقراص المدمجة التى تحوى عشرات الآلاف من الأحاديث، ونستخدمها الآن فى الوصول إلى معرفة مصدر الحديث.
انطلق «محمد فؤاد عبدالباقى» يخدم السُنة النبوية فى وقت لم تكن تلقى فيه الاهتمام الذى تستحقه، وأبلى بلاءً حسنًا، سواء فيما يتصل بتحقيق أمهاتها أو التأليف فيها، أو تخريج أحاديثها، فقام بشرح وفهرسة صحيح مسلم، وموطأ مالك، وسنن ابن ماجة، وأخرجها على أحسن صورة، دقة وتنظيمًا وتنسيقًا وترقيمًا، بما يتفق مع جلال السُنة، وما تستحقه من عناية، وقد رزق الله تحقيقاته القبول والذيوع بين أهل العلم.
أما مؤلفاته التى خدمت السُنة، فيأتى فى مقدمتها: «اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان»، والمعروف أن أعلى درجات صحة الحديث هو ما اتفق عليه الشيخان البخارى ومسلم، والكتاب ذائع معروف، يجمع ألفين وستة أحاديث مرتبة على أبواب الفقه.. نستكمل الأعمال الجليلة فى المقالة المقبلة.