رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أن ترقص كأنك تصرع الحياة



يقول كزانزاكس، فى روايته زوربا اليونانى «عليك أن ترقص يا سيدى ولا تأبه، فلا بد للموسيقى وأن تنبعث من مكان ما».. من يستطيع أن يستجيب لهذه النصيحة دون أن يمر بمحاكم التفتيش الفيسبوكية، من يستطيع أن يفعل شيئًا دون أن تضيق الدائرة العبثية حتى تخنق رقبته.
شاهدت فيديو السيدة التى ترقص أمام إحدى اللجان الانتخابية، وقد عاب عليها كثيرون ومن كل الاتجاهات أن ترقص.. هناك من قال هذا دليل على انخفاض وعى الناخب المصرى، كيف يتم تحويل العملية الانتخابية الرصينة، خاصة أنها انتخابات مجلس الشيوخ، وهم أهل الحكمة والمشورة، إلى فرح بلدى ورقص مدفوع الكوبونات، وكأن وعى الشعب المصرى بالحياة أو الانتخابات سيهتز مع الحركات الإيقاعية للسيدة، التى أطربت الموسيقى جسدها فتمايلت فى حركات عشوائية أقرب لتمارين الأيروبكس، فى رتابة تكرار إيقاعها وعداتها، والحقيقة أن وعى الشعب المصرى أمر لا يعوّل عليه فى مستقر الأحكام، فهو وحى لحظى خاطف مثل البرق.. يضىء بكثافة وسرعة تباغتك، تدهشك، لكنك لا يمكن أن تجدل منه تيارًا كهربيًا ينير قرية أو مدينة، أى وعىٍ للمصريين هو لحظة بين ديمومتين، وفى كلتيهما ينسحب الفعل وتستقر اللا مبالاة واللا عقل واللا منطق، وعى المصريين ينظف ميدان التحرير فى لحظة سكرة، وفى ديمومته لا يتحمل أن يحمل مخلفات طعامه السريع غير الصحى لأقرب صندوق قمامة.
وهكذا نخرج فى تجمعات كبيرة يوم ٣٠ يونيو لإسقاط حكم المرشد، لكن أفكارنا وأسلوب حياتنا وتقييمنا لا تخرج عن عباءة المرشد وأتباعه، يضاف إليها كم من البذاءة اللغوية قد لا تكون الأكبر فى العالم، لكنها الأكثر استخدامًا عبر منصات التواصل الاجتماعى، والمدهش أنها بذاءة مجانية كأنها فرض عين، مع أنها كانت فرض كفاية فى الخناقات فى الحارات الشعبية.. لا يوجد أى ضابط أو معنى لكمّ السباب الذى يوجهه المعلقون على بوست يختلفون معه، لا تراتبية، ولا مقام، لا تلمس سوى التباهى بقلة الأدب.. والمضحك المبكى أن تجد أتباع صفحات شيوخ اليوتيوب هم الأكثر خوضًا فى بحار البذاءة والحجة الدفاع عن الإسلام.. والدفاع عن رأى شيخهم، ويزيد من تصاعد وتيرة السباب أن الشيخ لا يتدخل ولا يعلق برفض هذا الشجار أو السباب، أو حتى يغلق التعليقات المسيئة للإنسانية، بل يترك القرود تتراقص، تتقافز ومع حركاتها العشوائية يتصاعد مؤشر حساباتهم الفيسبوكية واليوتيوبية، وتتم ترجمتها إلى شهادات وشيكات بنكية.. ومن أجل الدولار يختارون ما هو محل خلاف، ما هو شاذ، غريب، كى يزداد الإقبال على خيمة السيرك.
وهناك من قال كيف ترقص سيدة هكذا وتخلع الخمار وتتخذه رابطًا لوسطها لضبط إيقاع حركاتها وإبرازها.. ما هذه الخلاعة؟ الموسيقى حرام، الرقص حرام، والحقيقة أنا لم يدهشنى رقص السيدة الذى بدا لى كأنه جزء من حلقة زار، فحركاتها العنيفة لم تكن بها ميوعة أو تحليق أو إغواء بل كانت هبدًا، خبطًا، حركات عنيفة متمردة تتحرك وسط بنات وسيدات يشجعنها على مزيد من الصراخ الوحشى لأجساد مثقلة مصلوبة وأرواح محبوسة فى القمقم اليومى والمعيشى المعتاد، ومع تصاعد إيقاع «تسلم الأيادى» يتصاعد الدق بأكف ثقيلة على الطلسم لعله ينفك، لعله ينهار وتفيض الروح بمواجعها، خلعت السيدة خمارها كطقس من الانفتاح، تحرير الجسد والروح، ولا يكتمل هذا الطقس سوى بالبكاء الحار المر المتشنج والباعث على مزيد من الأسى، مزيد من الاغتراب، مزيد من الوحدة، والدال على عمق الانفصال عن كينونة وماهية الإنسان، ربما لا تعرف السيدة معنى رقصها، ربما تلجلجت أمام من جلدوها بسياط الحرام والعيب واللا وعى، وسواء كان الرقص تطوعًا أو مدفوع الكوبونات.. ستبقى الانتخابات فى بلدى مولدًا كبيرًا، يجد فيه كل غاو مبتغاه.