رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هل هو انفجار أم هجوم؟


للوهلة الأولى؛ بعد زلزال انفجار مرفأ بيروت، بدت العاصمة اللبنانية المنكوبة ليست وحدها التى تقف على أعتاب محطة جديدة من المحطات التاريخية الفارقة، بل يتشارك معها المشرق العربى بكامله، وليست مبالغة ان امتدت تلك الوقفة لتشمل دوائر الارتباط الأوسع المشدودة إلى مركز التفجير. هذه الدوائر تشمل دول القلب العربى وفيها مصر والسعودية ودول أخرى، تعد لبنان بالنسبة لها صيغة ارتباط على مستويات متعددة، منها الوجدانى كالثقافة والنشر والفكر والفن، وآخر له علاقة بصراع المحاور ومساحات النفوذ والذى نبت مع الحرب الأهلية اللبنانية، ولم يخفت حتى الآن بل دخلت عليه منذ عام ٢٠١١ الفارق، متغيرات جديدة نقلت طابعه الصراعى إلى مناطق أبعد وأعمق خاصة بعد ما جرى فى فصول المآساة السورية.
لبنان البلد الصغير، الذى ظل طوال تاريخه منذ التأسيس يعد رقما مهما فى معادلة توازن المشرق العربى، استيقظ مع اندلاع الأزمة السورية ليجد مكون كبير من مكوناته الرئيسية، وقد انخرط فى سوريا بأكبر مما تتحمله هشاشة الوضع الداخلى الذى كان سائدا عشية تلك الأزمة. ومع التمدد الزمنى للأزمة وتعقدها ازداد الوضع هشاشة حيث بدت فيه لبنان وكأنها تسير على زجاج رقيق شفاف، ينتظر «لحظة سعال» واحدة جرت بالفعل منذ عامين حين اندلع الحراك الشعبى، الذى وجد حوائط الزجاج من حوله لا تستر «عورة» ولا تسمح بمزيد من الحياة الاصطناعية، التى باتت لا تقنع أحد ولا تسمن أو تغنى من فساد كامل بدأ بالاقتصادى وامتد للسياسى والأمنى، فقد كان الزجاج فعليا كاشفا لما آلت إليه الدولة ككيان تحت وطأة صراع المحاور واضطراب الإقليم. فقد بدا المشهد وهو يتشكل ليعيد بيروت مرة أخرى كى توظف كساحة حرب «تحتية» لتصفية حسابات القوى الإقليمية المختلفة، ولتبدأ فى تسديد الفواتير الجديدة من حياة ودماء أبنائها،لذلك نجدنا اليوم لسنا فقط أمام انفجار فى «مرفأ» هشم مبانى ومنازل بيروت، بل أمام انفجار طال البنية الحياتية والسياسية للبنان قبل مكونات بنيتها التحتية.
رئيس الحكومة اللبنانى حسان دياب أعلن أن (٢٧٥٠ طن) من «نيترات الأمونيوم» موجودة فى مستودع فى مرفأ بيروت تسببت بالانفجار الضخم، بعدها قال الرئيس الأمريكى أن خبراء عسكريين أبلغوه بأن انفجار بيروت ناتج عن «قنبلة ما»، وأضاف أن المعلومات المتوافره لديه أن هذا نوعا من أنواع «الانفجار التصنيعى». فى حين جاءت التحقيقات الأولية؛ لتشير إلى أن سنوات من التراخى والإهمال هى السبب فى تخزين مادة شديدة الانفجار فى ميناء بيروت، مما أدى إلى الإنفجار المروع، وأن مسألة سلامة التخزين عرضت أكثر من مرة على عدة لجان وقضاة لإصدار أمر بنقل هذه المادة شديدة القابلية للاشتعال، أو التخلص منها، لكن من دون أن يصدر قرار واحد بشأنها. هذا ربما أصبح الآن من الماضى، حيث يشكل هول الحاضر أبعاد أكثر سطوة على الذهن والتفكير فيما هو قادم، فصباح اليوم التالى للانفجار كشف عن ضحايا يتجاوز عددهم ١٠٠ شخص ومرشحين بقوه للزيادة كل لحظة، والمصابين تجاوزوا الأربعة آلاف جريح فى مشافى تكدست على سعتها القصوى، فى وقت يقف الجميع مشلولا أمام الرقم الصادم المتمثل فيما بين ٢٥٠ ألف إلى ٣٠٠ ألف شخص، باتوا من دون منازل فى عداد «المشردين» بكل ما تحملة عمق مأساة حروف الكلمة من توصيف.
على صعيد المشهد الأمنى بلبنان، يظل السؤال المعلق الذى لن يفصح عن اجابته سريعا بالتأكيد، هو هل ما جرى «انفجار أم هجوم» ؟ فأول ما تبادر لذهن اللبنانيين أن تفجيرات الثلاثاء، جاءت قبل يومين من إصدار المحكمة الخاصة بلبنان حكمها النهائى فى قضية اغتيال رئيس الوزراء الأسبق «رفيق الحريرى» عام ٢٠٠٥، بل واستحضرت الذاكرة الجمعية اللبنانية أن مشهد المرفأ قريب الصلة إلى حد كبير، بمشهد الاغتيال الدامى الذى أدخل لبنان هو الآخر إلى حقبة «ما بعده»، والحاضرة والجاثمة حتى اليوم على الوضع اللبنانى بقوة وبتفاصيل كثيرة. فهذا الخراب المروع الذى خلفه تفجير المرفأ على مسافة أربعة كيلومترات من مركزه، لن يقف عند حدود الخسائر المادية الفادحة بقدر ما سيضرب الجميع بشظايا الزجاج المتطاير فى كل مكان، فلا أحد يتصور ـ وهو أمر مبكر ـ أنه سيعود على ما كان الأمر عليه قبل التفجير، تماما كما حدث مع تفجير اغتيال الحريرى الذى تشابه فى المشهد والمعنى.
كان لافتا بصورة كبيرة، قبل أن يوغل ليل بيروت فى ظلامه الحزين، أن انتشر مقطع فيديو قديم على وسائل التواصل الاجتماعى لزعيم جماعة «حزب الله» اللبنانية حسن نصرالله، يلوح فيه بإمكانية تفجير (حاويات الأمونيا) فى ميناء حيفا بإسرائيل. ويعود تاريخ الفيديو المتداول إلى فبراير من العام ٢٠١٦، وهو جزء من كلمة لنصر الله بعنوان «مقاومة لا تهزم» جاءت بمناسبة إحياء «حزب الله» للذكرى السنوية لما أسماهم بالقادة الشهداء، هذا الجزء من الكلمة يتحدث فيه عن «قوة الردع» التى بات يمتلكها «حزب الله» فى مواجهة إسرائيل، حيث اتخذت سلطاتها آنذاك بعدها خطوات عاجلة لإخلاء مخازن ميناء حيفا من الأمونيا. فهل كان انتشار الفيديو واستحضاره اتهام مبطن لمن تداوله موجه لـ»حزب الله»، باعتبار أنه الوحيد الآن المعنى بتوجيه «رسالة ردع» للداخل اللبنانى، مفادها أن حكم محكمة «الحريرى» فى حال نفاذه بحق أعضاءه، سيكون المقابل تدمير لبنان من الداخل.
بدا أن من قام بالتخطيط لانفاذ تلك الرسالة، وضع فى حسبانه أن شحنة قديمة متروكة فى الميناء يمكنها أن تفى بغرض الايهام بتفجرها ذاتيا، والمراهنة على أن اللبنانيين وغيرهم سيلتقطوا الرسالة بالتأكيد ويفككوا شفرتها سريعا. لكن ما لم يكن فى حساب المخطط ومن جمع المعلومات عن تلك الشحنة، أن المشهد قد يخرج عن السيطرة على هذا النحو، وأن تدميرا أقرب للمشهد النووى سيطيح بدائرة كبيرة ويدمرها بتلك الصورة التى لم يكن مقصودا أن تتوسع بتلك الكيفية. هذه الفرضية وهذا الاتهام؛ يعززه ليس فقط تاريخ «حزب الله» ومن يقف خلفه فى إيران وسورية، وخبرتهم ونهجهم فى هذا النوع من الخطابات العنيفة المدمرة لحظة انغلاق المشهد على أى منهم. إنما أيضا بدأ المحققون يبحثون ـ على الأقل ـ من المقاطع المصورة التى نقلت اللحظات الواقعية، حيث بدا التفجير الأول هو المقصود من العملية المدبرة والذى زرع فيه ما هو كفيل باشعاله وتفجيره، حيث ستظل الخسائر فى موقعه دون أن تمتد بعيدا، كما حدث لاحقا فى التفجير الأكبر الذى صاحبته الموجه الانفجارية الأعنف التى بدت مثل «التفجير النووى»، والتى تسببت فى هذه الخلخلة الكبيرة التى لم يضعها المنفذ فى حساباته أن تضرب فضاء بيروت، على هذا النحو الذى جعل المشهد أقرب لزلزال سجلته المراصد على درجات تجاوزت ٣ على مؤشر الزلازل. سيبقى السؤال طويلا عن صانع الزلزال، من أمر ومن لم يدرك أبعاد إنفاذ رسالة بهذا القدر الذى لم يتحسب له، ومن علم مسبقا وصمت مراهنا على أن ينجو هو بمستقبله المهدد، ومن ألح لانفاذ الأمر قبل صدور حكم المحكمة حتى لا يبدو الأمر كرد فعل سيشير مباشرة لفاعله، ومن يرى أن اصاباته ومحاصرته بالخارج تحتاج لأن ينفس عنها فى الساحة اللبنانية التى لاطالما استخدمها للفكاك من أزماته الخانقة. فى كل الأحوال؛ ستظل الاجابات معلقة خاصة وهى تطرح بعد ساعات معدودة من التفجيرات، لكن أمر قد يبدو أكثر أهمية، أن انفلات الأمر على هذا النحو قد يجعل تلك المراهنات والمخططات هى من فعل الماضى الذى ولى بحساباته، فاليوم هناك مشهد جديد على أعتاب التشكل قد تكون حسابات الخسائر بأقرب مما ظن المنفذون أن هناك ثمة أرباح قد تبدو تحت الركام أو خلفه.