رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نهال كمال تتذكر «1»: حياتى مع الأبنودى

الأبنودى ونهال كمال
الأبنودى ونهال كمال

خلال عملى بالتليفزيون كنت حريصة على أن يكون عملى فى الجانب الثقافى والأدبى والفنى، لذلك تقدمت بفكرة برنامج عن الشِّعر تظهر فيه أجيال مختلفة من الشعراء، واخترت حلقة شعر العامِّيّة الذى يلقى صدى كبيرًا عند الشباب، وحين طرحت الأسماء على رئيسى فى تلك الفترة وذكرت اسم الأبنودى استغرب قائلًا: واشمعنى الأبنودى؟!
فقلت له: إنه شاعر كبير وله جمهور والناس بتحبه.
فقال: عمومًا هو مش مستحب قوى ظهوره؛ لكن إذا كان الكلام فى إطار الشِّعر فقط فلا مانع.
كانت هذه هى الصدمة الأولى فى بداية عملى بالتليفزيون والتى عرفت من خلالها أن هناك ضيوفًا مرغوبًا فيهم وآخرين غير مرغوب بظهورهم، وطبعًا يُفهم ذلك بشكل ضمنى ولا توجد قائمة مكتوبة بأسماء هؤلاء الشخصيات الذين لهم اتجاهات معارضة لسياسة الدولة.
سعدت جدًّا بحصولى على موافقة للتسجيل مع الأبنودى فسارعت إلى الاتصال به «قبل أن يغيّر رئيسى رأيه»، ولما عرضتُ عليه فكرة البرنامج رحَّب جدًّا، خصوصًا أنه كان دائمًا متحمسًا للشباب، وقال لى ضاحكًا:
يعنى خلاص هطلع فى التليفزيون بتاعكم؟
فأجبته: وليه لأ؟ وبعدين إحنا هنتكلم فى الشعر.
فقال متنهدًا: ماشى.
ولم يزد، فكأنه فهم ضمنًا أن الظهور سيكون بعيدًا عن الكلام فى السياسة، وحمدت الله أنه فهم الأمر سريعًا وتفهم الموقف بشكل أثار دهشتى!
كان موضوع الحلقة الأولى لى مع عبدالرحمن الأبنودى عن الشعر والشعراء الشبان وقد أطلعته على بعض الأعمال الشعرية ليقول رأيه فيها، وأذكر أنه كان دبلوماسيًّا جدًّا فى الرد، فإذا لم يعجبه الشعر كان يقول: «حاول أن تقرأ أكثر» من دون أن يحبط أو يجرح الشاعر الشاب.
ولاقت هذه الحلقة صدى طيبًا، و«عدّت على خير»، ولم تسبب لى أى مشكلات فى جهة العمل. وأذكر أنه قبل تسجيل البرنامج تطرقت معه إلى الحديث عن الشعراء فى مصر والعالم، وحين ذكر الشاعر الألمانى بريخت أبديت إعجابى الشديد به، خصوصًا بعد قراءتى لمسرحيته الشهيرة «الأم الشجاعة»، فما كان منه إلا أن أعطانى عملًا لبريخت، وقال: «بس تبقى ترجعى الكتاب، لأنى ماعنديش منه نسخة تانية».
هكذا كان الأبنودى فى بداية معرفتى به ودودًا ومعطاءً مع كل الناس، ولا يبخل بالنصيحة، وكانت لديه قدرة مدهشة على عقد صداقات مع أى إنسان يلتقيه فى وقت قياسى لا يتجاوز دقائق معدودة.
بهذه السمات الإنسانية النادرة التى يتحلى بها كابن من أبناء الجنوب يحمل قيمه وأصالته، نشأ نوع من الصداقة بينى وبين الأبنودى، الذى عددته منذ ذلك الحين «أستاذًا» لى أتعلم منه، وأستشيره فى أمور حياتى وأستعير من مكتبته وأراها كتبًا مهمة لا بد أن تُقرأ مثل: فجر الضمير، وبونابرت فى مصر، ورواية كافكا، وأعمال الشعراء، مثل ناظم حكمت وبابلوا نيرودا، وغيرهما من الشعراء والكُتّاب الذين أضافوا إلىَّ ذخرًا جديدًا من الثقافة والمعرفة.

استمرت هذه الصداقة بعد هذا الحوار التليفزيونى لسنوات، لم نلتقِ فيها كثيرًا ولكن كنت فى بعض الأحيان أسأله عن أمور تخص الأغانى، التى كتبها أو أحضر أمسيات له يدعونى إليها، وكان بعض الزملاء فى التليفزيون فى ذلك الوقت ينصحوننى بعدم الذهاب إلى تلك الأمسيات التى غالبًا ما تُلقى فيها قصائد تهاجم بشدة الأوضاع السياسية فى مطلع الثمانينيات، وكانوا يقولون لى: «لا تذهبى حتى لا تُحسبى على أنك موالية لاتجاه يعادى الدولة وأنتِ تعملين فى الإعلام الرسمى».
كنت أسخر من هذه التخوفات والتحذيرات ولا ألقى لها اعتبارًا، وأرى أنه من حقى أن أمارس حريتى الشخصية فى الذهاب إلى أى مكان وليس لأحد وصاية علىَّ. وعلى الجانب الآخر، وأنا فى غمرة طموحاتى التليفزيونية والتى كنت حريصة على أن أحقق فيها ذاتى، كانت أسرتى وخصوصًا والدتى قلقة على حياتى الشخصية، كأى أمٍّ تودّ أن تفرح بابنتها. وفى هذه الفترة تقدم لى أحد أبناء أصدقاء العائلة، وكان والده زميلًا لوالدى، فكان مهندسًا يعمل فى إحدى الدول العربية وأمامه مستقبل باهر وفيه كل المواصفات التى تتمناها لى أسرتى من الناحية العملية والخُلقية.
وقد كنت مترددة فى الأمر، فقررت أن ألجأ للأبنودى كأحد الأصدقاء الذين أثق برأيهم وأحترم تفكيرهم لاستشارته فى مسألة العريس، فقال لى: «على بركة الله، ربنا يوفقك، واضح إنه شاب كويس».
وبالفعل قرأت فتحتى، وفى تلك الفترة سافر عبدالرحمن إلى روسيا لعلاج آلام الرقبة وانقطع الاتصال بيننا طوال فترة سفره.
وحين عاد من تلك الرحلة عاتبته على عدم الاتصال طوال هذه الفترة فاستغرب اهتمامى به، وقال: إنتى بتسألى عليّا بجد ولّا من دوكها؟!
وأنا بالطبع لم أكن أفهم معنى «دوكها» فردّيت: «من دوكها»!.

بعد عودة الأبنودى من رحلته العلاجية بيالطا فى روسيا وانزعاجى لعدم اتصاله لفترة طويلة، فاجأنى بأن والدته «الحاجّة فاطنة قنديل» جاءت لزيارته بالقاهرة، وستمكث لعدة أيام فسارعت بقولى: «نفسى أشوفها، عاوزه أشوف الست اللى عملت عبدالرحمن الأبنودى واللى مابتبطلش كلام عنها فى كل مكان».
قال لى: «خلاص تعالى نتغدى سوا وهاعملّك بطّة من اللى جابتهم أمى معاها من البلد». واتفقنا على موعد اللقاء وقلت له إننى سأحضر معى صور «خطوبتى».
ذهبت فى الموعد ووجدت «الحاجّة فاطنة» فى انتظارى ولم أجد عبدالرحمن، فقلت فى نفسى قد تكون هناك أسباب أخّرته عن المجىء وسوف يأتى بعد قليل.
استقبلتنى «الحاجّة فاطنة» بحفاوة بالغة وترحيب شديد كأنها تعرفنى منذ زمن طويل، وأخذت تسألنى عن أهلى وإخوتى وحكت لى عن أسرتها وعن ابنتها سعاد التى توفيت فى سن صغيرة وكانت مرتبطة بها جدًّا، وابنتها الأخرى «فاطنة»، التى تعيش فى الإسماعيلية مع زوجها وأولادها، ثم انتقلت بالحديث عن الصعيد والطيور التى تربيها ولا تحب أن تتركها كثيرًا لأنها تقلق كثيرًا على طيورها. وقد علمت فى ما بعد من عبدالرحمن أن الطيور بالنسبة إلى المرأة الصعيدية من أساسيات الحياة.
امتدت جلستى مع الحاجة لفترة طويلة تبادلنا فيها أحاديث مختلفة، وشعرت معها بأُلفة شديدة، وأطلعتها على صور «الفاتحة»، التى كنت أحملها، ودعت لى بالخير والبركة.
أحسست أننى لا بد أن أنصرف، ورغم عدم حضور عبدالرحمن، فإننى لم أشعر بمرور الوقت؛ خصوصًا أن «الحاجّة فاطنة» حديثها ممتع جدًّا وتمتلك روح دعابة عالية مثل ابنها وتتمتع بشخصية قوية واثقة تغلّفها طيبة وحنان، وهى مضيافة إلى أبعد الحدود.
فى اليوم التالى اتصل بى عبدالرحمن يعتذر وقال لى:
«أنا آسف جدًّا، كان عندى شغل فى الاستديو مع عمار الشريعى، إحنا بنعمل مسلسل (المُعذّبون فى الأرض) مع بعض وبنسجّل أغنياته».
وكان يراه من أجمل المسلسلات، التى كتب أغانيها، وكان دائمًا يردد مقطعًا منها:
«أمى ولو مالت عليّا الحيطان»
ثم قال لى: إيه الأخبار؟ قعدتى بقى مع «فاطنة قنديل»؟ وإيه رأيك؟
فقلت له: رأيى إيه! دى ست عظيمة، أنا عرفت إنت جبت الدرر دى كلها منين وعرفت المنجم اللى إنت بتغرف منه كلامك وأشعارك وأغانيك، عمومًا أنا حبّيتها جدًّا وماحستش معاها بأى غُربة وقضّينا وقت طيب.
سكت قليلًا ثم قال: عمومًا هى كمان حبّتك، وقالت عنك كلام كويس بس هروّحها..
فاستغربت جدًّا وسألته عن السبب، فرفض أن يقول لى فى البداية، ولكن عندما أصررت على أن أعرف قال لى: قعدت تقول عنك دى جوهرة، دى مليحة، وفى الآخر قالتلى خدها يا ولدى.
فقولت لها: إيه يامه دى بنتى وبعدين دول ناسها غيرنا وإحنا حاجة وهمّا حاجة وبطّلى الكلام دا لحسن أروّحك.
فقالت لى مصرّة على رأيها: مافيش فى الجواز كبير وصغير، أنا لما اتجوّزت أبوك كان طويل قد النخلة، وأنا بنت ١١ سنة وخلّفتكم كلكم.
فحذّرتُها مرة ثانية وقلت لها: هروحّك، فقالت: بكرة تقول فاطنة قالت... هى دى أم عيالك.
طبعًا الجزء الأخير من الحديث لم يحكه لى عبدالرحمن وقتها وقاله فى ما بعد، أما بالنسبة لى فقد صمت صمتًا تامًّا ولم أجب وأنهيت المكالمة بشكل سريع.

بعد أن باغتنى عبدالرحمن بفكرة الزواج التى اقترحتها «فاطنة قنديل» بكل بساطة، أترك عبدالرحمن ليحكى القصة؛ فقدرته على الحكى تفوق كثيرًا ما يمكن أن أقوله عن هذا الموضوع الذى جعلنى أخوض معارك كثيرة، سواء على المستوى الأسرى أو على المستوى المهنى.
يقول عبدالرحمن:
«فاطنة قنديل هى التى رأت نهال كمال واقترحتها لى زوجة من بين صديقات كثيرات، وقد رأت فيها ما لم أره أو تره نهال؛ فلم أكن على الإطلاق أتخيل يومًا أنظر فيه إلى نهال كزوجة إنما كانت ابنتى وتلميذتى، ولقد جزعنا- أنا ونهال- جدًّا من تلك الفكرة التى أطلقتها الأم بعفوية وتشاجرت معها بسببها، وقررت أن أعيدها إلى صعيدها غصبًا، فأقسمتْ لى أن هذه هى (أم عيالى)، وذلك بمجرد أن قابلت نهال وانفردت بها عرفت شخصيتها وقضت معها وقتًا طويلًا من دونى.
ولقد واجهتها بحقيقة مشاعرى نحو نهال وأننى أنظر إليها كابنتى، فقالت بنفس العفوية والتصميم: لقد تزوجت والدك الشيخ الأبنودى وكان طويلًا كالنخلة وأنا بنت ١١ سنة، وأنجبتكم، وها أنتم حولى الآن.
ومن غرائب الأمور أن هذا الحوار العبثى جعلنا أنا ونهال نعيد اكتشاف أنفسنا ويعيد كل منّا النظر إلى الآخر، ولقد رحلت أمى إلى صعيدها وبعدها بنحو شهرين كنت هناك ومعى نهال بصفتها زوجتى!».