رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نهال كمال تتذكر «6»: كيف مات «الخال»؟

الأبنودى
الأبنودى


فى صباح يوم الأربعاء الخامس عشر من أبريل «نيسان» عام ٢٠١٥، فجأة ودون سابق إنذار، سمعت صوت صراخ عبدالرحمن وهو يقول: «أنا عايز أروح المستشفى دلوقتى.. أنا باموت».
أصابتنى حالة من الهلع، وشعرت بالعجز، وتسمّرت فى مكانى، ولم أعد أعرف ما يجب أن أفعله، قدمى لم تعد تطيعنى، صرخات عبدالرحمن تزداد.
حضر مساعده «محمود» مسرعًا، وساعده فى ارتداء ملابسه، وخلال عشر دقائق كان عبدالرحمن قد اتجه نحو السيارة، وكان «عبده الحرامى»- السائق- فى انتظاره، وبينما أنا أجهّز الحقائب، صاح عبدالرحمن بمحمود غاضبًا: «ادخل للمدام قول لها أنا باموت».
وفى تلك اللحظة شعرت بالدوار، وتسارعت نبضات قلبى، وزاد ارتباكى، وصرت عاجزة عن التصرف، ولكنى تماسكت قليلًا ولحقت به بعد أن ارتديت ملابسى، وقمت بتجهيز حقيبتى وحقيبته، وعندما خرجت له صاح: «مش ممكن كده.. أنا باقولك إنى باموت»، فرددت عليه بهدوء العاجز: «معلش خلاص أنا جيت»، وجلست بجواره فى المقعد الخلفى من السيارة.
وتحركنا بالسيارة من الإسماعيلية فى اتجاهنا إلى مستشفى «الجلاء العسكرى» بالقاهرة، وأنا أتخيل فى كل لحظة أنه سيموت الآن، فأدعو الله ألا يخرج السر الإلهى الآن، وطلبت من عبدالرحمن أن نستدعى سيارة إسعاف على الطريق لتقدم له الدعم الطبى والإسعافات اللازمة حتى نصل، لأن الطريق ما زال طويلًا، لكنه رفض بشدة.
ولم أكفّ عن مواصلة الإلحاح عليه بضرورة إحضار سيارة الإسعاف، فقد بدا عليه أنه يعانى من نزيف داخلى، لكنه واصل الرفض، كصعيدى لم يغادر أبنود.
كانت هذه أصعب لحظات حياتى، وأصعب شعور أحسست به منذ زواجنا، رغم أننا مررنا بمواقف صعبة كثيرة ولحظات شعرنا فيها بأنه الفراق، لكن هذه المرة كانت مختلفة، وأكثر إيلامًا، فعينا عبدالرحمن تقول إن النهاية قد اقتربت، ومرت ساعات السفر ببطء طفل قد تعلم الحبو لتوّه، الدقائق لا تريد أن تمر، كأننا قد أتينا من أسوان إلى القاهرة لا من الإسماعيلية.
ووصلنا إلى المستشفى، واكتشفنا أن محمود لم يُحضر حقيبة عبدالرحمن معه، فأصررت على إحضارها، ومن العجيب أن هذه الحقيبة لم تُستخدم قط.
ودخل عبدالرحمن غرفته، وقد فقد تركيزه تمامًا، وحضرت آية ونور، وعندما رآهما بدأ يتحدث معنا بعبارات غير مفهومة، فمثلًا يتصل بمحمود ويقول له: «حضر البطاطس وصينية المسقعة علشان الغدا... إحنا جايين»!
كانت هذه عاداته ونحن فى بيتنا الريفى بالإسماعيلية، فقد اعتاد أن يشرف بنفسه على تحضير الغداء لآية ونور عندما يعلم بحضورهما.
لكنه فى تلك اللحظات لم يكن يرانا، نتحدث إليه ولا يرد، لكننى حاولت تهدئة البنتين وأخبرتهما بأن هذه الحالة تكررت كثيرًا وأنه سيكون بخير، وغادرتا المستشفى على هذا الأمل.
وبعد أن ذهبت «آية ونور» ظل عبدالرحمن ينادى عليهما طوال الليل، ويسأل عنهما، ويقول لى: «ليه خلتيهم يمشوا.. أنا كنت عايزهم يستنّوا»، قلت له: «إنهما ستأتيان له صباح الغد لأنه لا يوجد مكان لهما لتبيتا فيه».
وتذكرت فى تلك الليلة ما جرى فى عام ٢٠٠٨ عندما مرض بشدة، وأرسل له صديقه الشاعر الأمير عبدالرحمن بن مساعد طائرة خاصة لتلقى العلاج فى باريس، ويومها رفض عبدالرحمن أن أكون بصحبته فى هذه الرحلة، وطلب منى أن أبقى مع البنات، وقال لى: «أنا أهم حاجة عندى البنات»، وقد عاتبنى فى هذا الأستاذ محمد حسنين هيكل بسبب عدم سفرى معه، فرددت عليه: «هو اللى أصرّ، وده راجل صعيدى.. أنا مقدرش أكسّر أوامره».
ووصل إلى باريس وجسمه أزرق اللون، وبدا أنه فى النزع الأخير؛ وذلك بسبب أن طاقم الطائرة نسى أن يحضر أنبوبة أكسجين ليتنفس من خلالها.
ومرت تلك الليلة العصيبة فى مستشفى «الجلاء»، وفى صباح اليوم التالى «يوم الخميس» لم تعد هناك أى استجابة من عبدالرحمن للأدوية، وصار المخ لا يلتقط الإشارات، ولم يعد يرى أحدًا، وبدأ لا يتكلم مطلقًا، وعينه ثابتة لا تتحرك.
فقام الأطباء بعمل أشعة على المخ، واكتشفوا أنه يعانى من نزيف داخلى فى المخ.
وفجأة... نادى علىَّ الأطباء يسألون: «مين نونى؟».
فقلت لهم: «أنا».
فقالوا لى: «بينادى على نونى» وهو فى الغيبوبة.
فدخلت إليه، ووقفت بجواره، وقال لى الأطباء: لازم نعمل عملية فى المخ دلوقتى.. فقلت لهم: صعب يتحملها... فقالوا لى: مافيش اختيار تانى.
كان لا بد أن أتخذ قرارًا فوريًّا، فالدقيقة لها حساب، لكنى كنت فى أعلى درجات القلق والخوف؛ فاتصلت بأخى ورويت له ما حدث، فقال لى: «توكلى على الله.. ماعندناش خيار تانى».
كلما تذكرت تلك اللحظات العصيبة أقول سبحان من ألهمنى الصبر فى تلك اللحظات «أى ست تانية كان ممكن يغمى عليها»، لكن لم يعد هنا مفرّ من اتخاذ القرار الصعب.
أخذتُ القرار.. ودخل العمليات.. لم يفارقه التنفس الصناعى.. وصدرت تعليمات من إدارة المستشفى أنه من حقى أن أدخل غرفته فى الرعاية فى أى وقت أشاء، وكنت فى غالبية الوقت أجلس بجواره أقرأ له بعض آيات من القرآن.
ومر يوما الجمعة والسبت دون جديد، فـعبدالرحمن لا يفيق من الغيبوبة، ولم يعد مسموحًا لأحد سواى بأن يدخل إليه.
وفى صباح يوم الأحد جاءت لى خاطرة، وهى أنه وهو فى الغيبوبة يمكن أن يسمعنى ولو بقلبه، فجلست بجواره وهمست فى أذنه: «يا عبدالرحمن، إنت سامعنى؟ لو سامعنى إمسك إيدى»!
وفجأة.. أمسك عبدالرحمن بيدى حتى كادت أظافره تحفر طريقًا داخل يدى.. فقلت له مبتسمة: «خلاص.. خلاص.. أنا كده اطّمنت عليك».
شعرت بأنه يشعر بى، فانتفض قلبى فرحًا رغم أنه كان ينفطر ألمًا فى الوقت ذاته.
ومر يوم الإثنين دون جديد يُذكر، فقط ذهبت من السابعة والنصف صباحًا لأجلس إلى جواره وأقرأ له القرآن.
وجاء يوم الثلاثاء.. اليوم الأخير.. واستيقظت من نومى، وظللت فى غرفتى أقرأ له القرآن، وأنا صائمة، وذهبت إلى غرفته فى التاسعة صباحًا متأخرة عن موعدى الثابت فى الثامنة، وقالت لى الممرضة: «إنتى اتأخرتى ليه النهارده.. ده قلبه توقف.. ولكنّ الله سلّم... عاد النبض من جديد».
كنت حينها أطيل فى صلاتى لأدعو له؛ لأنى «مركونة على ربنا».. ربنا سندى، وكنت أتذكر عبدالرحمن وهو يقول لى: «أنا بأحس بالأمان وإنتى حواليّا... مش عايزك تغيبى عن عينى لحظة»، وكان يغضب منى لمجرد أن أكون فى غرفة أخرى.
وأمسكت براديو صغير كان عبدالرحمن يُصرّ على أن يصطحبه معه إلى المستشفى رغم أننا لم نستخدمه مطلقًا، لكنى قررت أن أستمع إليه؛ وأضعه بجوار رأسه، وبمجرد أن فتحت الراديو خرج صوت المذيع يقول: «ما لعبدى المؤمن عندى جزاء إذا قبضت صفيّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة».
شعرت بأنها علامة؛ فأغلقت الراديو فور انتهاء الحديث الشريف، وأمسكت بالتليفون، واتصلت بابنتىَّ «آية ونور» وطلبت منهما أن تحضرا إلى المستشفى فورًا، رغم أنى لم أسمح لهما بالمجىء طوال الأيام السابقة حتى لا تنهارا؛ لكنى شعرت بأنه لا بد أن تحضرا الآن وإلا لن تسامحانى إن حدث شىء- لا قدر الله.
وفى وقت صلاة الظهر جاءت «آية» ومعها «نور» ولم أخبرهما بما حدث؛ وقد حضرتا مرتديتين ملابس سوداء لأول مرة فى حياتهما، ودخلتا إلى أبيهما، وسلمتا عليه، وقبّلتا رأسه، وشعرتا بأن وجهه صار مضيئًا، وقد خلا من الهمّ، وبمجرد أن خرجتا من غرفة العناية المركزة فاضت روح عبدالرحمن إلى بارئها.
كأن روحه كانت معلّقة فى انتظارهما.
وتجمدت الدموع فى عينىَّ.. فلم أبكِ عليه رغم أن قلبى كان ينفطر حزنًا عليه، وشعرت بأن كل جوارحى تبكيه إلا عينىَّ، بدوت متماسكة بصورة لم أكن أتصورها؛ فكنت الوحيدة التى تقول: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون»، وشعرت بأنه قد نزلت علىَّ رحمة من عند الله.. لم أنهر، بل حاولت تهدئة «آية ونور».
وفى تلك الأثناء وجدت مدير المستشفى يعطينى هاتفه ويقول لى: «الرئيس عبدالفتاح السيسى على التليفون... عايز يعزّيكى».
وتذكرت كل ما قاله لى عبدالرحمن، ووصيته بأن أرد على الهاتف، فأمسكت بالتليفون ورددت على الرئيس كأنى إنسان آلى، وقال لى: «البقاء لله.. ده ابن مصر.. العزاء القوات المسلحة هى اللى هتعمله»... وشكرته على رعاية عبدالرحمن فى أيامه الأخيرة، فردّ علىَّ قائلًا: «مصر هى اللى بتعمله... مش إحنا».
وحضرت السيارة، التى ستقلّه إلى الإسماعيلية ليُدفن هناك- كما أوصانى- وركبت سيارة أخى وسرنا خلف سيارة الإسعاف التى تحمل جثمان عبدالرحمن، لا أعلم كيف تركته يركب السيارة وحده، لكن هذا ما حدث.
ظللت شاردة طوال الطريق، أتذكر كلماته، وآنس بصورته المعلقة على جدران قلبى.
ووصلنا إلى بيتنا بقرية الضبعية، وأصررت على تنفيذ وصية عبدالرحمن بحذافيرها، فالبعض أراد أن يغسّله، ورفضتُ بعنف، لأنه اختار أن يغسله مساعده محمود، وسمعنى أحد الحاضرين، وقال لزوجته: «أنا عايز يوم ما أموت تعملى كده»!
مخى لم يغب.. كنت أنفّذ وصيته كما أراد.. كنت أشعر بأنه يراقبنى ويتأكد بنفسه من أننى أسير على خطاه، وانتهى «الغُسل» وذهبنا إلى المسجد للصلاة عليه، ثم بدأت الجنازة التى سدّت كل الطرق المؤدية إلى القرية من كثرة الحضور من البسطاء والمشاهير الذين كان من بينهم محمد منير وعلى الحجار الذى قرأ بصوته سورة «يس» على قبره أمام الناس.
وانتهت الجنازة وانصرف الناس، وعدت إلى البيت مع أخى وزوجته وآية ونور.
ومضت تلك الليلة الطويلة، ولكنى ظللت متماسكة حتى إن البعض ظن أننى فى حالة إنكار، ولا أريد أن أصدق أنه قد مات.