رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فريد شوقى يروى «1»: كيف تزوجت هدى سلطان؟

فريد شوقى
فريد شوقى

رأيتها لأول مرة فى استديو نحاس أثناء تصوير فيلم «ست الحُسن»

رأيت هدى سلطان للمرة الأولى داخل استديو نحاس، عندما بدأت أستعد لأداء الدور الثانى فى فيلم «ست الحسن» إلى جانب كمال الشناوى وليلى فوزى، لمحت هذه الجميلة داخل الاستديو. وسألت: مين دى؟
قالوا: وجه جديد من طنطا وقَّع معها المنتج جبريل نحاس عقدًا للاشتراك فى تمثيل ثلاثة أفلام جديدة.
لم يحدث بيننا أى حوار؛ فقد تصادف عدم اشتراكها معى فى أى مشاهد أمام الكاميرا، حاولت أن أحادثها لكنها مانَعَت وابتعدت واختفت، ثم ظهرت مرة أخرى عندما رشحها المخرج حسن الإمام للتمثيل أمامى فى فيلم «حكم القوى».

وحاولت أن أكتم وأُخفى إعجابى بهذه الجميلة القادمة من طنطا، لكن كان من الصعب الاستمرار فى الكتمان، فالحب كما يقولون تفضَحُه العيون. وطلب منَّا المخرج حسن الإمام أن نؤدى معًا أحد المشاهد الغرامية، وكان المفروض أن أقول لها أمام الكاميرا: «بحبك بحبك يا كوثر، ومُستعد أضحى بالدنيا كلها علشانك».

ويبدو أنى نسيت أنَّ هذا المشهد الغرامى ليس سوى تمثيل، ولم أقدر على التحكم فى عواطفى الحبيسة داخل قلبى، فوجدت نفسى أقول: بحبك بحبك يا هدى ومُستعد أضحى بالدنيا كلها علشانك. لقد نسيتُ اسمها فى الفيلم وقلت اسمها الحقيقى. كشفت وفضحت مشاعرى بنفسى.

وصرخ المخرج حسن الإمام غاضبًا: «ستوب، ستوب، إيه اللى عملته ده يا فريد؟».

مهما حاول المحب العاشق أن يخفى مشاعره ويكتمها فى قلبه، فإن لهفة ولوعة الحب ستظهر رغم أنفه فى نظراته، ويقولون إن العينين هما مرآة النفس الصافية، ورغم أنى حاولت أن أخفى مشاعرى، إلا أن كل العاملين والمشتركين فى فيلم «حكم القوى» بدأوا يُلاحظون نظراتى العاشقة الولهانة، وتأكدوا من وقوعى فى غرامها عندما أخطأتُ ونسيتُ اسمها فى الفيلم «كوثر» وناديتها باسمها الحقيقى أثناء التمثيل أمام الكاميرا.

جففتُ عرق الخجل بعد انتهاء التمثيل واعتذرتُ للمخرج حسن الإمام. إنها غلطة وفلتة لسان، وحاولت أن أتحدَّث معها أثناء الاستراحة لكنها رفضت وأعرضت عنى.. وقررت أن أكتب لها رسالة.

وشرحت لها كل مشاعرى؛ قلت لها إنى أحبها وقلت إنى كنت أعنى وأقصد هذه الجملة التى قلتها لها أمام الكاميرا «بحبك يا هدى ومستعد أضحى بالدنيا كلها علشانك»، كنت أقصدها وأعنيها ولم أنس أن أكتب عنوانى ورقم تليفونى، وتركت لها الرسالة فى غرفتها بالاستديو وبقيت طوال الليل أنتظر أن يدق التليفون.. أن أسمع صوتها.

وفى اليوم التالى وجدتها داخل الاستديو غاضبة منى ومن رسالتى: «إزاى ترسل لى خطابًا مع الساعى وتضعه فى غرفتى، مش جايز الساعى ده يتكلم ويقول إنك بتبعت لى جوابات!».

وقلت لها: أريد أن أجلس معك، أريد أن نتكلم، عندى كلام يطول شرحه.

وبعد انتهائنا من التمثيل فى ذلك اليوم جلسنا على شاطئ النيل، وتكلمت كثيرًا وشرحت لها كل ظروفى ومشاعرى، وتكلمَت هى وشرحت وسردت لى قصة حياتها كلها؛ هى من بلدة كفر أبوجندى الغربية، من طنطا، والدها شيخ مُعمَّم صوته غاية فى الجمال، خصوصًا وهو يتلو القرآن الكريم. عن والدها ورثت هى وأخوها حلاوة وجمال الصوت، لكن أخاها محمد فوزى ترك كفر أبوجندى بل والغربية كلها وذهب إلى القاهرة وعمل مع فرقة بديعة مصابنى، ثم التحق بمعهد الموسيقى العربية ليدرس فن الموسيقى دراسة كاملة وسليمة، وحصل على الدبلوم واحترف الغناء وأصبح واحدًا من نجوم الطرب والأفلام الغنائية الاستعراضية. لكن محمد فوزى وقف ضد رغبة أخته فى احتراف الغناء. إنه لا يوافق على ارتباطها بالعمل الفنى وحاول بكل جهد أن يبعدها عن هذا الوسط الفنى، خوفًا على اسمها واسمه أيضًا.

لكنها كانت مشغولة جدًّا بالفن منذ أن كانت تلميذة تشترك بالغناء فى الحفلات المدرسية التى كانت تُقام على مسرح البلدية بطنطا، وحدث أن حضر وشاهد الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب أحد هذه الحفلات، وسمعها وأُعجب بصوتها، وكان معه فى ذلك اليوم المخرج السينمائى المعروف محمد كريم الذى عرض عليها فكرة العمل بالفن لكنها رفضت خوفًا من شقيقها محمد فوزى.

وتزوجت وأنجبت ابنتها الأولى نبيلة، ولكن حبَّها للفن بدأ يؤرقها ويعذبها، إن كل من يسمعونها يقولون إن صوتها جميل. فهل تقبل الاستمرار فى هذه الحياة الزوجية العادية أم تبحث عن كيانها ونجاحها وسعادتها فى طريق الفن الطويل، مهما كان حافلًا بالمخاطر والأحداث؟ وطلبت الطلاق.

وجاءت إلى القاهرة رغم غضب أخيها المطرب محمد فوزى، وتزوجت المخرج فؤاد الجزايرلى، وألحقت ابنتها نبيلة بالقسم الداخلى للمدرسة الفرنسية حتى تتمكن من التفرُّغ لفنِّها، واستأجرت مسكنًا فى حى الزمالك، لكنها أصبحت تخشى مُلاقاة محمد فوزى، الذى تضاعف غضبه عليها بعد أن تحدَّتْ إرادته وتخطت وتجاهلت نصائحه وعملت بالفن رغمًا عنه.

لقاء طويل على شاطئ النيل، هى تتكلم وأنا أستمع إليها وأحاول أن أخفف عنها ظروف حياتها، الفشل فى الزواج والبحث عن الأمان والرجل الذى يستحق حبَّها وثقتها، صاحب القلب الطيب الذى يُساندها ويُشاركها رحلة الحياة الشاقة الطويلة.

ووجدت أن ظروفى تتشابه مع ظروفها، فأنا أيضًا أبحث عن الاستقرار وأنا أيضًا عانيتُ من الزواج الفاشل، وأنا مثلها أريد بداية جديدة مُشرقة بالأمل. إن هدفنا واحد مشترك فلماذا لا نحاول أن نسعى إليه معًا؟

فلماذا لا نتزوَّج يا هدى؟
ماذا يريد الأخ لأخته غير الاستقرار والسمعة الطيبة؟

ولم يعُد يمرُّ يوم دون أن نلتقى وحديث واحد مُتكرر فى كل لقاء دون أن نمله أبدًا؛ الزواج وعش الزوجية والمستقبل السعيد، وعثرنا على السكن الذى سيشهد زواجَنا.

ومع أول خميس فى الشهر مع حفل أم كلثوم الشهرى فى هذه الليلة التى لا تنسى وهذا اليوم الذى تصورته نهاية لكل المتاعب والأحزان. فى أول فبراير عام ١٩٥١ كانت ليلة العمر؛ الزوجة الثانية فى حياتى والزوج الثالث فى حياتها، لكنه الزواج الأخير بالنسبة لكل منَّا، الزواج الذى سيضع نهاية لكل الفشل الذى كابدناه من قبل، النهاية السعيدة لحياتى وحياتها.

كانت هذه مشاعرى فى تلك الليلة الرائعة التى شدَتْ فيها أم كلثوم كما لم تشدُ من قبل، كأنها كانت تغنى لنا وحدنا، وكأنها تبارك حبنا وترحب بنا زوجين جديدين فى عالم ترفرف عليه أطياف السعادة والهناء، وتخيلت وظننتُ أنها السعادة الأبدية وأنه الهناء العائلى الذى لا نهاية له.

ومع إعلان ثورة ٢٣ يوليو عام ١٩٥٢ بدأت مرحلة جديدة فى حياتى وفى حياة هدى سلطان. مرحلة العمل والنشاط والنجاح والانطلاق.

اشتركنا معًا فى رحلات قطار الرحمة الناجحة، ندعو مع بقية الفنانين للثورة ورجالها وكل المطربين والمطربات يتسابقون للاشتراك فى حفلات حديقة الأندلس الغنائية دون أى مقابل تحية للثورة وأبطالها، وبدأت القوانين الجديدة تصدر على التوالى.

وُضع قانون تحريم ومنع تعاطى وتهريب المخدرات، وتحديد عقوبات صارمة تصل إلى المؤبد والإعدام. مع هذا القانون وُلدت فى ذهنى فكرة فيلم «حميدو» ثانى قصة أكتبها للسينما، وغنت فيه هدى أغنيتها الرائعة «أبين زين أبين وأخط بالودع».

وكان نجاح حميدو نجاحًا لنا نحن الاثنين، فزادت قيمتنا الفنية وارتفعت أجورنا، والحقيقة أن هدى كانت تشجعنى دائمًا على الاستمرار فى كتابة القصص السينمائية، وكانت تقول باستمرار إنك لست فقط الممثل الذى أقتنع وأؤمن به، بل أنت أيضًا كاتب. نجاحنا مشترك ليس فيه أى أنانية، وكنا نسير فى خطين مُتوازيين، وأذكر أن الأستاذ إحسان عبدالقدوس كتب ذات مرة عن صوتها قائلًا: «إن صوت هدى يبعث على الدفء والأصالة المصرية، وهو الصوت الثانى الذى أسمعه بعد صوت أم كلثوم».

نسيتُ أن أقول إنَّنا كنا نقيم فى ذلك الوقت فى حى حدائق القبة، وكانت ابنتها نبيلة التى أنجبتها من زوجها الأول تعيش فى مدرسة داخلية بمصر الجديدة، وكنا ننتظرها دائمًا كل أسبوع لتقضى معنا يومى السبت والأحد. وذات مرة وأنا آخُذها معى فى السيارة لكى أوصلها إلى مدرستها لاحظتُ أنها تبكى.
وسألتها: مالك يا نبيلة.

قالت والدموع فى عينيها: «إنهم يطفئون النور فى الحجرة، وبيقولوا إن فيه فيران وعفاريت، وأنا خايفة، خايفة قوى».

وربَّتُّ على كتفها: ماتخافيش يا حبيبتى.

ولم أتركها عند باب المدرسة، بل عدت بها إلى البيت مرة أخرى، ولاحظتُ الدهشة على وجه أُمِّها، فقلت لها: يا هدى البنت لازم تفضل معانا.

قالت: «حتتمسك».

قلت: لا لا لا، مش معقول نسيب بنت فى السن دى تعيش وحيدة. إن ابنتى من زينب عبدالهادى تعيش مع والدتها برضائى التام، لازم يا هدى نخلِّى بنتك نبيلة تعيش معانا، نجيبلها دادة مش مشكلة.

والحقيقة أنى لم أُشعر نبيلة أبدًا بأنى زوج أمها، عاملتها مثل ابنتى تمامًا، بل وأكثر، كانت مطالبها مُجابة، لا أستطيع أن أرفض لها طلبًا، مصاريفها الشخصية ومصاريف المدرسة التزمت بها كلها، وعوملت نبيلة فى بيتى معاملة كريمة جدًّا واعتبرتنى أباها، وكانت تكتب اسمى على كراساتها وكُتبها المدرسية: نبيلة فريد شوقى. حتى جاء اليوم الذى طلبوا فيه منها أن تكتب اسم الأب الحقيقى والدها الأصلى عندما بدأت تُعِد أوراق التقدم لامتحان الثانوية العامة.