رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هانى شنودة يتذكر «5»: «ديكتاتورية» فاتن حمامة

هانى شنودة
هانى شنودة

لو سألنى أحدهم ما الذى أعتز به فى مشوارى؟ سأجيبه بلا تردد: إننى صاحب فكرة «أول مرة».
كنت صاحب الرصاصة الأولى فى كل شىء، كنت أول من أدخل الهارمونى للموسيقى المصرية، أول من أعاد توزيع أغانٍ لموسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، أول من قدم مقطوعات موسيقية يمكن وصفها بالموسيقى البحتة كما هو الحال فى مقطوعات «لونجا ٧٩ و٨٥ و٨٨»، حتى عبدالوهاب عندما قدم الموسيقى البحتة فى مقطوعة «عزيزة» استخدم الكورال خوفًا من رد فعل الجمهور الذى يريد دائمًا الغناء، ولكننى انتصرت للموسيقى فى تجربتى مع اعترافى الكامل بأن عمر خيرت هو صاحب الفضل فى انتشار الموسيقى البحتة بين المصريين فيما بعد.
كنت أول من أدخل الآلات الحديثة مثل الدرامز والإلكتريك جيتار فى الأغنية الشعبية مع أحمد عدوية، والجميع قلدونا بعدها، أول من قدم محمد منير وعمرو دياب، وأول من أسس فرقة موسيقية تغنى باللغة العربية «المصرية» على موسيقى مواكبة لتطور الغرب.
فعلت ذلك لأننى مؤمن بمقولة الفيلسوف ثيروندايك: «الفرق بين العبقرى والمجنون هو النجاح»، نعم ما قدمته وصفه البعض بالجنون وقتها لأنه كان جديدًا ومختلفًا، من كان سيقتنع بصوت ممدوح قاسم «الرخيم» وهو يغنى «ماتحسبوش يا بنات إن الجواز راحة»؟!
لو أحضرت ممدوح لأى منتج وقلت له إنه مطرب جيد سيقول إننى مجنون، حدث ذلك مع المنتج عاطف منتصر الذى قال لى: «صوته ده يروح يبيع بيه كرشة»!
ولكننى كنت على يقين بأن ممدوح صوت أوبرالى قوى، له مناطقه الخاصة فى الأداء والتى سأستخدم صوته فيها بشكل مناسب، وسيعجب الناس، ولهذا عندما نجحت التجربة قال لى عاطف منتصر: «أنت عبقرى».
بهذه الفلسفة دخلت عالم الموسيقى التصويرية للأفلام، وهى مرحلة مهمة فى مشوارى الفنى، أحمد الله كثيرًا أننى وضعت فيها بصمة يتذكرها الناس حتى الآن، ولكن البداية كانت مخيفة لأنها مع سيدة الشاشة فاتن حمامة.
بدأت الحكاية عندما حدَّثنى المخرج الكبير هنرى بركات، قال لى إن فاتن سمعت موسيقاى ومعجبة بها جدًّا، وإنها تريد التجديد فى فيلمها «ولا عزاء للسيدات» بعد تعاونها مع عبدالوهاب ومع الرحبانية، تعجبت فى البداية.. لماذا تختارنى أنا تحديدًا؟!
عرفت هذه الإجابة من هنرى بركات فى لقائنا عندما قال لى: إن فاتن استشعرت قدرًا من التعبير الدرامى فى موسيقاك.
الحقيقة أننى أتكلم بالموسيقى، وهذا نابع من الدراسة أولًا، لأن الموسيقى لغة تعبر عن المشاعر مثل الكلمات، دائمًا أقول إن الكلمة هى الوردة، والموسيقى رائحتها، لو عبّرت الموسيقى بشكل خاطئ عن الكلمات ستأخذ إحساس المستمع إلى شىء آخر لا تقصده الأغنية.
ولكن التعاون مع الكبار محفوف دائمًا بالمخاطر وكذلك بالشروط العجيبة، أعطانى هنرى بركات ورقة فيها «ستة عشر» شرطًا لفاتن حمامة فى تصورها للموسيقى التصويرية، شىء مزعج ولكنه مدهش ويكشف عن مدى فهمها وتذوقها الموسيقى. فى رأيى أن فاتن كانت ديكتاتورة فى عملها، تتدخل فى كل شىء، ولكن هذه التدخلات نابعة من مسئولية كبيرة ملقاة على عاتقها، فلو فشل عمل لها سيقولون: فاتن فشلت، لن يقولوا: هنرى بركات فشل، أو هانى شنودة قدم موسيقى سيئة، المهم أننى أتذكر جيدًا بعض هذه الشروط، منها مثلًا أن أعتمد على جمل موسيقية قصيرة، وألا أستخدم آلة التشيلو حتى لا تعطى صورة قاتمة عن الفيلم، وأن تكون التيمات موزعة على الأبطال بحيث ترتبط كل تيمة ببطل فى الفيلم.
حكى لى هنرى بركات قصة الفيلم، وغادرت مكتبه عائدًا إلى منزلى، وأنا فى الطريق قررت أن أعتذر عن العمل، فشروط فاتن صعبة ومقيِّدة، وصلت إلى بيتنا فوجدت المصعد معطلًا، وكنت أسكن فى الطابق الرابع فى عمارة ضخمة بمنطقة الإسعاف بجوار دار القضاء العالى، هذه العمارات كان الطابق فيها يساوى طابقين من العمارات الحديثة، وبالتالى فإننى مطالَب بصعود ما يوازى ثمانية طوابق تقريبًا، المهم بدأت رحلتى للشقة، وأنا فى طريقى للصعود أخرجت من جيبى ورقة شروط فاتن حمامة وأخذت أقرأها مرة أخرى، مع كل درجة سلم شعرت بأننى أتجاوز شرطًا من شروطها، توقفت فى منتصف الطريق وفكرت، لماذا لا أبنى موسيقى الفيلم على طريقة درجات السلم؟!
مع كل طابق أتجاوزه كنت أضع تصورًا للموسيقى مطابقًا لشرط من شروط فاتن الستة عشر، وعندما وصلت إلى باب شقتى قلت إن عطل المصعد الذى اضطرنى إلى صعود السلم ما هو إلا رسالة ربانية تدفعنى لتأليف موسيقى الفيلم، دخلت صومعتى وبدأت العمل على مدار يومين متواصلين.
اتصلت بهنرى بركات وأخبرته بأننى انتهيت من موسيقى الفيلم، وأبلغ فاتن حمامة التى اتصلت بى وقالت إنها سترسل لى كاتيا ثابت، صاحبة قصة الفيلم، لتسمع الموسيقى، تعجبتُ من موقفها وسألتُ نفسى: هل تثق بكاتيا إلى هذه الدرجة؟ ولماذا اختارتها تحديدًا؟!
المهم زارتنى كاتيا فى المنزل، عرفت خلال لقائنا الأول أنها ذات أصول إيطالية. طلبتْ فنجان قهوة، فدخلت المطبخ لأعدّه، وبينما أنا منهمك فى إعداد القهوة، سمعت صوت مقطوعة لشوبان آتية من الغرفة، تعمدت أن أطيل بقائى فى المطبخ وأنا أستمتع بعزفها المميز، وفهمت هنا لماذا اختارتها فاتن حمامة، لقد اختارت شخصًا متذوقًا للموسيقى ودارسًا لها كى يحكم على عملى، خرجت وتناولت القهوة وسمعت موسيقى الفيلم واتصلت بفاتن وأخبرتها بأن هناك شيئًا عظيمًا ستسمعه فى الاستديو. فرحت فاتن وهنّأتنى وطلبت منى حجز الاستديو فى اليوم التالى كى نبدأ التسجيل.
نجح الفيلم رغم قلق فاتن، ولكنها كانت على ثقة تامة بأن الموسيقى التصويرية، كعنصر من عناصر الفيلم، على ما يرام، ولم أعرف أن هذا الفيلم سيكون انطلاقتى لعالم سحرى اقتنص قطعة من روحى، واحتل مساحات كبيرة من مشوارى.. عالم الموسيقى التصويرية.