رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هانى شنودة يتذكر «1»: أيامى فى جوار السيد البدوى

هانى شنودة
هانى شنودة


أنا من مواليد طنطا، ٢٩ أبريل ١٩٤٣. عائلتى من الطبقة المتوسطة، ولكننا كنا ميسورى الحال، والدى صيدلى ووالدتى ربة منزل، ولكنها كانت تجيد العزف على العود والبيانو وتملك صوتًا جميلًا لم يغادر ذاكرتى إلى الآن، اعتدنا أن تغنى لأم كلثوم وهى تعزف على البيانو. لا أعرف فى الحقيقة أين تعلمت كل هذا، ولا أذكر أننى سألتها.
التحقت بمدرسة سعد زغلول الإعدادية، ثم القاصد الثانوية، المدرستان حكوميتان، أيامنا كان الشاطر يلتحق بالمدارس الحكومية والخايب هو من يلجأ أهله لإلحاقه بالمدارس الخاصة، المهم أننى حتى المرحلة الثانوية لم أكن غاويًا للموسيقى، شغفى الأكبر كان بالرسم، ربما لأن أمى كانت تصف صوتى بالنشاز وتقول لى: «ودنك بايظة» كلما حاولت الغناء مثلها!.
أظن أن الموالد فى طنطا بعدد شعر الرأس، فهى نقطة ارتكاز الدلتا، يحج إليها أهل الطرق الصوفية والمريدون والدراويش والمنشدون والمداحون للارتواء بنعيم القرب من مقام السيد البدوى وعلاج الروح ببركة مولده، أو مولد «سيدى السيد» كما يسميه هانى شنودة وأهل طنطا.
فى البيت غرفة بيانو وأم تعشق الفن، وفى الشارع موالد وحلقات ذِكر ومداحون، وفى الكنيسة رعاة وكورال.. الموسيقى تحاصره، فأين المفر؟
مولد سيدى السيد، ومولد الشيخة صباح، ومولد سيدى الرفاعى، جعلت أذنى تتذوق الإنشاد الدينى والموشحات الصوفية، كنت مفتونًا بهذا الفن، وأداء المداحين ورقص الدراويش وهم يتمايلون فى حلقات الذِّكر، كنت أشترى المزامير والطبل من الموالد وألعب عليها. أذكر أننا كنا نجلس فى المقاهى نستمع إلى المنشدين وهم يغيّرون كلمات الأغانى العاطفية ويولّفونها على أغانٍ شعبية ومقاطع ونصوص من الذِّكر فى حب رسول الله وآل البيت، كانت فكرة عبقرية تثير دهشتى، تلك القدرة على التلوين والتغيير والمزج بين فنين مختلفين تمامًا.
فى رمضان كنّا نجتمع فى ساحة مسجد السيد البدوى ننتظر الشيخ النقشبندى ليطل علينا ويتحفنا بما فتح الله عليه، ظروف مثل هذه صعب أن تتكرر مع أحد.. كنت محظوظًا.
كنت فى الصف الثانى الثانوى على ما أذكر عندما دخلت غرفة البيانو فى بيتنا، ضغطت على مفتاح فسمعت نغمة «الدو»، ثم ضغطت على آخر فسمعت «الرى» ثم «اللا»، لم أدرك أننى ألعب السلسلة التوافقية للموسيقى، أعجبنى الموضوع، احتللت غرفة البيانو ولم يقدر أحد من يومها على إخراجى منها، فى نفس الوقت كانت لدىّ شلة تحب الموسيقى، على رأسهم عاطف منتصر الذى أصبح فيما بعد صاحب شركة «صوت الحب» ومنتج ألبوماتى وألبومات كبار النجوم. أنا وعاطف ومعنا سارى دويدار وماهر صادق كنا ننطلق بسيارة عاطف إلى طريق المعاهدة فى ضواحى طنطا، حيث كان الراديو يلتقط موجات الـ«إف إم» فى ليالى الصيف الرطبة، كنا نستمع للموسيقى الغربية ونضحك ونتحدث عن أحلامنا فى الموسيقى قبل أن نسلك طريقها الاحترافى، أما فى البيت فكانت شقيقتى الكبرى مغرمة ببرنامج إذاعى يدعى «out your request» أو «خارج ترشيحاتك» وهو برنامج متخصص فى الموسيقى الأجنبية، وكنت معجبًا بما أسمعه فيه، كل هذا صبَّ فى مخزون الوعى الذى كان يتشكل يومًا بعد الآخر، فأصبحت الموسيقى كل حياتى.
فى طنطا وربما فى أغلب المدن المصرية كانت الفرق المكونة من العازفين اليونانيين تحتل كل النوادى وأماكن السهر، عرفنا منهم الموسيقى الغربية، بينما أنا كنت أراقبهم بدقة لأتعلم ما يفعلونه بالضبط، وأول شىء لفت انتباهى أن فى المقطوعات الغربية كل عازف له دور ويعزف شيئًا مختلفًا عن الآخر، ولكن المنتج النهائى ممتع، عكس التخت الشرقى الذى كان يعزف كاملًا شيئًا واحدًا.
والدى كان رجلًا حكيمًا، ولأنه صيدلى فقد كان مؤمنًا بالعلم فى كل شىء، بعد الثانوية العامة قال لى: «لو بتحب الموسيقى يبقى تدرسها، لازم تدرس الشىء اللى هتشتغله وإلا مش هتنجح فيه، وموهبتك لوحدها مش هتسعفك، هتقطع جزء من الطريق بس مش هتعرف تكمل للآخر».
كان محقًا فى رأيه، كلما كنت أتعلم شيئًا جديدًا بالسمع والمشاهدة، أجد أمامى عشرات الأسئلة وقت التنفيذ، إجاباتها الصحيحة والشافية فى الدراسة. الموسيقى علم وقواعد قبل أى شىء، وهذا العلم ساعدنى فيما بعد مثلًا على تفكيك الجملة الموسيقية وإعادة توزيعها، وهو الذى ساعدنى فى تطبيق علوم الموسيقى الحديثة على موسيقانا العربية.. كانت نصيحة والدى هى الدليل الذى أرشدنى للطريق، طريق طويل ولكنه ممتع بدأته فى المعهد العالى للتربية الموسيقية بالقاهرة.
كنت أركب الترولّى من المعهد إلى محطة مصر لأستقل القطار، فى أحد أيام السنة الأولى من المعهد حاولت الركوب فانزلقت قدمى ودهسها الترولّى، تعرضت لكسر مضاعف، ورغم الألم لم يسيطر على تفكيرى سوى مصير دراستى بعد أن أخبرنى الأطباء بضرورة البقاء فى الجبس ما يقرب من ستة أشهر، المهم مرت الأزمة على خير وتجاوزت السنة الدراسية وانتقلت للفرقة الثانية وهنا بدأت قصتى مع احتراف الموسيقى.
كنت واقفًا أمام باب المعهد وفى المقابل عمارة، لفت نظرى على سطحها شاب يشبه ألفيس بريسلى، ممسكًا جيتارًا إلكترونيًا أحمر اللون ويهز جسمه بحماس شديد وهو متفاعل مع العزف، وقفت أراقبه، دقائق ونادى علىّ: «اطلع، فقلت له: لأ، انزل أنت!».
نزل مسرعًا ودار بيننا حديث، عرّفنى بنفسه، اسمه نبيل شديد صعب، أرجوك لا تضحك من الاسم فقد ظل طوال معرفتى به اسمًا مثيرًا للجدل، المهم أن صديقى الجديد شديد كانت وراءه حكاية طويلة، فوالده لبنانى من لوردات مصر الجديدة وأمه كونتيسة من أصول أوروبية، يتباهى شديد دائمًا بأن عائلته شاركت فى بناء الحى الراقى مع البارون إمبان، ولكن عقب ثورة ١٩٥٢ أممت الدولة ممتلكات والده، ولم يتركوا لأسرته سوى الشقة التى يعيشون فيها بالدقى، ومعاش شهرى قدره مئتا جنيه فقط، لهذا فكّر نبيل فى تكوين فرقة موسيقية تعزف فى أماكن السهر والنوادى ليكسب المال ويعيش فى مستوى اجتماعى لائق.
شديد كان فى حاجة لعازف بيانو ليكمل الفرقة، وكنت أنا هذا الشخص، وفور موافقتى قال لى: «اطلع عندى اتصل بأهلك قولّهم إنك بايت فى القاهرة عندى عشان هنعمل بروفة لحفله قريبة».
بهذه السرعة؟!
نعم بهذه السرعة!
اتصلت بوالدتى وشرحت الموقف، كانت مفاجأة ولكنها لم تستغرق وقتًا لتتفهم الموقف، ووافق والدى على اعتبار أن استقرارى فى القاهرة أصبح مسألة وقت لا أكثر. المهم بدأنا فى قراءة النوتات وسماع الأسطوانات الأجنبية التى سنعزفها، وبعد قليل انضم لنا عازف الدرامز واسمه هراير شهرزيان، وكان مصورًا فى جريدة الأهرام، وكونّا الفرقة وبدأنا العمل.
قبل ثورة يوليو كان العازفون الأجانب قاعدة الموسيقى فى مصر، كل النوادى الليلية والبارات والكازينوهات والفنادق اعتمدت عليهم فى فقراتها الفنية. كوّنوا الفرق التى عزفت الموسيقى الكلاسيكية وموسيقى الجاز والروك، بينما اقتصر دور المصريين على الموسيقى الشرقية أو العربية. ولكن مع دخول حقبة الستينيات خرج المئات منهم من مصر. منهم من هاجر إلى أمريكا ومنهم من عاد إلى وطنه. لم تعد الأجواء مناسبة لهم، فى حين بحثت الفنادق والكازينوهات عن بديل يملأ هذا الفراغ. لا مجال لظهور تخت شرقى فى بار أو كازينو، وبدأ الموسيقيون الشباب يتلقفون الفكرة، سوق عمل مفتوحة على مصراعيها، وانطلقت مع صديقى شديد وفرقته بحماس، بل إننى عملت عازفًا منفردًا فى الأماكن. مرحلة أتذكر منها جيدًا ساعات نومى القليلة.
كنت أنام ساعتين تقريبًا فى منتصف اليوم، فصباحًا أذهب إلى المعهد، وليلًا أعزف فى فندق سميراميس، إلى جانب الفقرات التى تقدمها فرقتنا فى أماكن أخرى. بالكاد ساعتان للراحة فى غرفة خصصها الفندق لى ضمن اتفاقنا، فى تلك المرحلة تبلورت أفكارى الموسيقية، تحديدًا فى السنة الرابعة من المعهد، شكّلت وجهة نظر فى المناهج التى ندرسها، كانت لدىّ ملاحظات عديدة عليها أبرزها اختلاف المواد التى يدرسها الأولاد عن تلك التى تدرسها البنات، كان شيئًا غريبًا لا أجد له تفسيرًا سوى سيطرة الرجعية على المناهج، هذا لا يعنى أننى متحرر أكثر من اللازم، بالعكس أنا شرقى جدًا ومؤمن بالعادات والتقاليد التى تربيت عليها، ولكن فى الموسيقى الأمر مختلف تمامًا.
بعد عام تقريبًا سافر شديد و«فركشنا» الفرقة، وتعرفت على يحيى خليل، كان عائدًا من أمريكا، عرض علىّ الانضمام إلى فرقة حديثة يعزف فيها هو وعمر خورشيد عازف الجيتار، والمطرب نزيه المصرى، بعد أن سبقهم عمر خيرت كعازف درامز، وعزت أبوعوف الذى لم يستمر مع الفرقة طويلًا، انضممت إليهم وكنا نقدم أغانى البيتلز والإيجلز وتومبلانج، بالطبع تعرف عمّن أتحدث.. عن فريق «لى بيتى شاه».
ذاع صيت الفرقة لدرجة دفعت نجيب محفوظ للسفر إلى الإسكندرية خصيصًا لسماع الفرقة وإجراء حوار صحفى معنا فى جريدة الأهرام. لن أنسى طوال حياتى الجملة التى طرحها علينا نجيب محفوظ قبل بدء الحوار، كانت أشبه برأى، أو على وجه الدقة هى نقد لاذع.
قال محفوظ: إنتو زوبعة فى فنجان!
استفزنى الوصف وغضبت، كنت شابًا متهورًا فى الحقيقة، فرددت بعنف: وحضرتك جاى من القاهرة إلى الإسكندرية عشان تشوف زوبعة فى فنجان؟
ابتسم نجيب محفوظ وقال: فى الحقيقة اكتشفت أن الناس بتتجنى عليكم لأن الشباب فعلًا بيطلّعوا طاقتهم معاكم بشكل عادى عكس الشائعات الكتير اللى بتطلع عليكم.
ثم دار الحوار بين أخذ وعطاء وسؤال وجواب حتى توقف نجيب محفوظ وسألنى: ليه يا هانى مابتلعبوش أغانى عربى من تأليفكم؟
رددت عليه: الأغنية بتاعتنا مقدمتها تساوى ثلاث أغانٍ من الأغنية الغربية، أغنياتنا الكلاسيكية تبدأ بتانجو أو فالص ثم تتحول إلى المقسوم الشرقى، والرقص الشرقى عيبة عند الشباب والرجال، أما الرقص الغربى فهو موضة.
فى هذه اللحظة نظر إلىّ بابتسامة ساخرة، وقال: لا تستبدل بشهوة العمل شهوة الكلام، اعمل الأغنية اللى أنت شايفها صح بدون حجج أو أعذار.
لم أتوقف أمام الكلام طويلًا، كنت سعيدًا بما أفعل، وأكسب جيدًا، ووصل الأمر إلى أن طلب منى عبدالحليم حافظ أن أكوّن له فرقة حديثة يضمها إلى الفرقة التى تعزف أغنياته، وهذه قصة أخرى متخمة بتفاصيل عديدة وقعت فى وقت قصير عندما أنهى موت حليم التجربة مبكرًا.
ولكن كلمات نجيب محفوظ ظلت محفورة فى ذاكرتى. لماذا لا أكوّن فرقة مصرية تعزف الموسيقى بشكلها الحديث الذى يقدمه العالم وتقدم كلماتنا المصرية ولغتنا الدارجة؟
فى الواقع إن عبقرية نجيب محفوظ لا تكمن فقط فى قلمه ولكن فى رؤيته، فهو كشاف ومستشرف للمستقبل دائمًا، وقادر على استيعاب التجارب الجديدة. هو وصل إلى نوبل على بساط روايات شديدة المحلية، ولكنها واقعية وفلسفية ونقلت ثقافتنا إلى العالم عبر الترجمات المختلفة. الموسيقى بالنسبة إلىّ هى الترجمة التى تنقل ثقافتنا إلى العالم كى ينظروا إلينا، لهذا دائمًا أقول إن الموسيقى المصرية تنقسم إلى مرحلتين «ق. م» أى ما قبل فرقة «المصريين»، و«ب. م» أى ما بعد ميلاد فرقة «المصريين».