رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المصادر الأصلية للقرآن.. عملية اغتيال الإسلام بكتاب لـ«مستشرق بريطانى»

القرأن
القرأن

رغم أن الوجهة الحديثة للاستشراق لم تعد مُقتصرة على تلك الموضوعات التى استحوذت على انتباه الدراسات الاستشراقية التقليدية، كدراسة علوم القرآن والحديث والفقه والتاريخ الإسلامى، فإن ما أسسه الاستشراق التقليدى من آراء حول تلك الموضوعات بات ركيزة فى الأبحاث الاستشراقية الحديثة، لا سيما حول موضوعات «الأصولية الإسلامية» و«العنف الإسلامى» وغير ذلك من التناولات التى قادت إلى تفشى ظاهرة «الإسلاموفوبيا»، ومن هنا تتضح أهمية استمرار المناقشات حول تلك الأفكار بُغية تبيان حدود صحتها وأوجه إجحافها.

ويُعدّ «المصادر الأصلية للقرآن»، الكتاب الذى نشره المؤرخ وعالم اللغة البريطانى سان كلير تيسدال عام 1905، والذى صدر بترجمة عربية حديثة عن «منشورات الجمل» أنجزها المُترجم عادل جاسم من الأعمال الرائدة والأساسية التى وضعت عددًا من الأفكار حول النص القرآنى، كانت محل تبنٍ واجترار لمستشرقين آخرين جاءوا لاحقًا، لتُشكِّل توجهًا راسخًا بدرجة كبيرة يتمحور حول محاولات إثبات أن النص القرآنى ليس وحيًا إلهيًا وإنما هو تأليف بشرى أنجزه النبى محمد مُستفيدًا وناقلًا من الحضارات والديانات التى عاصرها أو السابقة له.

وعلى الرغم من أن الأصل فى أى فكرة أن تخضع للمناقشة لإثباتها أو دحضها دون تعرض لشخص قائلها أو الحُكم عليها من خلال حياته أو سيرته، فإن تلك القاعدة ربما يجوز تجاوزها فى أحيان كثيرة إن كانت الفكرة المطروحة تجرى محاولة إثباتها بقدر قليل من الموضوعية والعلمية، ويتحيز فيها صاحبها لاتجاه فى مقابل هجوم عنيف على الاتجاه الآخر؛ حينذاك ووقتما تنتفى «العلميّة» تكون سيرة الشخص وتوجهاته دالة؛ وهنا نجد أن سان كلير تيسدال المؤرخ البريطانى، ونظرًا لشغله منصب أمين كنيسة إنجلترا فى جمعية التبشير فى أصفهان وبلاد فارس، قد شرع فى مهاجمة ضارية للإسلام ورسوله ونصه المقدس فى مقابل دفاع مستميت عن المسيحية ورموزها ونصوصها.

فى فترة باكرة بدأت الترجمات الاستشراقية لمعانى القرآن الكريم، التى انطلقت من خلال ذلك للتشكيك فى رسالة الإسلام ومصدر القرآن وطرق تدوينه وجمعه، ورغم أن كتاب تيسدال المذكور يعد حلقة مُبكرة من ذلك التوجه، فإنه قد سبقه أعمال أخرى ومن أبرزها ترجمة المستشرق الانجليزى جورج سيل للقرآن، والتى صدّرها بمقدمة هجومية على النص القرآنى قال فيها إن القرآن ليس وحيًا بل هو من تأليف النبى محمد الذى استمد معظمه من اليهودية.

جمع الكتاب وتدوينه

يبدأ تيسدال بالقول إن فكرة جمع الوحى لم تبدأ إلا بعد نحو مائة عام من وفاة محمد، وهى المهمة التى تصدى لها زيد بن ثابت الذى جمع القرآن المكتوب على جريد النخل والحجارة الرقيقة ومن صدور الرجال، واستنسخت نسخًا جديدة من القرآن عن المخطوطة الأصلية وهو ما أدى إلى حدوث بعض التغييرات ومنها الاختلافات القليلة جدًا فى نسخ مختلفة من القرآن تتركز بالكامل تقريبًا حول طريقة قراءة النقاط والحركات التى تميز عددًا من الحروف عن بعضها فى الكتابة، كما أن ترتيب السور لم يخضع إلى نظام محدد، إذ جمعت السور الطويلة أولًا ثم القصيرة، وهذا المنهج فى الترتيب يخالف بشكل مباشر الترتيب الزمنى لزمن نزول تلك السور.

ولقد حظيت عملية جمع القرآن باهتمام استشراقى واسع حاولوا من خلاله التشكيك فى صحة النص القرآنى، ومن ثم فقد حاول بعض الكتابات الرد عليها وتوضيحها، ففى كتاب «الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضارى» يوضح الداعية الإسلامى محمود حمدى زقزوق أن القرآن كان وحيًا باللفظ والمعنى معًا. ومن أجل ذلك كان الرسول حريصًا كل الحرص على تسجيل الوحى فور نزوله والعناية بحفظه فى السجلات التى سطر فيها. وليس صحيحًا ما يردد من أن فكرة تدوين الوحى لم تنشأ إلا بعد إقامة النبى فى المدينة، فالثابت أن فكرة تدوين الوحى كانت قائمة منذ نزوله. وقد كان الرسول كلما جاءه الوحى وتلاه على الحاضرين أملاه من فوره على كتبة الوحى ليدونوه.

وفيما يتعلق بمسألة الأوجه السبعة فى القراءة، يشير زقزوق فى كتابه إلى أن الأمر فيها لم يكن متروكًا لأهواء الناس، وإنما كان محكومًا بما يقرأه الرسول من أوجه للقراءة كان القصد منها التخفيف على الناس فى أول الأمر، فأذن لكل منهم أن يقرأ على طريقته فى اللغة، إلى أن انضبط الأمر فى آخر العهد وتدربت الألسن، وتمكن الناس من الاقتصار على الطريقة الواحدة.

أصل الإسلام

ينطلق تيسدال من قول الفيلسوف الإغريقى ديموقريطس «لا شىء ينشأ من لا شىء» ليؤكد أن الإسلام ليس استثناء من تلك القاعدة، فقد قام على «قواعد» عدة سبقته، وهنا يشير تيسدال إلى أن القرآن ليس كلام الله كما يشدد علماء الشريعة الإسلامية قائلًا: «لا يحتاج القراء الأوروبيون إلى دليل على أن مثل هذا الرأى عن أصل الإسلام بشكل عام والقرآن على وجه الخصوص لا يمكن الدفاع عنه. مواعظ القرآن ورؤيته للطبيعة الإلهية ومفارقاته التاريخية والعديد من المآخذ الأخرى لا تدع مجالًا للشك بأنه من تأليف محمد نفسه، القرآن هو مرآة صادقة عن حياة وشخصية مؤلفه يكشف عن أداء عقل محمد نفسه، ويُبيّن التحول التدريجى فى شخصيته».

ولكن ذلك الرأى كان ثمة العديد ممن دحضوه قديمًا وحديثًا بحجج شتى، وقد كانت المستشرقة الإيطالية لورا فاغليرى فى كتابها «دفاع عن الإسلام» ممن دافعوا عن النص القرآنى ضد هذه الآراء الاستشراقية المُتحيزة إذ قالت: «إن الكتاب إلى جانب كماله من حيث الشكل والطريقة، قد أثبت أنه ممتنع على التقليد والمحاكاة حتى فى مادته. فنحن نقرأ فيه إلى جانب أشياء أخرى كثيرة، تنبوءًا ببعض أحداث المستقبل، ووصفًا لوقائع حدثت منذ قرون ولكنها كانت مجهولة على وجه عام. إن ثمة إشارات كثيرة إلى نواميس الطبيعة، وإلى علوم مختلفة، دينية ودنيوية. إننا نقع ثمة على ذخائر واسعة من المعرفة تعجز أكثر الناس ذكاء وأعظم الفلاسفة وأقدر رجال السياسة. ولهذه الأسباب كلها لا يمكن للقرآن أن يكون من عمل رجل غير مثقف، قضى حياته كلها وسط مجتمع جاف بعيد عن أصحاب العلم والدين، رجل أصر دائمًا على أنه ليس إلا رجلًا مثل سائر الرجال فهو بوصفه هذا عاجز عن اجتراح المعجزات ما لم يساعده على ذلك ربه الكلى القدرة. إن القرآن لا يعقل أن ينبثق عن غير الذات التى وسع علمها كل شىء فى السماء والأرض».

المعتقدات والشعائر العربية القديمة

يشير تيسدال إلى أن معظم الشعائر الدينية والطقوس التى تسود الآن فى جميع أنحاء العالم الإسلامى مماثلة لتلك التى كانت شائعة فى الجزيرة فى العصور السحيقة، ومنها الإيمان بالله الواحد وتقديس الحجر الأسود والكعبة، وبالتالى فإن المصدر الأول للإسلام يمكن تحديده فى المعتقدات الدينية والممارسات التى دأب عليها العرب وبقيت سائدة أيام محمد، ومن هذا المصدر الوثنى استمد الإسلام بعض عاداته مثل تعدد الزوجات والرق، كما أن الاعتراف بوحدانية الله لم يبدأ بين العرب للمرة الأولى عن طريق محمد، فالعرب وعلى وجه الخصوص أولئك الذين تفاخروا بانتسابهم إلى إسماعيل كانوا يؤمنون بوحدانية الله لكنهم مع مرور الزمن نزعوا بعيدا نحو الوثنية والشرك ومع هذا لم ينسوا تمامًا أن الله العلى يبقى مُهيمنًا على كل الأشياء الثانوية التى يقدسونها.

ويقيم تيسدال علاقة بين أبيات للشاعر العربى القديم امرئ القيس وبين القرآن بقوله: «فى طبعة حجرية من المعلقات، حصلت عليها فى بلاد فارس، وجدت فى نهاية المجلد بعض القصائد التى تنسب إلى امرئ القيس والتى لم ترد فى أى طبعة أخرى. فى هذه القطع المشكوك فى نسبتها وجدت علاقة بين الأبيات وآيات من القرآن».

يرد الباحث الإسلامى عمر إبراهيم فى كتابه «آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره» على تلك المسألة بتوضيح أن دعوة الإسلام للوحدانية لم تكن بتأثير الوسط الوثنى كما زعم المستشرقون، بل هى صدى للدعوة الأولى: دعوة إبراهيم عليه السلام، كما أن الشرائع الإلهية التى نزلت على إبراهيم وإسماعيل ومحمد من أصل واحد؛ فالصلاة والصيام والزكاة والحج وسائر العبادات فى كل الديانات، وما شعيرة الحج فى الإسلام إلا صورة عن شعيرة الحج التى أداها إبراهيم، والتى يجمعهما التوحيد لله وخلع كل الشركيات التى أدخلتها الجاهلية الوثنية، وكذلك الأمر فيما يخص تشابه العادات مع الوسط الوثنى فقد كانت للعرب عادات تأصلت فيهم فلما جاء الإسلام أقر ما وجده موافقًا لشرعه وأبطل ما كان مخالفًا.

وفيما يخص ما طرح من اقتباس القرآن أبياتًا من الشعر الجاهلى، يلفت «إبراهيم» إلى أن قضية التلفيق فى الشعر ونسبتها للقدماء من الشعراء أمر لا يستطيع أحد إنكاره، ومن ثم فمن الممكن أن يكون هذا الشعر ملفقًا على العصر الجاهلى وعلى شعرائه كأمرئ القيس وأمية بن أبى الصلت، كما أن المشابهة بين لفظة أو لفظتين مع اختلاف دلالتها ليست دليلا على الاقتباس والأخذ.

الممارسات الصابئية واليهودية

يلفت تيسدال إلى أن الجماعات الأربع التى كانت لديها كتُب تُدون ديانتها فى الجزيرة العربية هم اليهود والمسيحيون والمجوس أو الزرادشتيون والصابئة، قد مارست تأثيرًا كبيرًا على الإسلام الناشئ، وينطلق لتبيان اقتباس القرآن من الصابئة فى العبادات مثل الصلاة، فللصابئين عبادات مثل الصلوات السبع التى تتوافق خمس منها مع صلوات المسلمين، كما أنهم يصومون ثلاثين يومًا ويراعون فى صومهم الفطر والهلال.

ويرد «إبراهيم» فى كتابه «آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره» عن مسألة التشبه بالصابئة، قائلًا: «الصلاة بحد ذاتها أمر فطرى ومطلب شرعى فى كل الديانات السماوية، كون وجود صلاة عند الطرفين أمرًا طبيعيًا لا غرابة فيه على اعتبار أنهم أهل الكتاب أو لهم شبهة كتاب، كما أن صلاتهم على خلاف صلاة المسلمين فى أوقاتها وهيئاتها، أما فيما يخص تشابه الصوم مع الصابئة، فالناظر بعين فاحصة مقارنًا بين الصيام عند الصابئة وعند المسلمين يجد أن الاجتماع والاتفاق كانا فى كلمة الصوم لا غير، أما فى الحقيقة والصورة فهما مختلفان تمامًا، فصيامهم ليلًا، بينما صيام المسلمين نهارًا، وصيامهم متفرق، بينما صيام المسلمين شهر كامل وهو ليس عند كل فرقهم. لذا ما زعمه تيسدال من مصدرية الصابئة للإسلام زعم باطل ينقصه الدليل ويرده الواقع».

وينطلق تيسدال ليشير إلى أن محمدًا استعار من دين اليهود الكثير جدًا إلى الحد الذى يمكن فيه وصف ما جاء به بأنه «شكل من الهرطقة اليهودية المتأخرة»، وقد استند تيسدال إلى كتاب الحاخام أبراهام جيجر «ما الذى أخذه محمد من اليهودية» كمصدر أساسى فى طرح أفكاره، وهو ما يثير التساؤل حول مدى علمية الاعتماد على مصدر واحد متحيز بالأساس لأفكاره وخاضعًا لتوجهات الاستشراق الإسرائيلى وأهدافه.

يقول تيسدال: تأكيد محمد مبدأ وحدانية الله اعتمد بشكل كبير على ما تعلمه من بنى إسرائيل، استمد القرآن من الكتب اليهودية مباشرة، بما فى ذلك كتب العهد القديم وصولًا إلى التلمود وغيره من كتابات ما بعد الكتاب المقدس، ويحتوى على قدر كبير من الأساطير اليهودية، ومنها قصة قابيل وهابيل بالقرآن والتى وردت فى الأساطير اليهودية، وكذلك قصة نجاة إبراهيم من النار التى وردت متفرقة ومبثوثة فى سور كثيرة، وكذلك قصة مجىء ملكة سبأ إلى سليمان، فليس هناك أدنى شك أنها أخذت مع بعض التعديلات الطفيفة جدًا من «الكتاب المقدس العظيم» اليهودى، وكذلك قصة هاروت وماروت التى اقتبسها القرآن من اليهود الذين استمدوا صيغتها من الأساطير البابلية، كما أن فكرة القرآن الذى كتب على «لوح محفوظ» قبل فترة طويلة من خلق العالم مستعار من فكرة اللوح المحفوظ لدى اليهود فى سفر التثنية.

تأثير الكتب المسيحية المنتحلة

يحاول تيسدال أن يُثبت اقتباس القرآن العديد من القصص من الأناجيل غير الصحيحة بقوله: «تلك الآيات من القرآن التى تتعامل على نحو عام تقريبًا مع ما يصر محمد على أنها عقائد العهد المسيحى بُنيت على معلومات خرافية هزيلة وفجة، ومنذ الفترة التى كان فيها نظامه قد نضج بالفعل، فى جانب كبير منه، لا نجد طقسًا واحدًا أو عقيدة فى الإسلام مجسدة بدرجة ما أو حتى مشوبة بتعاليم مسيحية خاصة، فى حين على العكس من ذلك أسبغت اليهودية لونها على النظام برمته وفرضت عليه صيغة ونوعًا، وإن لم تكن الجوهر الفعلى للعديد من الشعائر».

ويحاول التدليل على حديثه من خلال سرد عدد من القصص المشتركة بين القرآن وتلك الأناجيل، فيشير إلى أن قصة «أصحاب الكهف» جرى قبولها على أنها صحيحة وحصلت على مصداقية فى أجزاء كبيرة من الشرق قبل فترة طويلة من عصر محمد وحتى فى مكة، وفى زمن محمد كان هناك من يؤمن بهذه الأسطورة على ما يبدو ويكمن خطأ محمد فى ادعاء تلقيه الوحى الإلهى. فى حين أن القصة ليست جديرة بالثفة والمصداقية، من المرجح أن الغرض من القصة أن تكون رمزية أو حتى نوعًا من الرومانسية الدينية.

وكذلك قصة مريم المروية فى القرآن والأحاديث النبوية التى يشير إلى أنها مأخوذة بالكامل تقريبًا من الأناجيل المنتحلة ومن أعمال أخرى من هذا النوع، كما يشير إلى أن «إنجيل الطفولة العربى» هو واحد من الأعمال المنتحلة المتأخرة زمنيًا أو من تاريخ مجهول التى لم تكن معتمدة لدى أى طائفة مسيحية، وثمة مصادر أخرى من هذا النوع تركت بصماتها على القرآن مثل «بشارة توما الإسرائيلى» و«رسالة يعقوب» و«إنجبل نيقوديموس» ورواية «يوسف الرامى»، فقصة خلق المسيح الطيرَ من الطين ومنحه الحياة مستمدة من مصدر منتحل هو «بشارة توما الإسرائيلى»، كما أنها ترد مرتين فى «إنجيل الطفولة، كما أن فهم محمد عقيدة الثالوث المسيحية لم يكن دقيقًا، فرغم التمجيد المبالغ فيه لمريم العذراء والذى قاد محمد إلى إغفال المذهب الحقيقى للكتاب المقدس، بما يتناقض مع الإيمان المسيحى، فإن هذه الأفكار والممارسات الزائفة ازدهرت بشكل واضح من خلال تعاليم العديد من الأناجيل المنتحلة المتأخرة، فضلًا عن أن القرآن ينفى موت المسيح على الصليب، وهو يتناقض مع كتب أنبياء العهد القديم ورسل العهد الجديد، ويهدف إلى النيل من مكانة المسيح فى الصلب وإعدامه من قِبل أعدائه، فتأثير العقيدة المسيحية الصحيحة والأصيلة على القرآن وعلى الإسلام بشكل عام طفيف جدًا، فى حين نجد أن التراث المنتحل وبعض مبادئ العقائد الهرطقية يمكن الادعاء بأنها شكلت واحدة من المصادر الأصلية للديانة المحمدية.

فى كتابه «التوراة والأناجيل والقرآن الكريم بمقياس العلم الحديث»، يرد الكاتب الفرنسى موريس بكاى على مثل تلك الآراء بقوله: «تقتضينا الموضوعية أن نشير إلى افتراء وادعاء أولئك الذين يقولون كذبًا ودون أى أساس أو مستند صحيح إن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو مؤلف القرآن الكريم، وقد نقل كثيرًا من نصوص التوراة ونقل من الأناجيل. ولو كان ذلك صحيحًا فلماذا لم ينقل محمد، صلى الله عليه وسلم، سلسلة نسب المسيح كما وردت فى الأناجيل؟ وما الذى جعل محمدًا لا يدخل فى نصوص القرآن الكريم كل الأخطاء التى لاحظنا نماذج كثيرة منها فى هذا الكتاب على حين أن نصوص التوراة ونصوص الأناجيل تغص بالأخطاء غير المقبولة منطقيًا وعلميًا ولا يمكن الدفاع عنها بأى حال، بينما القرآن الكريم يخلو تمامًا من هذه الأخطاء».

الزرادشتية فى القرآن والأحاديث

يرى تيسدال أن النفوذ السياسى الذى مارسه الفرس على أجزاء معينة من شبه الجزيرة العربية والدول المجاورة فى زمن محمد وقبله كان كبيرًا جدًا، ونظرًا لأنه فى عصر محمد لم يكن العرب فى حالة استنارة حقيقية، بينما كان الفرس خلال العصور الأولى متحضرين جدًا، كان من الطبيعى أن يؤدى التواصل معهم إلى خلق حالة من الإعجاب لدى العرب بهذه الحضارة، وهو ما أدى برأيه لاستعارة العديد من الأساطير والأفكار الفارسية فى القرآن، ومنها قصة الإسراء والمعراج.

يقول: فكرة الرحلة الليلية لمحمد هذه تدخل فى تفاصيل دقيقة فيما يتعلق بالمعراج أو الصعود، فالأسطورة فى شكلها هذه مخترعة، ولكن قامت بشكل رئيسى على أساس رواية صعود «أرتاويراف» الواردة فى كتاب بهلوى يسمى «أرتاويراف نامه» الذى جرى تأليفه فى أيام «أردشير باباجان» ملك بلاد فارس، قبل حوالى 400 سنة من هجرة محمد، وفى «زرادشت نامه» وهو العمل الذى جرى تأليفه فى القرن الثالث عشر الميلادى، ثمة أسطورة تربط قصة الصعود إلى السماء بزرادشت نفسه، وكان ذلك قبل زمن أرتاويراف بعدة أجيال، حيث صعد إلى السماء ثم استأذن لمشاهدة جهنم فرأى فيها أهرمان الذى يتوافق بشكل وثيق مع إبليس فى القرآن، كما أن جزءًا كبيرًا من وصف الجنة مشتق من الأفكار الفارسية والهندوسية عن الجنة، ففكرة الحور مقتبسة من الأساطير الفارسية القديمة والحكايات التى تظهر المشهد الذى يصور مدى ترحيب حور الجنة بالمحاربين القتلى مشابه تمامًا للفكرة الآرية القديمة لمكافأة أولئك الذين قتلوا فى الحروب بعد أن أثخنوا بجراحهم فى الميدان.

ويحاجج الباحث عمر إبراهيم فى كتابه المذكور سلفًا تلك الأفكار بذكر أن المسعودى قد رجح فى تاريخه أن يكون زرادشت نبى المجوس، وقد نقل عنه أنه بشّر بالنبى محمد، وحتى لو فرضنا أنها لم تكن ديانة سماوية، فلا بُد أن تكون قد تأثرت بأكثر من دين، فقد تأثرت بالمجوسية، لأنها جاءت لتنقيتها مما دخلها من فساد- كما تأثرت بعقيدة الطورانيين لأن زرادشت عاش بينهم زمنًا بشرهم فيه بدينه، وتأثروا باليهودية لأن الزرادشتية عاصرت بعثة نبى الله موسى، وكذلك تأثرت بالهندية لاجتماعها فى عبادة الإله مترا.

وختامًا، فرغم أن تيسدال يُصدِّر كتابه بتأكيد أنه جاء نتاجًا لبحثه الموسع ودراسته لمختلف الأديان الشرقية والحديثة، لكن انتفاء الموضوعية جعل من تلك الدراسة محاولة لتقفى آثار التشابهات بين النص القرآنى وغيره من المعتقدات والديانات ليُقدم من خلال ذلك قفزًا إلى نتائج لا تترتب بالضرورة على المُقدمات التى حاول إثباتها، لأن ثمة تفاصيل ومصادر متنوعة كان من المفترض الاحتكام إليها لتأسيس مقدمات صحيحة والوصول إلى نتائج سليمة، وهو ما لم يحدث بسبب استباق البحث بتوجه ونيّة مسبقة، وليس على أساس موضوعى وحيادى يهدف إلى الفهم والتفسير والتحليل، كما أن منهج التأثير والتأثر المُتبع فى العديد من الدراسات الاستشراقية لا يمكن أن يكون منطقيًا أو جوهريًا فى دراسة النص القرآنى القائم بالأساس على استيعاب الديانات السابقة للإسلام والاعتراف بها وتصحيح ما انحرف منها.