رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مستقبل العولمة.. رؤية صينية «1»



كَثُرَ الجدل، فى الفترة الأخيرة، بسبب تداعيات جائحة «كورونا» فى المقام الأول، حول مستقبل ظاهرة «العولمة»، واتجاه الأحداث فيما يخص مظاهر تَجَسُّدها، التى كانت قد فرضت نفسها على العالم فى العقود الأخيرة، وإن اتخذت فى أحيانٍ كثيرة طابعًا يُقرِّبها من مفهوم «الأمركة»، بسبب التسلُّط الأمريكى ومحاولة دفعها لخدمة مصالح أمريكا فى المقام الأول.
ولقد تَعَرَّضَ مفهوم «العولمة» لأزمة كبيرة خلال الأشهر القليلة الماضية، أدت إلى التشكيك فى قيمها، وقيمتها، وضرورتها، وجدواها، ومستقبلها، ويعود ذلك إلى انكشاف عوراتها، وتَقَلُّص الثقة فى إمكانياتها وعوائدها بالنسبة إلى قطاع واسع من الدول والشعوب والجماعات والهيئات، بل والأفراد أيضًا، بعدما أبانت التجربة العملية عن زيف العديد من شعاراتها، وكشفت عن أنانية أغلب الدول الغربية المُتحمسة لها، والمُرَوِّجة لشعاراتها، وخيَّبَ أداء إدارات هذه الدول، وتَخبَط سلوك قياداتها «وترامب نموذج مثالى على ذلك»، ظن حتى أشد المتحمسين للنظام الرأسمالى الاحتكارى الغربى، ولفلسفة وتطبيقات سياسات «النيوليبرالية»، التى رُوِّجَ لها بشدّة خلال العقود الفائتة!
ولعل الصين هى أكثر المعنيين بالإجابة عن سؤال اللحظة: مستقبل «العولمة».. إلى أين؟ فهى أهم الدول التى اندمجت فى مجرياتها، واستفادت من أطوارها الأخيرة، وتماهت مع قواعدها، واستطاعت، بذكاء ومرونة، أن تتكيَّف مع مراحلها وتطوراتها، وحقَّقت من وراء كل ذلك فوائد هائلة، رفعتها إلى موقع المنافسة على قمة العالم الاقتصادية، فى غضون نحو أربعة عقود لا غير، ومن هنا فهى أكثر الدول تأثرًا، إيجابًا وسلبًا، بهذه الظاهرة، وأكثر الدول اهتمامًا بالنظر إلى ما حدث فى الأيام الماضية، واستخلاص دروسه وعِبَره.
ومن هنا تبدو أهمية المقال، الذى نُشر فى عدد هذا الشهر من مجلة «الصين اليوم»، «وهى المجلة الشهيرة ذائعة الصيت، التى تصدر منذ نحو سبعة عقود، باللغات الصينية، والعربية، والإنجليزية، والفرنسية، والإسبانية، والبرتُغالية، والتركية، وبغيرها من اللُغات»، ممهورًا بتوقيع كل من «هويوى شيانج»، و«ووسى كه»، تحت عنوان دالٍ: «ما بعد الوباء: العودة إلى (جزر مُنعزلة) أم (المصير المُشترك)»؟.
ويرى الكاتبان أن تداعيات وباء كورونا الجديد «كوفيد- ١٩»، وخيبة أمل البعض فى السلوك الذى واكب تصاعد أزمته، دفعتهما للتأكيد على ما سمّى بـ«العولمة العكسية»، وعلى طرح «عكس» العولمة، أى الدفع باتجاه جعل العالم يعود إلى وضعية «الجُزر المنعزلة» السابقة، ففى سياق مواجهة الوباء اتخذت البلدان المختلفة تدابير للسيطرة عليه، مثل الانعزال والمراقبة الجمركية، فضلًا عن بروز توجُّهات «الشعبوية والحمائية» التى واكبت التطور غير المتوازن، وتكثيف عدم المساواة للعولمة، على نحو ما حدث على مدى السنوات القليلة الماضية.
إن هذا الأمر، كما يعرض الكاتبان، لا يُساعد على دفع الاقتصاد العالمى إلى الخروج من أزمة الوباء فى أقرب وقت ممكن.
صحيحٌ أن «العولمة» لم تجلب فوائد ومزايا بنفس الحجم لجميع البلدان والمجموعات فى العالم، كما يؤكدان، وأدت إلى زيادة الأثرياء ثراءً والفقراء فقرًا، وأن «العولمة الإنتاجية» احتوت مواطن ضعف واختلال أيضًا، ولذلك باتت «العولمة» محل انتقاد من الدول والمجموعات التى لم تستطع الحفاظ على مصالحها الحالية، أو الفوائد التى تتوقعها.
ورغم أن «العولمة»، كما يقول الكاتبان، غير مسئولة عن تفشِّى الوباء فى العالم، فإنها أصبحت هدفًا للسياسيين فى بعض البلدان، «للانتقاد والشكوى والتهرُّب من مسئولياتهم»، وزاد من الآثار السلبية للوباء «تسييس» بعض البلدان أعمال المُكافحة، كما أن تداعيات الوباء دفعت إلى تباطؤ الاقتصاد العالمى، وانكماش السوق الدولية، ما أدى إلى «تدهور مسيرة العولمة»، واشتداد اتجاه «العولمة العكسية»، والأحادية، والحمائية، رغم أن الوقاية من الوباء ومكافحته تتطلب تعاونًا عالميًا، وتحتاج إلى «العولمة».
ويرى الكاتبان أن «العولمة»، رغم كل التحديات، سائرة إلى الأمام حتمًا، فـ«العولمة» ليست عملية تحدث مرةً واحدةً وينقضى أمرها، بل نتاج اختيارات تاريخية طويلة المدى، وهى اتجاه تاريخى وعالمى، وتتمتع بالصلابة والقوة، وأن البشرية، منذ بدأت مسيرة «العولمة» فى القرن السادس عشر «أى مع صعود الرأسمالية الصناعية والتجارية وعهود الاستعمار والبحث عن المواد الخام والأسواق لتصريف المنتجات»، واجهت وشهدت بالفعل العديد من التحديات والانتكاسات والأزمات الخطيرة، وفى كل مرّة تسبَّبت فى تغيير كبير فى المشهد الاقتصادى والسياسى العالمى، ومع ذلك فإن اتجاه العولمة لم يختف أو ينعكس أبدًا، بل استمر، بعد التعديل، فى التعمُّق والتطور على نطاق أوسع ومستوى أعمق، الأمر الذى دفع اندماج المجتمع البشرى إلى مجتمع أكثر ترابطًا.
فـ«العولمة»، كما يؤكد الكاتبان، «شىء تمارسه البشرية معًا»، ووباء «كوفيد- ١٩» ليس إنكارًا لـ«العولمة»، وإنما تأكيدًا على الحاجة لها، وبرهانًا على وجوبها، لا التخلّى عنها، وإنما التفكير فى جعل «العولمة» أكثر شمولًا لتفيد جميع البشر.