رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تدوير الفكر الثقافى والسياسى


ثمة ظاهرة غريبة فى الفكر الثقافى والسياسى فى مصر، وأعنى بها: تدوير الفكر الثقافى والأدبى والسياسى، بمعنى إعادة إنتاجه بحيث يتفق مع القدر الممكن من التطور، ومع القدر الممكن من تقبل الوسط الاجتماعى له.. هكذا حين ترجم طانيوس أفندى مسرحية «هاملت» لشكسبير عام ١٨٩٧، وطبعها عام ١٩٠٢، وقام بعرضها على المسرح ثار الجمهور فى الصالة منفعلًا غاضبًا لأن هاملت لم يسترد عرش والده! فلم يكن من طانيوس إلا أن عدّل النهاية بحيث ينتزع هاملت تاج أبيه ويتربع على العرش، فهتف الجمهور طربًا: «يحيا العدل»!
هذا التعديل، أو تدوير الأدب والفكر ليناسب الحالة المصرية، ظاهرة رافقت الفكر المصرى الحديث كله، وعندما حاول طه حسين أن يطبق منهج ديكارت فى الشك ويتناول بهذا المنهج الأدب العربى القديم، ثارت فى وجهه العواصف تطالب بمحاكمته عن كتابه «فى الشعر الجاهلى»، حتى اضطر إلى وضع حراسة على بيته خشية المتطرفين، وتراجع طه حسين فى الطبعة التالية من الكتاب وحذف ما كان زائدًا فيه عن إمكانية التطور، واكتفى بتدوير أفكاره بالقدر الذى تتماشى به مع المجتمع.
المسرح المصرى نشأ وازدهر من تدوير المسرحيات الفودفيل الفرنسية وقصقصة ما لا يصلح منها وإضافة ما يناسب المجتمع إليها.. هكذا فإن مسرحية شهيرة هى «السكرتير الفنى»، التى عرضها فؤاد المهندس، هى أصلًا من مسرحيات نجيب الريحانى، وكان قد اقتبسها عن فرقة فرنسية جاءت القاهرة، ولكنه غيّر شخصية القسيس فى المسرحية ووضع بدلًا منها شيخ مسلم! ومسرحية سيد درويش الشهيرة «العشرة الطيبة» مأخوذة عن قصة «ذو اللحية الزرقاء» الفرنسية، التى قام محمد تيمور بتعريبها وتمصيرها، وبعبارة أدق، تدويرها، ثم كتب لها الأغانى بديع خيرى، ولحنها سيد درويش لتطابق بدرجة ما أحوال المجتمع المصرى.
فى الأدب المصرى كان تدوير الأشكال الأدبية شائعًا، وقد كتب عبدالرحمن الشرقاوى روايته «الأرض» على نموذج رواية «فونتمارا» للإيطالى سولينى، لكن بمضمون مصرى، كما تأثر نعمان عاشور فى مسرحية «الناس اللى تحت» بمسرحية جوركى «الحضيض»، وعندما أخذت السينما المصرية رواية تولستوى «آنا كارنينا» وحولتها فى ١٩٦٠ إلى فيلم بعنوان «نهر الحب»، بطولة فاتن حمامة وعمر الشريف، قامت بتدوير القصة بحيث يتجه البطل إلى حرب فلسطين بدلًا من الحرب الروسية، وعدّلت الكثير بحيث يتسق الفيلم مع الحالة المصرية.. وعلاوة على تدوير الأعمال الفنية، وتدوير الأشكال الأدبية، هناك تدوير للأفكار، لكن تدوير الأفكار ظاهرة تشمل التاريخ الأدبى العالمى كله وليس مصر وحدها.
وإذا كانت «أهل الكهف» ١٩٣٣، لتوفيق الحكيم، تدويرًا جديدًا لفكرة من التراث الإسلامى، فإن مسرحية «سالومى» لأوسكار وايلد تدوير أيضًا لحكاية سالومى التى أشار إليها الإنجيل، وإلى أن سالومى رقصت للملك هيرودس لكى تحصل على رأس النبى يحيى، انتقامًا منه لأنه رفض محبتها.
ومن أكثر الأفكار التى تم تدويرها ذيوعًا وانتشارًا فى الأدب فكرة «القرين» أو «المثل»، وسنجد هذه الفكرة بقوة ووضوح عند الكاتب الفرنسى تيوفيل جوتيه، عام ١٨٣٦، فى قصته «الميتة العاشقة»، حيث يقول على لسان الراوى: «ومن تلك الليلة ازدوجت طبيعتى بمعنى من المعانى، وصار يوجد فى داخلى رجلان لا يعرف أحدهما الآخر».. وتظهر بعد ذلك نفس الفكرة فى رواية «جيكل ومستر هايد» ١٨٨٦، لروبرت ستيفنسون، ثم رواية «اعترافات آثم برىء» لجيمس هود ١٩٢٠، ثم عند إدجار آلان بو فى قصته «وليام ويلسون»، وأخيرًا تنضج عند دوستويفسكى فى روايته الشهيرة «القرين» عام ١٨٤٦، وصولًا إلى «صورة دوريان جراى» لأوسكار وايلد ١٨٩١.. فى كل الحالات يبدو أن التاريخ الفكرى يعتمد على عملية تدوير مستمرة للأشكال والأفكار، وحتى المذاهب السياسية التى وفدت إلى مصر تعرضت لتعديلات وتدوير لتناسب الحالة، وحينما أخذت مصر بالاشتراكية فى عهد عبدالناصر قامت بتعديلها لتصبح عربية تناسب الحالة ودرجة التطور الاجتماعى.