رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مرافعات كتبت التاريخ


كانت القضية هى قضية «الاتحادية» تلك القضية التى دبّر الإخوان أن تكون مذبحة للشباب الثائر على حكمهم، ولكن الله كان له تقديره، فإذا بها تصبح قضية يحاكمون من أجلها، وحينما نودى على القضية، نظر المستشار أحمد صبرى إلى المتهمين وهم فى القفص، وسبحان الله الذى يُغير ولا يتغير، يرفع أقوامًا ويخفض أقوامًا، فبعد أن كان محمد مرسى يجلس فى قصر الحكم أصبح الآن يجلس فى قفص الاتهام، وبعد أن كان يلقى أوامره لنائبه العام، أصبح النائب العام يحاكمه، وبعد أن سوّلت له نفسه أن المستشار إبراهيم صالح سيكون طوع بنانه فيحبس الأبرياء، إذا بإبراهيم صالح يقف مترافعًا ضده وضد جماعته فى قضية «قصر الاتحادية» فانقلب الآمر إلى متهم، والمأمور إلى مدعى، ولكل زمن رجال ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
جاء الآن وقت مرافعة المستشار إبراهيم صالح، والمرافعات فى الحقيقة لا ينبغى أن تُكتب ولا أن تُروى، ولكنها يجب أن تُرى وتُسمع، فبعض البيان إنما يكون فى الإلقاء، ورغم أن تلك المرافعة كانت أول مرافعة يلقيها إبراهيم صالح عبر تاريخه فى النيابة العامة فإنه ترافع وكأن هذه المرافعة هى رقم ألف فى تاريخه، وكان أروع ما فى مرافعته تسلسل الأفكار وحسن الأداء وسلامة العرض، ثم هذا الشجن الوطنى الذى غلّف مرافعته، وكأنه فيها كان يأسى على هؤلاء القوم الذين ضلوا وأضلوا، وفسدوا وأفسدوا، وها هو الأدب القضائى الرفيع الذى ستعرفونه حينما تستمعون لمرافعة هذا المستشار الذى وقف فى موقف الادعاء، وقد كان الأدب القضائى الرفيع فى مرافعته يمزج بين القانون وفكرته، والدليل وحجته، والأدب وبلاغته، فيخرج علينا سامقًا شامخًا يطاول أعنان السماء.
وفى مرافعاته ابتكر ألفاظًا وجملًا وعبارات سار عليها المترافعون من بعده، وفيها أمسك بقدراته الخطابية المذهلة بتلابيب مشاعر القضاة، وتحكم فى قيادها، فدغدغ هذه المشاعر وأثّر فيها بل تستطيعون القول إنه امتلكها، وما يعنينا هنا أن مرافعة إبراهيم صالح فى هذه القضية كانت من المرافعات التى جمعت بين التأصيل القانونى السديد، والبلاغة الأدبية الرفيعة، والقدرة الطاغية على التأثير.
بدأ صالح مرافعته بآية قرآنية، بسم الله الرحمن الرحيم «قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين»، هو الآن ينوه بأن مرافعته ستتضمن البرهان المبين على جرائم تلك الطغمة التى جلست فى قفص الاتهام تنتظر مصيرها من جراء أفعالها، ويتحداهم بأن يأتوا ببرهانهم.. ثم قرأ الآية القرآنية: «قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ».
وانطلق مترافعًا بأن «أمرنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن نقيم ألسنتنا بالحق أينما كنا ولا نخاف فى الله لومة لائم.. ها قد أذن الله لنا أن نمثل بين أيديكم لنقدم الدليل تلو الدليل على ما اقترفه المتهمون من جرم وآثام، من كذب وبهتان، من تلاعب بالأديان، نسوا الواحد الديان، فبعد أن حررهم المولى من يد السجان، وولاهم على مصر، نسوا الله وملأوا مصر بالدم والأحزان، فتيتم على أيديهم الولدان، كذبوا والله لقد أطلقوا للفتنة العنان وهانت عليهم الأوطان، ادعوا أنهم أهل القرآن، والله إنهم أهل الضلال والبهتان، تاجروا بدين الله فأسقطهم ونزع الملك منهم، فهو صاحب الملك، ينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء، اليوم آتيكم بالبرهان وبين يدى الميزان الذى شرفكم الله العدل بأن تكونوا له عنوان».
وينطلق إبراهيم صالح على هذا المنوال والكلمات تنساب من فمه انسيابًا، وتنطلق إلى قلوب المستمعين، ثم أخذ يسرد أدلة الدعوى، وهى بين أدلة قولية وأدلة فنية وأدلة مادية، ثم تناول مواقف المتهمين، كل متهم على حدة، مبينًا الجرم الذى اقترفه، وأخذ يسرد الخطب التحريضية التى قام بها بعضهم مثل وجدى غنيم، وكيف أنه أخذ يُطوِّع الإسلام ليحقق لجماعته مصالحها، وكشف عن أنهم للأسف تلاعبوا بآيات الله، وجعلوا من تلك الآيات شعارات سياسية لهم، وأخذوا من خلالها يدعون أنصارهم إلى قتل المتظاهرين وسفك دمائهم، وأبان أن كل عبارات المتهمين كانت فى حد ذاتها تحريضًا مباشرًا على القتل، وكيف أنهم جميعًا استخدموا الدين لتحقيق مآرب دنيوية رخيصة، فخطبوا عبر الفيديوهات، واستدل فى مرافعته بداعية الشر وجدى غنيم الذى قال لأنصاره إن الحق معهم فى قتل المتظاهرين استدلالًا بالآية القرآنية «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ»، وكأن من يواجههم الإخوان هم كفار ومنافقون، فما الذى يترتب على هذا التوصيف الذى تم التلاعب فيه بالدين، سوى أن يتبعه قتل وتنكيل. وعاد إبراهيم صالح فى جلسة أخرى يرد على دفاع المتهمين وكان رده مسكتًا، حيث فضح دفاعهم الذى كان يبتغى إطالة أمد النزاع، أو إحالة الجناية إلى دائرة أخرى، ذلك أنه حدث أن قام دفاع محمد مرسى برد المحكمة، رغم أن هذا الرد لم تتوافر بشأنه الشروط التى تطلبها القانون، كما أنه دفع بعدم اختصاص المحكمة ولائيًا، وهذا دفاع غير مقبول، وأورد فى مرافعته الردود القانونية على هذا الدفاع المتهافت، إذ إنهم فى دفوعهم حاولوا أن يلبسوا الحق بالباطل، فادعوا أن مرسى كان رئيسًا للبلاد، ولذلك لا تجوز محاكمته بالطرق القضائية العادية، بل يجب أن يتم تطبيق الدستور بشأنه فيما يتعلق بمحاكمة رئيس الجمهورية، هذا أمر من الممكن أن تستخدموه لو كان مرسى وقت محاكمته رئيسًا للجمهورية، ولكن الشعب كان قد عزله بثورة الثلاثين من يونيو، وصدر بعد ذلك ما صدر من إعلانات دستورية، وأصبح هناك نظام جديد، ومرسى الآن يحاكم كفرد عادى، ولا يقدح فى ذلك أن المحاكمات كانت عن جرائم ارتكبها أثناء حكمه للبلاد، ولا يغيب عن أحد أن ذات الدفع القانونى المتعلق بمحاكمة الرئيس كان قد أبداه دفاع مبارك فى قضية القرن، ولكن المحكمة رفضته لأنه حينما كان يُحاكم إنما يُحاكم بعد عزله، وغير ذلك كثير.
ولكن ماذا عن موقف مرسى؟ تأسف إبراهيم صالح فى مرافعته من موقف المتهم محمد مرسى الذى صمت ولم يحرك ساكنًا عندما علم بفض الاعتصام السلمى أمام الاتحادية ووقوع مصابين وقتلى، وهام أنصاره يُعملون القتل والتنكيل والتعذيب، وهم يحتمون بمنصب رئيس الجمهورية، ولولا هذا الاحتماء ما كانوا قد قاموا بالتعدى على المتظاهرين وحدوث تلك الكارثة.
وقد شد إبراهيم صالح الانتباه بختام مرافعته الرصينة التى أعادت للأذهان المرافعات التاريخية التى قدمها رجالات النيابة العامة فى القضايا التاريخية المهمة خلال عصور التميز والتفرد.
وفى المرافعة الختامية ترافع بهدوء وثقة المستشار مصطفى خاطر المحامى العام الأول لنيابات شرق القاهرة، وكانت مرافعته جامعة مانعة، بدأها بقوله: «أريد قبل الخوض فى المرافعة توضيح مفهوم الوطن لهؤلاء المتهمين، فالوطن ليس محض أرض أو حدود جامدة يعيشون عليه، بل فيه الحاضر والمستقبل والأهل والأحباب والولدان».
ثم ذكر جزءًا من أغنية «مصر التى فى خاطرى»، ثم إذا به يدلف مباشرة إلى محمد مرسى فقال وصوته ممتزج بالصدق والأسى إن «مرسى ارتكب ذنبًا أخطر من الجرائم الأخرى التى ارتكبها، وهو مخالفته القسم الذى أقسمه ٣ مرات أمام المحكمة الدستورية العليا وجموع الشعب المصرى بميدان التحرير، وفى جامعة القاهرة بالحفاظ على مصالح الوطن وأراضيه ورعاية حقوق الشعب المصرى، وحنث بالقسم، وبث بذور الفتنة ليحافظ على مصالح جماعته، فهل كان مرسى ومعه الإخوان قد حافظوا على السيادة الوطنية، وهل كانت فكرة الدولة واضحة لهم، وهل كان من شأن مرسى وقياداته تحقيق المصلحة العليا للبلاد، أم كانت أفعالهم تدمر البلاد؟»، مؤكدًا أن التاريخ هو من سيجيب عن هذه الأسئلة.
وأشار مصطفى خاطر إلى أن دفاع مرسى كان مترددًا فى الحضور، وحينما أصدرت المحكمة قرارها وفقًا للقانون بندب محامٍ، حضر الدكتور محمد سليم العوا، وقال إن دوره إبداء دفع شكلى بعدم اختصاص المحكمة، كما شهدت الدعوى اعتراضات عديدة، منها قيام المتهمين بإعطاء ظهورهم لمنصة المحكمة وهم فى قفص الاتهام، وتعاملت المحكمة بسمو أخلاق وشموخ القضاة مع تلك الاعتراضات، واستطرد خاطر قائلًا: «كنا نتمنى من المتهمين إثبات شجاعتهم، لكن أنكر كل منهم الاتهام، والبعض منهم أنكر معرفته بالقضية أو انتماءه لجماعة الإخوان المسلمين.. والشجاعة تظهر فى وقت الشدة، أما المتهم مرسى فهو يصر على أنه ما زال رئيسًا للجمهورية، وأن المحكمة التى تحاكمه غير مختصة ولائيًا، ومن المقرر طبقًا للقواعد الدستورية أن الشعب هو صاحب السيادة، وهو الذى يُنشئ الدساتير ويختار حاكمه ويعزله، وإذا طغى الرئيس المنتخب على الديمقراطية المحددة فى الدستور، فالبديل أمام الشعب الثورة عليه، والرئيس لا يعلو على إرادة الشعب، ولا توجد قوة للشعب بالخضوع له، فإرادة الشعب تعلو فوق إرادة الجميع، والثابت أن البلاد شهدت ثورة عارمة فى ٣٠ يونيو ٢٠١٣ أطاحت به من الحكم وتولى رئيس المحكمة الدستورية العليا رئاسة البلاد بشكل مؤقت إلى أن انتخب الشعب رئيسًا للجمهورية يمارس سلطاته طبقًا لنصوص الدستور وإرادة الشعب، وبعد سقوط مرسى بناءً على رغبة الشعب، فبالتالى سقطت عنه الحصانة».
ثم أضاف خاطر: «المادة الأولى من الدستور تقول إن جمهورية مصر العربية مستقلة، فأين هذا الاستقلال منذ أن تولى الإخوان مقاليد البلاد؟ هؤلاء كانوا يهتمون بالتنظيم الدولى لهم، والمادة الثانية تنص على أن الإسلام دين الدولة، وأن الشريعة الإسلامية مصدر التشريع، وهؤلاء المتهمون نسوا الشريعة وروّعوا الآمنين وعذبوا أهل الكتاب ظلمًا وقهرًا، كما أن المادة الخامسة نصت على أن الشعب يمارس السيادة على الوجه المبين فى الدستور، والمادة ٣١ نصت على أن الكرامة حق لكل إنسان، ولا يجوز بحال إهانة أى إنسان أو ازدراؤه، فأين هذه الحقوق؟ وفى القرآن الكريم آية لو أدركها محمد مرسى لعمل بها، وهى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ»، وهذه الآية تتضمن مبادئ الرحمة والشورى وليس الاستقلال عن غالبية الشعب، وقال الرسول لأهل مكة: «يا معشر قريش: ما تظنون أنى فاعل بكم؟ قالوا: خيرًا أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء»، وهذه الرحمة لم نشاهدها فى هذه الدعوى، أين هذا مما شهدناه عند أسوار قصر الاتحادية من سفك الدماء؟!»
وحينما انتهى خاطر من مرافعته كانت قلوب الإخوان الذين يجلسون فى القفص ترتجف، فقد زالت دولتهم ولن تعود.