رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رفض تبعية الأزهر لوزارة المعارف «1-2»



محمد إبراهيم الأحمدى الظواهرى الشافعى «١٨٧٨م- ١٩٤٤م» أول شيخ قبيلة عربية يتولى مشيخة الأزهر، ولّى المشيخة فى سنة ١٩٣٠م، وفى أيامه أنشئت الجامعة الأزهرية الحديثة ومجلة الأزهر ومطبعته، وفى عهده أرسلت بعوث الدعوة إلى الصين واليابان والحبشة والسودان للدعوة الدينية.
ولد بقرية كفر الظواهرى بمحافظة الشرقية سنة ١٨٧٨. كان أبوه من خيرة علماء الأزهر، فعُنِى بتعليم ابنه، وتعهده بنفسه، وفى الوقت نفسه كان يتردد على حلقات العلم بالجامع الأزهر، ولم يكن يلتزم بدراسة كتاب محدد، أو يتقيد بحضور درس شيخ معين، باستثناء حلقات الإمام محمد عبده، وعندما اطمأن الشيخ إلى ما حصّل، وأنه قادر على الوقوف أمام لجنة الامتحان، قرر التقدم للامتحان، وكان الامتحان شاقًا لا يجتازه إلا من بذل غاية جهده فى القراءة والبحث ومعرفة دقائق العلم، وتتألف لجنة الممتحنين عادة من كبار علماء الأزهر، وهى توجه للطالب بأسئلة تكشف عن حقيقة ما حصّل، وتنتقل من علم إلى آخر، وعلى الطالب النابه أن يجيب عن ذلك.
شاء الله أن يمتحن الأحمدى الظواهرى أمام الشيخ محمد عبده، الذى تقرر أن يرأس اللجنة بدلًا من الشيخ «سليم البشرى»، شيخ الجامع الأزهر، فتطرّق الخوف إلى قلب الطالب؛ لأنه يعلم ما بين الشيخ وأبيه من النفور والجفاء، فأحسن الطالب المجتهد فى الإجابة، وهو ما جعل الإمام يُثنى عليه ويقول له: «والله إنك لأعلم من أبيك، ولو كان عندى أرقى من الدرجة الأولى لأعطيتك إياها».
ما كاد الشيخ الأحمدى ينال العالمية من الدرجة الأولى حتى رشحته مواهبه للتدريس بالقسم العالى بمعهد طنطا، وانتدبه شيخ الأزهر لهذه المهمة، على الرغم من حداثة سنه، وجلال المعهد الذى كان يُعد أقدم المعاهد الأزهرية بالأقاليم، ويلى الأزهر فى المكانة والمنزلة، ويمنح شهادة العالمية لطلبته مثل الأزهر.
كان المعلم الشاب موهوبًا، فلفت الأنظار إليه، واتسعت حلقته العلمية، وأقبل الطلاب عليه لغزارة علمه، وجمال عرضه، وقدرته على الإقناع والإفهام، وألّف فى هذه الفترة كتابًا بعنوان «العلم والعلماء» دعا فيه إلى الإصلاح، وانتقد طريقة التدريس بالأزهر، وكان ينحو فى دعوته منحى شيخه محمد عبده، وأثار الكتاب ضجة كبيرة، وامتعض منه الخديو عباس حلمى، وأصدر الشيخ الشربينى شيخ الجامع الأزهر- وكان له موقف متعنت من حركة الإصلاح فى الأزهر- أمرًا بإحراق الكتاب.
فى أغسطس ١٩٠٧م توفى إبراهيم الظواهرى، والد الأحمدى، وكان يشغل مشيخة معهد طنطا، التى تلى من الناحية الرسمية مشيخة الأزهر، وسمت نفس الأحمدى إلى أن يخلف والده فى هذا المنصب، وأيده أعيان طنطا وكبراؤها، فكاتبوا الخديو عباس حلمى يرجونه تنفيذ هذه الرغبة، لكن صغر سن الشيخ الذى لم يتجاوز الثلاثين وقف حائلًا دون تحقيق هذا الأمل، وحين عرض عليه منصب وكالة المعهد تمهيدًا للمشيخة فى الوقت المناسب، رفض الأحمدى وقال لأحمد شفيق باشا الذى نقل إليه هذا العرض: «إننى أشكر جناب الخديو وأشكر سعادتكم، ولكنى لا أزال على موقفى، فإما شيخًا فأقوم بالإصلاح، وإلا فسأبقى مدرسًا كما أنا».
وعاد الأحمدى الظواهرى إلى القسم العالى بمعهد طنطا يدّرس لطلبته المصادر الكبرى التى لا تُدرس إلا لطلبة العالمية فى الأزهر، فقرأ على طلبته مختصر ابن الحاجب فى أصول الفقه، والعقائد النسفية فى التوحيد ودلائل الإعجاز لعبدالقاهر فى البلاغة، وصحيح البخارى، فانظر إلى صاحب هذا العقل الذى كان يتقن هذه العلوم، ويقوم بتدريسها من مصادرها وأمهاتها الكبيرة وهو فى هذا العمر المبكر.
ولما خلا مكان شيخ معهد طنطا شغله الظواهرى، على الرغم من معارضة كثيرين من شيوخ الأزهر فى يناير ١٩١٤م، وفى عهده افتتح المبنى الجديد للمعهد، وحضر الخديو حفل الافتتاح، وحاول الشيخ أن يجرى إصلاحات عديدة فى المناهج الدراسية ووسائل التدريس، لكنه كان مقيدًا بالحصول على موافقة المجلس الأعلى للأزهر، ولما كان معظم أعضائه من «المحافظين»، فإن جهوده لم تلق دعمًا منهم، واضطر الشيخ إلى الاعتماد على نفسه فى تطوير الدراسة فى حدود اختصاصاته، وأنشأ عدة جمعيات للطلاب فى الخطابة واللغة والتوحيد، يبث من خلالها أفكاره الإصلاحية، وأنشأ مجلة للمعهد وأسهم بماله فى تكوينها، فكانت لسان المعهد وتعبيرًا عن أنشطته الثقافية.
ولما تولّى الملك فؤاد عرش البلاد توقفت صلته بالأحمدى الظواهرى، لكن الوشاة أوغروا صدره عليه، فتغير من ناحيته، واستحكم العداء بينهما، وتوالت الدسائس، وكان من نتيجتها إلغاء القسم العالى بمعهد طنطا؛ إنقاصًا لأهميته، وبالتالى أهمية شيخه، ثم صدر قرار بنقل الظواهرى شيخًا لمعهد أسيوط، وكان معهدًا ابتدائيًا صغيرًا، ليحولوا بينه وبين المناصب العليا.
تجددت الدعوة إلى إصلاح الأزهر والنهوض به فى عام ١٩٢٥م، وكان من بين الصيحات دعوة غريبة إلى جعل الأزهر تابعًا لوزارة المعارف وتكون لها السيطرة عليه، على أن يبقى لشيخه مظهره الدينى ووضعه اللائق فى الرسميات، وكان رأيًا خطيرًا هدامًا، يبغى إلغاء الأزهر وهدم مكانته التاريخية ومنزلته فى العالم الإسلامى، وكان للشيخ الظواهرى موقف كريم؛ حيث ثار على هذا الرأى، ورأى فيه خطرًا داهمًا على الأزهر، فصدع برأيه قائلًا: كيف نقر ضم الأزهر للمعارف.. فى الوقت الذى ننادى فيه باستقلال الجامعة المصرية وبعدها عن نفوذ المعارف، اللهم إلا إذا كان وراء هذا الضم غرض خاف هو القضاء على الأزهر ونفوذ الأزهر، وبالتالى على النفوذ الدينى فى البلاد؟!
تولى الشيخ الأحمدى الظواهرى مشيخة الجامع الأزهر وتعلقت الآمال بالشيخ الجديد، الذى سبق وأعلن عن منهجه الإصلاحى من قديم فى كتابه «العلم والعلماء»، وكان الإمام عند حُسن الظن، فخطا خطوة موفقة فى مجال إصلاح الأزهر، ولعلها أبرز هذه الخطوات لما ترتب عليها من نتائج، كان أبرزها ظهور الكليات الأزهرية التى صارت نواة الجامعة الأزهرية، تضمن «قانون إصلاح الأزهر» الذى صدر فى عهده سنة ١٩٣٠م جعل الدراسة بالأزهر أربع سنوات للمرحلة الابتدائية، وخمس سنوات للمرحلة الثانوية، وألغى القسم العالى، واستبدل به ثلاث كليات هى: كلية أصول الدين، وكلية الشريعة، وكلية اللغة العربية، ومدة الدراسة بها أربع سنوات، يمنح الطالب بعدها شهادة العالمية، وأنشأ القانون نظامًا للتخصص بعد مرحلة الدراسة بالكليات الثلاث: تخصص فى المهنة، ومدته عامان، وتخصص للقضاء ويتبع كلية الشريعة، وتخصص الوعظ والإرشاد ويتبع كلية أصول الدين.
نستكمل فى الحلقة المقبلة.