رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

زينب عتريس تكتب: آيا صوفيا.. جعجعة بلا طحن

زينب عتريس
زينب عتريس

وجدتني - على غرار عنوان مسرحية شكسبير الرائعة- أردد : "جعجعة بلا طحن"، بعد سماعي خبر إقرار تحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد .. هو بالفعل كثير من اللغط حول لا شيء.
لكن ما دفعني للكتابة، هو رد فعل كثير من المصريين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فرحين بأن متحفاً قد صار مسجداً، و هو وصف غير سليم يحتاج أن نصححه، ثم نوجه كلمة- أراها ضرورية- لمن قال هذا بنية طيبة لا بنية سياسية موجهة صوب دعم إردوغان،.
"آيا صوفيا" كنيسة.. هذه حقيقة واضحة بسيطة لقد كانت آيا صوفيا على مدار 1016 عام كاتدرائية مقدسة ولمدة 478 عام مسجدا و لمدة 85 عام متحفًا للإنسانية و رمزًا لتركيا التي تؤمن بمبدأ "أتاتورك": "سلام بالداخل سلام بالعالم".
بالعام 360 تم افتتاح الكنيسة العظمى -كما كانت تُسمى وقتها- لتكون واحدة من أعظم الكنائس بالعالم المسيحي، لتستمر الى العام 404 حينما تم إحراقها في أعمال شغب كبرى، ليُعاد تأسيسها بالعام 415 الى حين احتراقها من جديد، بأعمال شغب أخرى بالعام 532 ليقرر الإمبراطور "جستنيان الكبير" تأسيس ثالث و أخير للكنيسة بصورة أكثر إجلالا و عظمة و يفتتحها بالعام 537 .
مرت على الكاتدرائية التي صارت مقر بطريركية القسطنطينية- أي قدس أقداس المسيحية بالشرق- عديد من الكوارث: زلازل، و حرائق دمرت أجزاء واسعة منها، ليعاد ترميمها ثلاث مرات، وبحلول العام 1345 مرت الكنيسة بآخر تجديد مسيحي لها، وفي عام 1453 تم غزو القسطنطينية و تحويل الكاتدرائية الأرثوذكسية الشرقية المقدسة، إلى مسجد سني على غرار عشرات الكنائس بالمدينة، و التي بدورها تحولت إلى مساجد.
ظل وضع "آيا صوفيا" بوصفها مسجدًا حرجاً، كلما ضعفت الدولة العثمانية و زادت قوة أوروبا- و بالذات اليونان و روسيا: ورثة النفوذ الروحاني للكنيسة الأرثوذكسية الشرقية بالقسطنطينية- زادت المطالبات برد "آيا صوفيا" ، و مع غزو اليونان لساحل "إزمير" التركي عام 1919 بعد هزيمة الدولة العثمانية بالحرب العالمية الأولى، و مع احتلال القسطنطينية من قبل الجيش البريطاني و تقسيم تركيا بين الثلاثي: الأرمني - الفرنسي - الإيطالي، بات حلم الكنائس الشرقية في استرداد "آيا صوفيا" على وشك التحقيق، خاصة بعد إقامة صلاة ارثوذكسية بها عام 1919 بمعرفة قس يوناني بالجيش الغازي.
لكن هذا تلاشى مع إعلان "مصطفى كمال" باشا (أتاتورك) حرب الاستقلال 1920 و التي انتهت 1922 بهزيمة كل قوى التحالف، و خروجهم من تركيا و تصالحهم مع الجمعية الوطنية التركية، برئاسة "مصطفى كمال باشا" و بالذات اليونان التي هُزمت بقسوة عامي 1921 و 1922 مما أدى لتحرير كامل أراضي تركيا، و تأسيس جمهورية تحل محل السلطنة 1923 و إلغاء الخلافة 1924.
و عادت "آيا صوفيا" من جديد لإثارة الجدل، أوروبا تضغط باسم الحقوق اليونانية الدينية، و ظلت "آيا صوفيا" مشكلة تؤرق العلاقات بين تركيا و أوروبا و رمزاً للحق المسلوب، يجيء العام 1931 ليتم إقرار عمل صيانة تامة للمكان وإغلاقه في الفترة ما بين: 1931 - 1935. مع حفريات واسعة تهدف للتأريخ له بشكل دقيق؛ ثم جاء القرار الأخير بجعل المكان متحف في عام 1934؛ ليتم افتتاحه لكل الأديان و الزوار، تحت شعار: "سلام بالوطن سلام بالعالم". مما لتنتهي المشكلة مع اليونان عام 1935.
فماذا حدث اليوم ؟
لأسباب واضحة تتعلق بالبروباجندا السياسية الداخلية و الصدام مع اليونان حول ملفات قبرص و الغاز و منذ 2015 تم التمهيد و التهديد لتحويل "آيا صوفيا" إلى مسجد، واليوم و بعد وصول الأمور لحائط مسدود مع اليونان و قبرص تم إقرار تحويل المكان إلى مسجد مع بقاء حق الزيارة للجميع من كل الديانات.
هل تعلم انك كداعم لخطوة تغيير صفة "آيا صوفيا" الى مسجد فأنت داعم للخطاب السياسي الأردوغاني في صياغته المُعرًبة الموجهة إليك؟
الواقع أن لأردوغان خطابين؛ كما أن له وجهين، خطاب بالإنجليزية و الفرنسية موجهٌ لأوروبا و المؤسسات الدولية؛ قال فيه بوضوح إن "آيا صوفيا" ستظل مكانًا مفتوحًا لكل الأديان و للزيارات العالمية و لن يفقد المكان صفته الأممية،
و لأردوغان خطاب آخر تم تعريبه وتوجيهه لك انت كمصري أو عربي؛ يلجأ فيه إلى الحديث عن الهوية العثمانية -التي لا تخصك كمصري- و الحديث عن دين الإسلام و الفتوحات الإسلامية ثم ربط كل هذا بتغيير وضع "آيا صوفيا" .
إن ما أرفضه ان تكون منساقا-بوصفك مواطنا مصريًّا- وراء خطاب سياسيٍ مزدوج، له وجهان، ترى منه فقط ما يروق لك، و الآخر يتم تصديره لأوروبا، وهذا خداع، إن رضيت به فقد رضيت أن تُخدع بإرادتك الحرة .
فأين تكمن مشكلتنا ؟
مشكلتنا مع المصري الذي لا يفهم سبب الضجة، والسبب واضح، المكان منهوب مسلوب من الكنيسة الأرثوذكسية، مكان تم السطو عليه بقرار سياسي مؤسس على عناد وتحويله من رمز عالمي للسلام إلى رمز للحرب من جديد.
والسؤال في الحقيقة الموجه لمن يسائلنا، "هل تقبل انت أن تحول اسرائيل المسجد الاقصى لمعبد" ؟
ستقول إن "اردوغان" يتكلم عن أن الرهبان قاموا ببيع "آيا صوفيا" للسلطان الغازي محمد الثاني" و هنا حَكِّم أنت عقلك، مدينة ضُربت بالمدافع و خمس سكانها أسرى أو عبيد تم اعتبارهم غنائم حرب وصارت المدينة منهوبة الثروات و كنيستها بيد السلطان هل يمكن تصديق انهم أحرار في بيع بيت الرب الأكبر- على حد وصفهم-لأحد كائنا من كان؟ و هل أصلا تم البيع؟ الكنيسة تنفي أي بيع و تؤكد أن أسلافهم لم يملكوا حق بيع بيت ديني، تماما كما لا يملك أحد حق بيع المسج الأقصى.
هي جعجعة بلا طحن .
"آيا صوفيا" كاتدرائية حولت قسرًا إلى مسجد شأنها شأن عشرات الكنائس التي صارت مساجد بإسطنبول و تم إصلاح الخطأ بجعلها متحفًا تاريخيًا للإنسانية، الجعجعة التي تمت بجعلها مسجد هي بلا نتيجة حقيقية فالحاكم المسلم لا إنجاز له في أن تحويل أي كنيسة أو معبد إلى مسجد ، هي تصرفات كيد سياسي ضد اليونان و قبرص على خلفية غاز المتوسط و انت تهلل لقرار للمرة الثانية يسلب الكاتدرائية.
مشكلتنا، انك ترفض قواعد السلام في حظر تحويل الدور الدينية لمساجد و تدعم قرارا سياسيا يثير صراعا و احتقانا دينيا مسيحيا إسلاميا من جديد، مشكلتنا انك تعطي لإسرائيل سابقة تستند لها في التعامل مع الأقصى، مشكلتنا أنك تهلل لسرقة و تدعم ظلما و تروج لقرار سياسي على أنه نصر ديني.
مشكلتنا، أنك تدعم قرار يشعل أزمة دينية ستمس كل مُسلم بسبب قرار أحمق لرجل يمارس خلطاً بين المقدس و السياسي، و لا يهتم إلا بتوجيه ضربات لخصمه أيا كان أثرها على مليار مسلم، مشكلتنا أنك تدعم سرقة وتخالف أمراً دينياً و تؤيد أمرًا بـ "اسطنبول" ترفضه في "القدس"، مشكلتنا أنك تجعجع بلا طحن.