رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مارسيل نظمي تكتب: رجاء الجداوي وجميل راتب أناقة رحلت ولم تعد

مارسيل نظمي ورجاء
مارسيل نظمي ورجاء الجداوي

حاولت أتحاشى الحديث عن رحيل الفنانة رجاء الجداوي قدر المستطاع، لأن الحدث جلل، نعم لست أبالغ، فرحيل "هانم السينما" لم يكن بالأمر الهين على كل متابع للفن، وما يحدث بالساحة الفنية المرتبط بموضوع الساعة "التحرش"، والحماية المجتمعية التي يستظل بها المُتحرش. موضوعات تبدو مختلفة لكنها كتلة واحدة للمدقق.

جميل راتب.. عزت أبو عوف.. ورجاء الجداوي.. ثلاثي الأناقة التي غابت

هذه الأسماء الثلاثة مجرد ذكرها يحفز الخيال على تصور أزياء أنيقة، وطريقة كلام من زمن "بنسوار يا هانم"، ومع رحيل كل منهم عن عالمنا خفق قلبي، وشعرت بالقلق على أناقة تُحارب الآن بكل السبل تحت بند الحفاظ على العادات والتقاليد تارة، أو حماية الأخلاق تارة أخرى.

الثلاثة ومعهم أسماء أخرى رحلوا في العشر سنوات الماضية، مثل نور الشريف وفاتن حمامة، هم ليسوا نجومًا عظام فحسب، لكنهم كانوا جزءًا من تاريخ مصر وصورتها الراقية والشيك، شكلوا جبهة حرب ودفاع ضد الرجعية والذوق القبيح، ومع وفاتهم علينا أن نقلق من القادم، لأن الموجودين حاليًا يرسمون صورة جديدة للفن قوامها الخوف، وتكبيل ما تبقى من حريات.

فنانو اليوم يتحدثون عن أخلاقهم وعلاقتهم الدينية بربهم أكثر ما يتحدثون عن الفن، يتحفونا بآراء من نوعية وضع شروط على عقود العمل تتضمن عدم وجود مشاهد عاطفية، وإذا سلمنا للأمر وقلنا أنها حريتهم الشخصية، لم نسلم بالتأكيد من الحرب ضد من يؤمن بالعكس.

دعونا نتخيل ممثلة خرجت لتوها الآن تقول "أنا مع القبلات في التمثيل"، يا لفظاعة ما ستلاقيه هذه المسكينة من تنكيل وشتائم تمس شرفها، فالحرية إذن فقدت هويتها في يومنا، هي تسير فقط مع من يتكلم باسم الأخلاق والدين، أما من يتكلم بلغة فنية متحررة فليس له الحق في قول شيء.

فريد الأطرش وقبلات من زمن فات

في زمن فني ما، حين سُئل الفنان فريد الأطرش عن القبلات قال: "أنا لا أؤمن بالحب دون القبلات، القبلة هي الخاتم الذي يطبعه العشاق على ميثاق الحب".

أما لبنى عبد العزيز قالت عن القبلات السينمائية: لقطة فنية خطيرة لا يقدر عليها إلا ممثل متمكن.

هذا كان ياماكان.. حين كان من حق الممثل التعبير بحرية عن رأيه، دون خوف من جموع تتحدث كآلهة، يحاسبون ويرجمون كل من يخالفهم، وحين كان الفن فنًا، وليس ساحة للوعظ الديني، أو التباهي بمن لديه أخلاق أكثر، أما الآن فالحرية كما قلنا تسير في اتجاه واحد فقط، ومناصروها يقفون مع من يتحدث لهم كشيخ وليس كممثل.

رجاء هانم الجداوي آخر المؤمنات بالرقص

حزننا على رجاء الجداوي سبب كبير منه خوفنا على الحريات العامة، التي نراها تنقص تدريجيًا، وحتمًا ستتلاشى إذا ظللنا نهادن الفكر الجمعي الكاره للفن، وهذا ما لم تفعله رجاء، لم تطاوع السائد، بل واجهت بمزيد من العمل واليقين برسالة الجمال حتى آخر العمر.

بدايتها لم تكن مفروشة بالورود، كانت مكافحة خرجت من بيت عانى من طلاق الأم والأب، وتربت هي وأخوها مع خالتها، لكنها لم تخضع لحظة للفكر السعران الذي كان يشوه قيمنا الفنية الراسخة منذ مئات السنين، لم تخجل من خالتها كانت تقول بفم مليان: "أنا تربية الرقاصة تحية كاريوكا" ما كان يزيد ضدها من حنق أعداء قوة بلدنا الناعمة.

رجاء الجداوي كانت صورة مصر مثل السفراء، تجوب في جولات مع الرئيس جمال عبد الناصر لتمثيل البلد في محافل عالمية، ومسابقات للجمال والثقافة، كانت تقف أمام الجموع تتحدث عن أهمية القطن المصري بعد فوزها بلقب ملكة جمال القطن عام 1958، وأوكل إليها الرئيس الراحل مهمة تدريب عارضات أزياء مصريات في وقت كانت المهنة تقتصر على الجاليات الأجنبيات الشقراوات، ولم يكن معتادًا وجود وجه مصري لعروض الموضة.

رجاء الجداوي لم تتب من "ذنب" التمثيل، أو هكذا اعتبرته الفنانات المعتزلات عنه في عصر الصحوة الوهابية التي قادتها مجموعة أفكار رجال قادمون من بلاد النفط في الثمانينات - لم تفعل هي ذلك - بل ظلت مؤمنة برسالتها حتى آخر لحظة في عمرها.

لكل ما سبق من حقنا نحزن، على قيمة وقامة كبيرة، ومن حقنا أن نقلق على جيل من الفنانين لايعرفون عن الفن سوى الحديث عن المشاهد الساخنة، نقلق على جيل لا يخجل من التعامل مع الممثلات النساء في حال صفعهن بالأفلام أو ركلهن بالأرجل، أو سحلهن من شعورهن، يعتبرون هذا فنًا وحرية، أما الأحضان والقبلات فيخافون منها ويجرمونها.

من حقنا نقلق على مستقبل بلدنا من قضية التحرش التي تجد مباركة اجتماعية وغطاءً لها بدعوات تُشرك المرأة كسببٍ، نقلق حين نقارن بين وقت كانت لدينا فيه رجاء الجداوي ملكة الأناقة والجمال، ولم تعرف في زمنها - كما أمهاتنا أيضًا لم يعرفن - معنى كلمة التحرش، على الرغم من ارتدائهن لكل جميل وأنيق وقصير وأنثوي أيضًا.

لأجل كل ما سبق، نودع رجاء الجداوي، وعزت أبو عوف، وجميل راتب، ونور الشريف، وفاتن حمامة، وكل فنان عرف قيمة فنه ودافع عن الجمال، ونأمل أن يجود زمننا بنجوم مؤمنين بالحرية والفن مثلهم.