رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تحديات مصيرية


بات واضحًا أنه قد فُرض على مصر وشعبها، فى هذه الأيام الصعبة، ألَّا تغفل عن العديد من التحديات المصيرية، أو الوجودية، التى تُجابهها على كل المستويات، فهناك المعركة ضد الإرهاب، التى لا يقتصر وجودها على سيناء، وإنما تمتد عميقًا فى الداخل، وفى الخارج، على نحو ما نراه مُجسَّدًا فى التحركات الخطيرة لـ«أردوغان» وعصاباته من المُرتزقة وجماعات القتل والتخريب على حدودنا الغربية مع ليبيا.
وهناك التهديدات الإثيوبية والمناورات المكشوفة لإضاعة الوقت وتبديد الزمن، والإصرار على ملء «سد النهضة»، دون أدنى اعتبار لمصالح مائة مليون مصرى ووجودهم المادى، فضلًا عن المخاطر الفادحة التى تهدد شعب السودان، ثم هناك تحدِّى وباء «كورونا» فى ظل تصاعد وتيرة المُصابين والمتوفين، مع رفع الحظر بصورة مُتزايدة، إضافة إلى التحديات الاقتصادية المرتبطة بتوابع هذه الأزمة، وأبرزها تراجع مؤشرات النمو السنوى، وتفاقم أوضاع المديونية الخارجية وكلفتها، بعد أن أُضيف إليها نحو ثمانية مليارات دولار، فى الأيام الأخيرة، بما يعنيه ذلك من أعباء جديدة لسداد الديون وفوائدها، وغيرها.
غير أن هناك أخطارًا أخرى عديدة، ناجمة عن ملفات مُحتقنة لا يُمكن تجاهلها، ولا يجب إغفال أنها تُداهمنا، ولا تقل تأثيراتها السلبية ومخاطرها المُتصاعدة على الأمن الوطنى والقومى عن التهديدات السابق الإشارة إليها، ومن هذه الملفات ملف الأزمة اللبنانية الذى تتداعى مُكوناته المُحتقنة يومًا بعد يوم، والملف اليمنى بكل ويلاته، والملف العراقى بكل تعقيداته، والملف السورى بكل مُشتملاته.
وأخيرًا: فهناك الملف الفلسطينى بأزماته التاريخية، والمُرشَّح لانفجار متسلسل وشيك، بسبب ضراوة الأطماع الصهيونية التى لا سقف لها ولا حدود، والدعم الأمريكى الفاجر، السافر، المُعلن عنه فى إطار «صفقة القرن»، فى ظل انحياز إدارة «ترامب» الكُلىّ للتوجهات الإرهابية التى تقود السياسة الصهيونية، يستوى فى ذلك حزب «الليكود» اليمينى المُتَطَرِّف، وحزب «أبيض- أزرق» الذى لا يقل عدوانية أو تَطَرُّفًا، وخلفهم كل سُكَّان الكيان الاستعمارى الصهيونى، الواقفون «على قلب رجل واحد» لالتهام آخر أوصال الأرض الفلسطينية المُتبقية، لكى تبتلعها المعدة الإسرائيلية الشرهة التى «تهضم الزلط»، قبل أن تتوجه لالتهام أراضٍ عربية أخرى. والمُذهل العجيب أن دولًا نفطية اختارت هذا التوقيت بالذات لكى تُكافئ العدو الصهيونى على سرقته الأرض والعرض والوجود والحياة، فهدمت كل الحدود والحواجز، وسقطت فى بئر التطبيع المجانى، فى سابقة غريبة تعكس اختلالًا خطيرًا فى فهم الأوضاع، وتحديدًا خاطئًا للأولويات، وإدراكًا مُشَوَّشًا لطبيعة التهديدات والمخاطر، بل ووصل الأمر إلى حدود التمهيد لإعلان حلف سياسى اقتصادى عسكرى استراتيجى، بين بعض هذه الدول «العربية» وبين الكيان الصهيونى المغتصب، فى مواجهة ما يُسمونه: «الخطر الشيعى» المُشترك.
لقد أعلنت الحكومة الصهيونية الجديدة، بقيادة «نتنياهو» و«جانتس»، بوضوح، عن اعتزامها ضم الأراضى الفلسطينية المُحتلة، التى بُنيت عليها مستوطنات إسرائيلية عديدة: «أريئيل، جوش عتصيون، معالى أدوميم،...»، أوائل شهر يوليو الجارى، بُمباركة أمريكية، وفى ظل صمت عربى فاضح، ولم يعترض على هذه الخطوة الخطيرة سوى دول من الجماعة الأوروبية، أدركت أنها خطوة تفجيرية من العيار الثقيل، ستؤدى إلى انهيار الوضع الهش فى المنطقة، وإلى تداعيات بالغة الخطورة، ليس على الفلسطينيين وحسب، وإنما على كل الدول المُحيطة: «مصر والأردن ولبنان وسوريا وغيرها»، بل وستمتد آثار هذا الوضع الجديد إلى أوروبا والعالم أجمع. ومن المهم مُلاحظة سياق اللحظة الراهنة التى تأتى فيها هذه التطورات، فالعالم بأسره مشغول بمواجهة «كورونا» عن كل شىء آخر، والانقسام الفلسطينى ما زال يتسيَّد الموقف، والدول العربية تلهث فى مواجهة أوضاعها المأساوية، ولا يُنتظر أن يكون لها موقف يمنع تنفيذ الأطماع الصهيونية التاريخية، التى واتتها الفرصة ولن تتراجع فى انتهازها، خاصة مع موقف «ترامب» وحزبه، وأركان حكمه الليكوديين أكثر من الليكود ذاته.
يقولون إن «المُصيبات لا تأتى فرادى»، وها هى «قبضة» مُشكلات جديدة، تنضاف إلى ما لدينا من قضايا، وهو أمرٌ جد خطير، يحتاج إلى إعمال الفكر، وإشغال الذهن، للبحث عن أفضل السُّبل للنجاح فى مواجهتها بأقل التكاليف.
وليس لدى أى منا حلول سحرية لمجابهة المأزق الراهن، غير أن هناك «مؤشرات» عامة يمكن الإلماح لها، أولها الثقة فى الشعب المصرى، والاعتماد على وعيه التاريخى فى مواجهة الأزمات، وتماسك بنيانه وقت الملمات.