رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

النيل من "النجاشي" إلى "السيسي"!


كانت الهجرة إلى الحبشة ـ "أثيوبيا في العصر الحديث" ـ هي أول هجرة في الإسلام، حدثت بعد سنتين من الجهر بالدعوة، وخمس سنوات من مبعث الرسول، حيث اشتد أذى قريش على المسلمين. وكان عدد المسلمين يزداد يومًا بعد يوم، وظهر الإيمان، وذاع أمر الإسلام بمكة، فتحرش كفار قريش بمن آمنوا، ووكلوا أمرهم لقبائلهم تعذب من تعذب وتحبس من تحبس، فكان الرجل يعذبه أولو قرباه ويسجنونه ليردوه عن دينه إن استطاعوا.
وحين اشتكى المسلمون للرسول سوء ما حل بهم؛ أذن لهم بالهجرة إلى بلاد الحبشة وقال لهم: "لو خرجتم إلى الحبشة، فإن بها ملكًا لا يُظلم عنده أحد، وهي ـ أرض صدق ـ حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه". فخرج المسلمون من أصحاب رسول إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة، وفرارًا إلى الله بدينهم فكانت أول هجرة في الإسلام.

أسوق إليكم هذه الواقعة التي حدثت في الزمان البعيد، والتي نستخلص منها العظة والعبرة في كيف تتلاحم الشعوب بالمحبة والإخلاص؛ بصرف النظر عن الجنس واللون.. والعقيدة! وكيف أوصي سيدنا رسول الله معشر الذين دخلوا في دين الإسلام مجددًا باللجوء إلى ملك الحبشة "غير المسلم"؛ لحمايتهم وتأمينهم والعيش في كنفه معززين مكرمين إلى أن تُكتب لهم العودة بدينهم الجديد إلى ديارهم.

وربما يكون الحديث عن "الحبشةأثيوبيا" هذه الأيام؛ يختلف كل الاختلاف عما ساقته إلينا صفحات التاريخ من وقائع تعكس مدى التلاحم في الشدائد والملمَّات، على النقيض ممانراه هذه الأيام من محاولات الاستفزاز الممنهج للدولة المصرية من حكام الدولة الأثيوبية وبمساندة القوى المضادة العالمية؛ والتهديد باستكمال مايسمونه بـمشروع "سد النهضة" الذي يقع على مجرى النيل العظيم القادم بشكل أساسي من مصدرين رئيسيين هما: "بحيرة فيكتوريا" الواقعة على حدود كل من أوغندا، وتنزانيا، وكينيا، والتي تعتبر ثالث البحيرات العظمى في العالم، وبحيرة "تانا" الواقعة في أثيوبيا؛ بهدف التحكم في حصة المياه التي تختص بها مصر ـ طبقا للمعاهدات الدولية المعتمدة ـ ناهيك عن محاولات الزج بها في مصادمات دامية ـ بامتداد ضفتي نهر النيل العظيم ـ للهروب من شبح التصحر والعطش اللذين يهددان سكان وادي النيل على خريطة القارة الأفريقية.

ولاستبيان مدى أهمية نهر النيل للحياة على أرض مصر المحروسة؛ لمعرفة لماذا وقفت القيادة السياسية المصرية الوطنية بكل الحزم والصرامة للحفاظ على "حصة مصر" وشعبها في ماء الحياة النابضة بسريان هذا النهر العظيم؛ نذكر ماورد في كتب التاريخ ـ بتصرف ـ: "يشتق اسم النيل من الكلمة اليونانية (نيلوس) التي تعني الوادي أو وادي النهر، وكان يُطلق عليه القدماء المصريون واليونانيون اسم كيم أو كيمي أي النهر الأسود بسبب لون الرواسب السوداء التي يحملها النهر عندما يكون في الفيضان، ويُعد أطول نهر في العالم وكان يدعى باب الأنهار الأفريقية، حيث يبلغ طوله ما يقارب 6،650 كيلومترًا ويمتد من الجنوب من خط الاستواء ويتدفق شمالًا عبر شمال شرق أفريقيا ليصبْ في البحر الأبيض المتوسط الذي يحدّه من الشمال لتبلغ مساحته في المجمل ما يقارب 3.3 ملايين كيلومتر مربع، ويحده من الشرق تلال البحر الأحمر والهضبة الأثيوبية، ومن الجنوب المرتفعات في شرق أفريقيا، ومن الغرب تحده تشاد وحوض الكونغو، كما يمر نهر النيل بعشر دول هي: تنزانيا، وبوروندي، ورواندا، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وكينيا، وأوغندا، وجنوب السودان، وأثيوبيا، والسودان، والجزء المزروع من مصر. ويُغطي حوض نهر النيل حوالي عُشر مساحة قارة أفريقيا، والذي كان مسرحًا لتطور الحضارات المتقدمة في العالم القديم.

ونظرًا لأهمية هذا الملف الخطير الذي تتابعه القيادة السياسية المصرية بكل الحزم والإصرار والقوة؛ اجتمع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بمجلس الأمن القومي لبحث تطورات ملف سد النهضة الأثيوبي؛ للتأكيد على موقف مصر المبدئي بالاستعداد للجلوس حول مائد المفاوضات المستديرةح من أجل التوصل إلى اتفاقات عادلة ومتوازنة بما يؤتي الثمار لللحفاظ على مصالح مصر وأثيوبيا والسودان؛ ووضع برنامج زمني لإجراء مفاوضات تحت مظلة بنود المواثيق والمعاهدات الدولية المنظمة للمجاري المائية؛ وبخاصة التي تتوقف عليها حياة الشعوب وتراثها الأبدي الذي وهبه الله لها على أرض المعمورة.

والآن.. ونحن نرى أن المفاوضات المصرية الأثيوبية حول "سد النهضة" المزمع البدء في تشغيله لحجز مياه النيل القادمة إلى "الوادي"؛ تواجه التعثر والتعنت من الجانب الأثيوبي بعدم الاعتراف برأي المهندسين المصريين في عدم تحمل "جسم السد" لتخزين المياه خلفه واحتمالات الانهيار المتوقعة التي تهدد أمن السودان ومصر، فإن القيادة الوطنية المصرية "قد" تضطر آسفة إلى استخدام الخيار العسكري لوقف هذا التحدي السافر؛ والذي تسانده وتقوم على تمويله قوى الصهيونية العالمية؛ لتهديد الأمن المصري!

إن مصر ليست داعية حرب.. بل داعية وداعمة للسلام والأمن العالمي، كما جاء ذلك على لسان الرئيس عبد الفتاح السيسي في أكثر من لقاء واجتماع على المستوي الداخلي والخارجي.

تلك كانت مقارنة سريعة وموجزة لأحداث ٍ تاريخية جسام؛ وكيف كانت تتم المعالجة لتلك المواقف في الماضي والحاضر؛ هذا الحاضرالذي تحكمه وتتحكم فيه الأطماع المادية والتناحر حول المكتسبات الاقتصادية والبترولية والمائية،وبين من ينتصرون للدين والعقيدة ؛ والاحتماء بالحاكم العادل الذي ينتصر للإنسان وحريته في العقيدة وكرامته التي لاحياة بدونها.

وستنتصر مصر للنيل العظيم.. فالنيل هبة المصريين ؛ منذ حكم "النجاشي" ملك الحبشة إلى الحاكم الوطني العادل الزعيم "عبد الفتاح السيسي"!

أستاذ ورئيس قسم الإنتاج الإبداعي بأكاديمية الفنون