رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشيخ محمد الخضر حسين.. العالِم الجليل والوطنى الزاهد


محمد الخضر حسين «١٨٧٦م - ١٩٥٨م» عالم دين تونسى من أصل جزائرى، تولى مشيخة الأزهر فى الفترة «١٩٥٢ - ١٩٥٤».
ولد محمد الخضر حسين فى مدينة «نفطة» بتونس فى ١٦ أغسطس ١٨٧٦م، وأصل أسرته من الجزائر، من عائلة العمرى، من قرية طولقة ببسكرة، وهى واحة من واحات الجنوب الجزائرى، وأصل والدته من وادى سوف بالجزائر أيضًا، ووالدها هو الشيخ مصطفى بن عزوز وخاله الشيخ محمد المكى بن عزوز.
اسم الشيخ هو «محمد الأخضر بن الحسين بن على بن عمر»، فلما جاء إلى الشرق حذف «بن» من اسمه على الطريقة المشرقية، وغلب عليه «الخضر» عوضًا عن الأخضر، ونشأ الشيخ فى أسرة علم وأدب من جهتى الأب والأم، وكانت بلدة «نفطة» التى ولد فيها موطن العلم والعلماء، حتى أنها كانت تُلقب بالكوفة الصغرى، وبها جوامع ومساجد كثيرة، وهى واحة بها زرع وفيها فلاحون.
ونشأ الشيخ فى هذه البيئة طالبًا للعلم، فحفظ القرآن ودرس العلوم الدينية واللغوية على أيدى عدد من العلماء، منهم خاله الشيخ محمد المكى بن عزوز الذى كان يرعاه ويهتم به، وحاول الشيخ منذ سن الثانية عشرة أن يقرض الشعر، ثم برع فيه بعد ذلك.
ولما بلغ الشيخ سن الثالثة عشرة انتقل إلى تونس مع أسرته ودرس فى جامع الزيتونة وهناك درس على يد خاله محمد المكى بن عزوز الذى كانت له شهرة كبيرة بالجامع ويدرس فيه مجانًا، ودرس على أيدى مشايخ آخرين أبرزهم الشيخ سالم بوحاجب الذى كان من أعمدة الإصلاح فى تونس، درس على يديه صحيح البخارى، وقد تخرج الشيخ فى الزيتونة سنة ١٨٩٨م، وألقى دروسًا فى الجامع فى فنون مختلفة متطوعًا، وبقى كذلك مع حضور مجالس العلم والأدب المختلفة.
رحل الشيخ فى أول أمره إلى الشرق سنة ١٣١٣هـ وما كاد يصل إلى طرابلس الغرب ويستقر بها حتى عاد إلى تونس فلازم جامع الزيتونة، وفى شهر أبريل ١٩٠٤م أنشأ مجلة «السعادة العظمى»، وهى أول مجلة عربية ظهرت فى تونس، وكانت تصدر كل نصف شهر، ولم يصدر منها سوى ٢١ عددًا ثم انقطع صدورها، وقد كان الشيخ يكتب أغلب مقالاتها. وُلِّىَ الشيخ قضاء «بنزرت» عام ١٩٠٥م وقام بالتدريس فى جامعها الكبير، وما لبث أن استقال وعاد إلى تونس وتطوع للتدريس فى جامع الزيتونة، ثم أحيل إليه تنظيم خزائن كتب الجامع، فى سنة ١٣٢٥هـ، شارك فى تأسيس الجمعية الزيتونية، وخلالها عُين مدرسًا رسميًا بجامع الزيتونة، وقام خلال هذه الفترة بالتدريس والخطابة فى الجمعية الخلدونية، فلفت الأنظار بسعة علمه.
رحل الشيخ إلى الجزائر وزار كبرى مدنها، وألقى بها دروسًا مفيدة، وما لبث أن عاد إلى تونس، وإلى التدريس بجامعها، وقد حاولت فى هذه الفترة السلطات الفرنسية ضمه إلى المحكمة الفرنسية فرفض بشدة، وفى سنة ١٣٢٩هـ وجهت له تهمة روح العداء للغرب وخاصة سلطات الحماية الفرنسية، فأحس الشيخ بأن حياته وحريته فى تونس معرضة للخطر، فسافر إلى إسطنبول بحجة زيارة خاله بها، وبدأ رحلته بمصر ثم دمشق فإسطنبول، وعندما سمع بأن الأحوال هدأت بتونس عاد إليها عن طريق نابولى الإيطالية، لكنه وجد أن الأمر ازداد تعقيدًا، فأزمع الهجرة نهائيًا واختار دمشق موطنًا ثانيًا له، وخلال رحلته مر بمصر والتقى بمشايخها الكبار الساكنين بها، مثل الشيخ طاهر الجزائرى ومحمد رشيد رضا والشيخ محب الدين الخطيب.
حصل على عضوية هيئة كبار العلماء برسالته «القياس فى اللغة العربية» سنة ١٩٥٠م، ثم اختير شيخًا للأزهر فى ١٦ سبتمبر ١٩٥٢م. وكان فى ذهن الشيخ حين وُلِّىَ المنصب الكبير وسائل لبعث النهضة فى مؤسسة الأزهر، وبرامج للإصلاح، لكنه لم يتمكن من ذلك، ولم تساعده صحته على مغالبة العقبات، ثم لم يلبث أن قدم استقالته احتجاجًا على اندماج القضاء الشرعى فى القضاء الأهلى، وكان من رأيه أن العكس هو الصحيح، فيجب اندماج القضاء الأهلى فى القضاء الشرعى؛ وكانت استقالته فى ٧ يناير ١٩٥٤م، ويذكر له فى أثناء توليه مشيخة الأزهر قوله: «إن الأزهر أمانة فى عنقى أسلمها حين أسلمها موفورة كاملة، وإذا لم يتأت أن يحصل للأزهر مزيد من الازدهار على يدى، فلا أقل من ألا يحصل له نقص». وكان كثيرًا ما يردد: «يكفينى كوب لبن وكسرة خبز وعلى الدنيا بعدها العفاء».
من مؤلفاته: «رسائل الإصلاح» وهى فى ثلاثة أجزاء، ديوان شعر «خواطر الحياة»، أديان العرب قبل الإسلام، تونس وجامع الزيتونة، تونس ٦٧ عامًا تحت الاحتلال الفرنسى ١٨٨١-١٩٤٨، حياة ابن خلدون ومُثل من فلسفته الاجتماعية، دراسات فى العربية وتاريخها، الرحلات، الخيال فى الشعر العربى.
وبعد استقالته من المشيخة تفرغ للبحث والمحاضرة حتى توفى فى مساء الأحد ٢٨ من فبراير ١٩٥٨م، ودُفن بجوار صديقه أحمد تيمور باشا بوصية منه، ونعاه العلّامة محمد على النجار بقوله: «إن الشيخ اجتمع فيه من الفضائل ما لم يجتمع فى غيره إلا فى النّدْرَى، فقد كان عالمًا ضليعًا بأحوال المجتمع ومراميه، لا يشذ عنه مقاصد الناس ومعاقد شئونهم، حفيظًا على العروبة والدين، يردّ ما يوجه إليهما وما يصدر من الأفكار منابذًا لهما، قوى الحجة، حسن الجدال، عف اللسان والقلم …».
لقد فتحت مصر- كأم حاضنة تحمل المحبة للجميع- أبوابها فى النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجرى لزعماء النهضة والإصلاح، واستقبلت قادة التحرير فى العالم الإسلامى، فحلوا بها خير محل، ولقوا من الحفاوة والكرم ما جعلهم ينعمون بالاستقرار فيها، وصارت القاهرة كعبة العلماء ومهوى الأفئدة، اتخذها بعضهم موطنًا دائمًا له، واستقر بعضهم فيها حينًا من الدهر ثم عاد إلى بلاده. واستقبلت مصر فى هذه الفترة محمد رشيد رضا صاحب مجلة «المنار»، ومحب الدين الخطيب صاحب المكتبة السلفية المجاهد المعروف، والعلامة محمد صبرى شيخ الإسلام فى الدولة العثمانية ووكيله الشيخ محمد زاهد الكوثرى، والشيخ محمد الخضر حسين وغيرهم. ولم تكتف مصر بحسن استقبال هؤلاء الأعلام النابهين، بل منحت بعضهم جنسيتها، وبوأتهم أعلى المناصب الدينية، مثلما فعلت مع الشيخ محمد الخضر الحسين، حيث اختارته ضمن الرعيل الأول المؤسس لـ«مجمع اللغة العربية»، وعينته أستاذًا فى كلية أصول الدين، وكافأته بتنصيبه شيخًا للجامع الأزهر.