رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

معادن الناس يكشفها زمن «كورونا»


إذا كان فيروس «كورونا المستجد» اللعين قد غيّر كثيرًا من شكل الحياة التى اعتدنا عليها من قبل، إلا أنه أيضًا قد كشف لنا عن معادن الناس، فظهرت معادن ناس من ألماس وناس من الذهب وناس من الفضة، وناس قلوبها حجر وناس أخرى من الصفيح وناس يصعب أن نقول إنهم بنى آدمين.
وأنا لدىّ يقين، من خلال تأملى أحوال الناس، أن خريطة العلاقات بين الناس سوف تتغير بعد انقشاع هذا الفيروس اللعين، خاصة مع استمرار انتشار كورونا والبقاء فى البيوت لعدة شهور، والتباعد الاجتماعى والإجراءات الاحترازية التى فرضتها ظروف الانتشار السريع للعدوى.
ومع ظهور عدة تفسيرات لهذا الوباء الغامض بأنه فيروس مستجد ووباء قاتل أو أنه غاز سام أو خطة للقضاء على نصف البشرية للتخلص منهم وبقاء الأقوى بنيانًا- فإنه ساد فى العالم رعب وهلع وخوف من كل شىء، فتغيّرت الحياة بشكل كلى وجديد علينا فى بلدنا وفى كل العالم، وتغيّر شكل ممارساتنا اليومية وتغيّر شكل ومستوى العلاقات بيننا وبين الآخرين.
ولقد توقفت قليلًا أتأمل الناس من حولى وعلاقاتهم ببعضهم بعضًا أثناء زمن الوباء، فوجدت أن هناك من يمتلكون مشاعر إنسانية فتجدهم يسألون عنك ويتواصلون لتبادل أخبار بعض، والسؤال على أفراد أسرتك لمجرد الاطمئنان عليك وعلى أحوالك والتأكد من عدم إصابة أحد من أفراد أسرتك بالفيروس.
وجدت مثلًا طبيبة محترمة تعافت من «كورونا» تتطوع لإعطاء البلازما لوالدة صديقة لها أُصيبت.. رأيت على «فيسبوك» طبيبًا محبًا لوالدته ويدعو الناس للدعاء لوالدته التى أُصيبت بالفيروس.. أما أنا فوجدت نفسى أن شغلى الشاغل الذى يتلاءم مع طبيعة شخصيتى ومشاعرى الإنسانية يتجسد فى حرص شديد على ارتداء الكمامة ليس فقط لحماية نفسى ولكن لحماية أمى وأفراد أسرتى وأحبابى وأصدقائى وصديقاتى وحتى الآخرين ممن لا أعرفهم.
أصبحت أكثر عطفًا على أمى، لأننى أحسست بقيمة ما قدمته لى منذ الصغر وطوال عمرى، فأدركت أن كل قيمة عليا اكتسبتها منها، وكل مبدأ نبيل اكتسبته منها، وأن نعمة العطاء للآخرين قد اكتسبتها منها أيضًا، فهى رائدة فى العمل الاجتماعى والخيرى نذرت نفسها طوال حياتها لأن تعطى جهدًا كبيرًا للخير ولتطوير جمعية هدى شعراوى التى رأيتها لـ٣٠عامًا، ثم أصبحت رئيسة شرفية لها لتمكين الجيل الأصغر سنًا من تولى المسئولية واستمرار العطاء للأكثر احتياجًا للمجتمع.
وأدعو ليلًا ونهارًا أن تُشفى من آثار جلطة فى المخ أُصيبت بها منذ ٢١عامًا فأصابتها بشلل نصفى لكنها استمرت تعطى فى الخير، مما تطلب أيضًا رعاية يومية لها ودعمًا نفسيًا حرصت أنا عليه لتقاوم آلامها الجسدية والنفسية، كما كشف لنا «كورونا» عمن يكترثون لأمور وقضايا بلدهم، فيقفون لدعمها وتظهر قيم الانتماء والولاء لقائدنا ولجيشنا الذى يحمينا والذى نفقد منه فى كل يوم شهداء أبرارًا دفاعًا عن الأرض والعرض، ويظهر ذلك الانتماء على مواقع التواصل الاجتماعى والإنترنت واضحًا ومشرفًا.
وفى تقديرى أن رجال جيشنا هم رجال من ألماس لأنهم فى كل الظروف يقفون كالأسود للدفاع عنا وحماية الشعب والأمن القومى لمصرنا الغالية، كما أظهر الفيروس ناسًا معدنهم من ذهب، فهؤلاء يحرصون على ارتداء الكمامة حماية للنفس وأيضًا حرصًا على حماية الآخرين.
وكشف لنا فيروس «كورونا» عن معادن من فضة لناس لديهم شهامة يمدون يد المساعدة والعون لكبار السن ممن يحتاجون المساعدة فى حياتهم، ويتصدقون، وفقًا لمقدرتهم، على الأسر الفقيرة القريبة منهم، ولدينا أطباء من ألماس أيضًا لديهم عطاء نادر وأخلاق نبيلة، فهم يرتدون الكمامة والقفاز الطبى، وفى نفس الوقت يبذلون أقصى جهد لعلاج المرضى ويواصلون العمل ليلًا ونهارًا بقلوب مليئة بالرحمة والصبر.
نعم لقد حدث تباعد اجتماعى طويل الأمد فرضته علينا جميعًا ظروف «كورونا» فاضطررنا لأن نبتعد مسافات عن الآخرين فى كل مكان، لكن ذوى القيم النبيلة والأخلاق الكريمة حرصوا على علاقة التواصل الإنسانى مع أصدقائهم وأقاربهم ومعارفهم وزملائهم وبما يشعرهم بأنهم يهتمون بأمرهم، وهذا التواصل الإنسانى هو فى حد ذاته يعطى طاقة إيجابية للآخر فى هذا الزمن الصعب الذى نعيشه ونواجهه بإجراءات مستجدة.
ومن ناحية أخرى، كشف فيروس «كورونا» عن ضعاف النفوس والأخلاق والقيم واللامبالاة، وأظهر لنا ناسًا معدنهم رخيص من صفيح أحاطه الصدأ من كل جانب، فرأينا رجالًا ونساءً لا يكترثون لصحة الآخرين ويتجاهلون الإجراءات الاحترازية ولا يأبهون بمشاعر الآخرين، فتجدهم لا يرتدون الكمامة ولا يراعون المسافات المطلوبة لحماية الآخرين ولا يهمهم أمر غيرهم، وهؤلاء يكون معدنهم رخيصًا غير قابل للإصلاح ومن الأفضل الابتعاد عنهم.
وهناك من تُدهش لقدرتهم على القسوة واللا مبالاة، فرأينا شابًا يرفض تسلم جثمان والدته المتوفاة خوفًا من «كورونا»، وهذا فى تقديرى أسوأ سلوك لأن فيه عقوقًا بالأم التى أوصى ديننا الإسلامى بها.. ورأينا أهالى يجسدون قمة الأنانية وهم بذلك مثل سيئ لأبنائهم التلاميذ، حيث شاهدنا لقطات مشينة لهم صباح امتحان الثانوية العامة، حيث رأيناهم يقلون أبناءهم إلى لجان الثانوية العامة دون كمامة، ويتزاحمون مع الآخرين مما يعكس لامبالاة بحماية الآخرين من تلاميذ وأولياء أمور، كما رأينا ممارسات ممنهجة بهدف إيذاء الآخرين، حيث يقوم بعض جماعات الظلاميين بتشجيع التجمعات بغية نشر العدوى على أوسع نطاق، كما يتولون بث السموم بمعلومات مغلوطة فى مواقع التواصل الاجتماعى.
إن هناك أيضًا ناسًا غير عاطفيين لا يشعرون بالغير، ولا يُكنون أى مشاعر صداقة أو زمالة أو محبة لأحد، وهؤلاء لا بد أنهم لن يجدوا حولهم أحدًا، وسيفتقدون وجود أى علاقات إنسانية بعد انقشاع «كورونا»، لأنهم يتسمون بجفاف المشاعر ويفضلون علاقات المصالح وهى علاقات تنتهى بانقضاء المصلحة، فيسقطون فى بئر الاكتئاب والوحدة واليأس، وهناك ناس لديهم نظرة سوداوية للحياة، ويصدّرون مشاعر الاكتئاب واليأس للغير، وهؤلاء ينبغى الابتعاد عنهم إلى أبعد نقطة ممكنة مصدر طاقة سلبية لمن يتعامل معهم.
وفى تقديرى، فإن تأثير فيروس «كورونا» سيستمر فترة طويلة فى تغيير طبيعة وشكل العلاقات بين أفراد المجتمع، ما يعنى تشكيل معالم خريطة جديدة لعلاقات كل منا، وسيتم رسم ملامح الخريطة الجديدة وفقًا لقدرتنا على التفاؤل والأمل والتواصل الإنسانى مع الناس والمعارف والأحباب.. فهذا الفيروس الغامض والخطير جعلنا نمر بأيام صعبة وطويلة وشهور ثقيلة ومضنية وما زال يلقى بظلاله الكثيفة على شكل الحياة اليومية التى اعتاد عليها كل منا، وأيضًا ستظهر عادات جديدة وتختفى عادات قديمة.. وفى تقديرى أنه ستظهر أيضًا قيم جديدة كما ستندثر قيم قديمة، وما زال لدىّ أمل كبير فى انقشاع هذا الفيروس الغامض على خير ودون خسائر كبيرة فى الأرواح وفى الاقتصاد.. بعد أن أصاب العالم كله، فغيّر من شكل الحياة ومن علاقات البشر فى كل المجتمعات.