رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

10 ملاحظات على خط مصر الأحمر


الأولى: نبّه الرئيس السيسى، السبت الماضى، إلى أن الأمن القومى المصرى يبدأ من محور سرت الجفرة فى ليبيا، على بعد ١٠٠٠ كم من الحدود المصرية.. هذا التنبيه يمثل إعادة صياغة لمفهوم أمننا القومى، فى ضوء التطورات السياسية والعسكرية الأخيرة فى ليبيا، وبالاستفادة من التجربة المريرة التى مرت بها مصر، عندما عشش الإرهاب الأسود فى سرت وقام بذبح ٢١ من أبنائنا على الهوية فبراير ٢٠١٥، كما انطلقت خلاياه من درنة لتقتل ٢١ من رجالنا فى الفرافرة، و١٦ فى الواحات بالصحراء الغربية، ناهيك عن استهدافهم المدنيين فى الصعيد والوجه البحرى.. هذا التحديد لمفهوم الأمن القومى المصرى لم يكن له أن يتم دون تطور كمى ونوعى فى قدرة مصر العسكرية، وامتداد لأذرعها الجوية والبحرية لتغطى نطاقات عمليات ما كان يقدر لها تغطيتها من قبل.. مصر، الدولة التاسعة على مستوى العالم من حيث القوة العسكرية، تُعبّر عن قدرتها، وتترجمها إلى إجراءات عملية تكفل حماية مصالحها.

الثانية: ولكن لماذا سرت هى الخط الأحمر؟.. سرت تحتل موقعًا متوسطًا بين الحدود الشرقية لليبيا ونظيرتها فى الغرب، وتطل على قرابة ٤٠٠ كم من ساحل البحر المتوسط.. تعتبر بوابة للمناطق الجنوبية بفزان، وهى قاعدة للانطلاق إلى الواحات التى تقع إلى الشرق والجنوب.. دارت فيها معركة القرضابية، أكبر معركة ضد الإيطاليين فى ٢٩ أبريل ١٩١٥، التى اتحد فيها كل الليبيين، وهُزمت فيها إيطاليا، كما عُقد فيها أول مؤتمر للوحدة الوطنية فى ٢٢ يناير ١٩٢٢ لتوحيد الجهاد ضد الغزو الإيطالى.. هذه أحداث وطنية لا تخلو من دلالة، فى زمن الأزمة.. حتى «داعش» عندما قرر نقل نشاطه إلى ليبيا، وسعى للتأثير، اختار سرت لتكون مركزًا للانطلاق منها إلى كل أنحاء الدولة.

الثالثة: سرت تستوطنها قبائل معروفة بتاريخها الوطنى، العمامرة والهماملة وورفلة والقذاذفة والفرجان ومعدان وأولاد سليمان والمغاربة وغيرها، ولعل ذلك يفسر أنه عندما بدأ تدفق العسكريين الأتراك والمرتزقة السوريين والأسلحة التركية ضمن الاتفاق السياسى بين أردوغان والسراج، فى نوفمبر ٢٠١٩، أدركت قبائل سرت أن ليبيا تتعرض لخيانة وطنية عظمى تفتح الباب واسعًا للاحتلال التركى، لذلك بادرت فى يناير ٢٠٢٠ بفتح أراضيها على مصراعيها لدخول الجيش الوطنى وتمركزه فى مواقع استراتيجية لمواجهة الغزو، والدفاع عن ليبيا، وتأمين مصادر ثرواتها.


الرابعة: خط سرتالجفرة يمثل فى مفهوم الأمن القومى المصرى حدًا لسيطرة المستعمر التركى والمرتزقة السوريين وميليشيات السراج لا ينبغى تجاوزه.. هذا الخط يمثل فى الحقيقة حدًا للبيئة الحاضنة للتطرف والإرهاب التى يمثلها أعضاء جماعة الإخوان المسلمين وأنصار حزب «العدالة والبناء»، وأعضاء ومريدو الجماعات المتطرفة بدءًا من فلول ثوار بنغازى وانتهاء بعناصر «القاعدة» و«داعش» والميليشيات المتطرفة.. إذن دخول مصر الحرب الليبية على هذا النحو استكمال لمعركتها ضد الإخوان، التى حسمتها فى الداخل ٣٠ يونيو ٢٠١٣، وجاء الوقت للمساعدة على حسمها فى ليبيا، خاصة بعد أن هرب العديد من عناصر الإخوان المصريين والتحقوا بالتنظيمات المتطرفة هناك، ثم استعانوا جميعًا بالحماية التركية، مقابل تنفيذ المشروع التركى، الذى هو نفسه مشروع «داعش»، مع استبدال أبوبكر البغدادى بـ«رجب طيب أردوغان» كخليفة لدولة الإرهاب، التى يخطط لتمتد وتغطى كل دول شمال إفريقيا.


الخامسة: مصر نجحت فى توفير المشروعية الدولية لتحركها فى ليبيا بعدة إجراءات بالغة الأهمية.. الأول: إعلان المبادرة المصرية لحل الأزمة الليبية ٦ يونيو، التى طرحتها مصر للتوصل إلى حل سياسى ينأى عن التدخلات الأجنبية فى الأراضى الليبية، هذا الإعلان حظى بتوافق دولى شبه كامل، على نحو أقرب إلى إقرار صحة الرؤية المصرية، وحسن نيتها تجاه الأزمة الليبية.. الثانى: التصويت الشعبى بالتأييد للموقف المصرى من جانب الشعب الليبى الشقيق، والمظاهرات الشعبية المؤيدة للتدخل المصرى خرجت فى سرت وطبرق وبنغازى والبيضا ودرنة والمرج وأجدابيا.. الثالث: البيانات المؤيدة الصادرة عن رئيس وأعضاء البرلمان الليبى، والمجلس الأعلى لمشايخ وأعيان ليبيا، ومجالس أعيان ومشايخ قبائل ترهونة وطبرق.

السادسة: عرض مصر تدريب وتسليح أبناء القبائل الليبية للدفاع عن بلدهم، ووضع حد للتغوّل التركى، ووقف أعمال الميليشيات الإرهابية والمرتزقة الداعمين لحكومة فايز السراج، هذا الإجراء هو البديل الأمثل للتعامل مع الموقف الراهن.. ليبيا تواجه غزوًا خارجيًا، والجيش الوطنى فى ظل القرار الدولى بحظر السلاح، الذى ينفذ بصورة انتقائية، لم يستطع منذ ٤ أبريل ٢٠١٩ حسم المعركة ضد ميليشيات طرابلس، وكل يوم يتدفق المزيد من العسكريين الأتراك والمرتزقة والأسلحة والعتاد، على نحو سمح لهم بإجبار الجيش على الانسحاب من محيط طرابلس تمامًا، ومن كامل منطقة الساحل الغربى حتى الحدود التونسية، وقاعدة الوطية وترهونة، وهى تطورات بالغة الخطورة صارت تهدد بدخول تركيا «سرت»، وفتح الطريق للسيطرة على الهلال النفطى، وفتح الطريق نحو بنغازى.. هذا التغير الدرامى يفرض رادعًا إقليميًا توفره مصر، على أن يتولى أبناء القبائل المدربون والمسلحون الذين يتم إلحاقهم بالجيش تحرير ما تم احتلاله بمعرفة الغازى التركى، وتطهيره من الميليشيات والمرتزقة، وبالتالى تتم استعادة الدولة الليبية، وإعادة بناء الجيش الوطنى القادر على حمايتها.


السابعة: رد الفعل المبدئى لتركيا تجاه التحدى المصرى عبّر عنه إبراهيم قالن، المتحدث باسم الرئيس أردوغان، حيث أعرب فيه عن تفهم أنقرة المخاوف الأمنية «المشروعة» للقاهرة حيال الحدود المصرية الليبية، غير أنه انتقد مصر لاتباعها «سياسة خاطئة» بدعم حفتر، الذى اتهمته بتقويض جميع اتفاقات الهدنة ومبادرات خفض التوتر.. هذا الموقف يعكس دلالات بالغة الأهمية، أبرزها التريث وعدم الاندفاع فى تبنى موقف عدائى يدفع فى اتجاه المواجهة.. فمواجهة مصر التى تربطها بساحة المعركة حدود برية تتمركز بالقرب منها قواعد عسكرية جوية وبحرية مؤهلة، أمر ينبغى التفكير فيه جيدًا، خاصة أن أقرب قاعدة عسكرية تركية مهمة يمكن التعويل عليها تبعد عن ميدان المعركة بقرابة ٢٠٠٠ كم، وتفصلهما مياه شرق المتوسط، غير أن ذلك لا يمنع التحسب لعملية جس نبض تركية، لقياس زخم رد الفعل المصرى، وهو ما ينبغى مواجهته بأشد درجات القوة، حتى تستبعد فكرة المواجهة.


الثامنة: احتمالات التدخل المصرى فى ليبيا تحظى حتى الآن بعدم رفض الخارجية الأمريكية، التى أشادت بما ورد فى خطاب الرئيس السيسى بشأن ضرورة العمل على تعزيز وقف إطلاق النار، وأكدت دعمها الجهود المصرية للعودة إلى المفاوضات السياسية التى تقودها الأمم المتحدة.. ذلك مبدئيًا يعتبر موقفًا إيجابيًا لأن السياسة الأمريكية فى ليبيا تتسم بالتردد، وتتعايش ببراجماتية مع الأمر الواقع.. لم تكن راضية عن الغزو التركى، ولكن عندما وجدت تصميمًا تركيًا ساومت وتقبلت.. تدخُّل مصر قد ترى فيه واشنطن وسيلة أكثر قبولًا إقليميًا ودوليًا، وربما يترتب عليه الحد من فرص التدخل الروسى، وهو العامل الحاسم فى تحديد الموقف الأمريكى.. تلك مؤشرات مبشرة لكنها تحتاج لجهد دبلوماسى وتواصل سياسى فعال مع واشنطن لتأكيده.
تدريب وتسليح أبناء القبائل يستهدف وضع حد للتغوّل التركى ووقف أعمال المرتزقة الداعمين لـ«السراج»

التاسعة: التدخل المصرى لن يواجه معارضة روسية كما تحاول أن توحى بعض وسائل الإعلام، استنادًا إلى علاقات التعاون الاستراتيجى بين موسكو وأنقرة، لأن الحقيقة أن مصر وروسيا تنبذان الإرهاب، وبالتالى فهما فى الجانب المؤيد للجيش الوطنى والبرلمان الشرعى، ويكفى أن موسكو رفضت مؤخرًا استقبال السراج حتى لا تتم المزايدة على زيارته، والادعاء بتأييدها له.. كما أنها ألغت زيارة وزيرى الدفاع والخارجية لأنقرة عندما تردد وجود صفقة سياسية لتبادل المصالح بين إدلب وليبيا.. روسيا أسيرة مصالح متشابكة مع تركيا، ما يجبرها كثيرًا على التوصل لتفاهمات معها.. التدخل المصرى فى ليبيا يعفى موسكو من تلك التفاهمات، دون التضحية بالتوجهات السياسية الروسية.


العاشرة: الأزمة الليبية ينبغى أن تدار ضمن إطار استراتيجى شامل، وذلك نتيجة لترابط المصالح بين القوى المعادية لمصر.. مما يفسر اتفاق إيران على دعم حكومة السراج فى ليبيا مقابل دعم تركيا الحوثيين فى اليمن.. توقيت اجتماع أبى أحمد، رئيس وزراء إثيوبيا، بكبار القادة العسكريين ليس جزافيًا.. ولا ينبغى أن تفاجئنا موجة جديدة من العمليات الإرهابية فى سيناء، وربما محاولة نقلها إلى الصعيد أو الدلتا.. زيادة نشاط اللجان الإلكترونية بالتكامل مع الأبواق الإعلامية الصادرة عن الدوحة وأنقرة أمر متوقع.. والتشكيك فى حسن ترتيب مصر أولوياتها سلاح ينبغى أن نبطله بالوعى، وتلك مسئولية أجهزة الإعلام الوطنية، وكل من هو قادر على تقديم الدعم.