رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كورونا وقضايا الإبداع الأدبى


تروج الآن الكتابة حول تأثير وباء كورونا فى الإبداع الأدبى، والتغيرات التى قد تتعرض لها طرق وقضايا الإبداع فى ظل هموم ذلك الوباء.. وإذا أردنا الدقة فإن علينا أن نسأل: هل نعنى بالإبداع الأشكال الأدبية السردية، أم مضمون تلك الأشكال، أم المدارس الأدبية؟
بالنسبة للمدارس الأدبية فإن مدرسة مثل الرومانسية ظهرت مع الانتقال المزلزل من النظام الإقطاعى إلى مجتمع صناعى تبرز فيه أهمية الفرد وحريته وفرديته، كما ظهرت المدرسة الدادية بعد الحرب العالمية الأولى كنوع من الاحتجاج اليائس على الحرب، أما بالنسبة للأشكال الفنية التى استقرت ملامحها العامة منذ زمن، مثل القصة والمسرحية والرواية وحتى القصيدة، فإن تلك الأشكال ذات طبيعة ثابتة نسبيًا لا تتبدل بسهولة، ولهذا لم تتبدل كثيرًا المبادئ العامة التى قامت عليها القصة بصفتها أداة للكشف عن اللحظة، وكذلك الأمر بالنسبة للأشكال الأخرى. 

ومن هذه الزاوية فإن وباء كورونا لن يطرح جديدًا ولا تجديدًا، وستظل تكتب كما كانت تكتب من قبل الرواية والمسرحية والقصيدة والقصة، إلا أن الوباء الأسود سيفرض ظله على مضمون الأعمال الأدبية، بمعنى أن فكرة المصير الإنسانى الموحد ستتصدر قائمة الاهتمام الفكرى إلى حين، بعد أن رأينا، وما زلنا نرى، أن الوباء لا يميز بين فقير وثرى، بين من يشغل منصبًا مرموقًا وبين بائع جوال، بين أبناء الشمال الصناعى وأبناء الجنوب الزراعى.
وسيطرح الوباء، الذى لا يعرف فروقًا وهو يحصد ضحاياه، فكرة أنه ما من فوارق بين البشر، وأننا إزاء قضية وحدة المصير الإنسانى، وإزاء فكرة أنه لا نجاة لأحد من دون الآخرين، ولا نجاة للآخرين من دون كل فرد.. وقد سبق أن طرح الأدب فكرة المصير الإنسانى المشترك، لكن على المستوى الاجتماعى عند جورج أورويل فى روايته «١٩٨٤»، وعند كافكا فى رواية «المحاكمة» وغيرهما.
كما طُرحت الفكرة ذاتها، لكن على المستوى الكونى، بواسطة روايات الخيال العلمى التى تصورت غزوًا خارجيًا لكوكب الأرض يضع البشرية كلها أمام مصير واحد مشترك. فى كل الأحوال قد يجدد وباء كورونا الاهتمام بتلك الفكرة: المصير الإنسانى المشترك، خاصة مع الوقائع التى تمدنا بها الحياة كل يوم لتؤكد أن البشرية كلها فى قارب واحد. وعلى سبيل المثال، فقد طالعتنا الصحف بخبر عن مصرى مسيحى توفى بسبب كورونا فى مستشفى إسنا للعزل الصحى بالأقصر، ولم يجد ابنه الدكتور مينا نبيل أحدًا ليدفن والده، فطلب من المسلمين دفنه، فلم يتأخروا لحظة، وتوجهوا إلى المستشفى مع ابن الفقيد ورافقوا الجثمان إلى دير مقابر الشهداء بقرية القرايا بالأقصر، ووقفوا حتى انتهت كل إجراءات مراسم الدفن القبطية ثم قاموا بدفنه.
وفى منطقة الزاوية الحمراء توفى صيدلى مسيحى، يدعى الدكتور ثروت، وكان بشوشًا مع الجميع، يساعد الفقراء ويتنازل عن ديونه لمساعدتهم، وحين توفى فوجئ أهل المنطقة بأنهم لا يعرفون عنوان منزله، فأقاموا له من أنفسهم سرادقًا أمام الصيدلية وجلسوا يعزون أنفسهم فى رحيله.. هكذا سيطرح الوباء على الأدب فكرة انتصار الإنسانية، وقضية المصير المشترك، حيث لا فرق بين مسيحى ومسلم، أو غنى وفقير، لأن ثمة مصيرًا واحدًا يجمعنا، ولأننا جميعًا أبناء الكرة الأرضية.. وأظن أن الواقع يغذى عالم الإبداع بتلك الفكرة الرئيسية، ويلح على الخيال بفكرة أننا جميعًا أبناء هذا الكوكب الصغير، وأن علينا أن نتطلع إلى الكون بصفته عالمنا المشترك، حتى وأقدام كل منا مغروسة فى أرض بلاده.. وقد كانت تلك الفكرة أحد هموم الأدب من زمن بعيد، منذ أن صاح جوته: «العالم قريتى».
وفى يوم ما كتب ألبير كامو يقول: «إذا فشل الإنسان فى الجمع بين العدالة والحرية، فسوف يفشل فى كل شىء».. الآن يمكننا أن نضيف إلى عبارة ألبير كامو كلمة أخرى فنقول: «إذا فشل فى الجمع بين العدالة والحرية.. والإنسانية».. هذا هو الموضوع الذى قد يفتح له الإبداع الأدبى ذراعيه وينصت إلى صوته ويرصد تفاصيله فى الحياة ليؤكد أهمية سيرنا معًا وكفاحنا معًا من أجل كوكب آمن وبيئة نظيفة وحياة عادلة للجميع.