رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خديعة «صفر مشاكل» تنكشف أمام تركيا الاحتلال




بالطبع هذه ليست المرة الأولى التى تخترق فيها الطائرات التركية الأجواء العراقية، حيث سبق أن شعرت بغداد بحرج بالغ، فضلًا عن تحذيرها أنقرة من تلك التجاوزات، كان آخرها فى أبريل الماضى عندما قصف الجيش التركى مخيم «مخمور»، وقتل امرأتين بواسطة صاروخ أطلقته عبر طائرة تركية مسيرة، استهدفت هذا المخيم الذى يقطنه اللاجئون الأكراد العراقيون، تحت ادعائها المتكرر بأن هذا المخيم يضم عناصر من «حزب العمال الكردستانى».. هذه المرة تعلن أنقرة عن أنها بصدد القيام بعملية سمّتها «مخلب النسر»، وهى عملية عسكرية هجومية على شمال العراق تستهدف منطقة «جبال قنديل» التى تقع بالقرب من الحدود الإيرانية، وتبعد نحو ١٠٠ كم من جنوب تركيا، كما تشمل أيضًا مناطق فى «جبل سنجار» غرب مدينة الموصل.
العملية العسكرية بدأت والتوغل التركى لم يكتف هذه المرة بقصف جوى محدود، فما هو معلن من وزارة الدفاع التركية أن «عملية مخلب النسر، وأبطالنا من القوات الخاصة موجودون فى منطقة هفتانين، فالعناصر المشاركة من وحدات الكوماندوز تؤازرهم مروحيات قتالية وطائرات مسيرة، وتم نقلهم بواسطة قواتنا الجوية». هذا النص موجود على منصة «تويتر» فى حساب وزارة الدفاع الرسمى، والطلعات الجوية المشار إليها مسجلة بالفعل بأنها خرجت من عدة قواعد عسكرية فى مدينتى «ديار بكر» و«ملاطية» جنوب شرق تركيا. هذا دفع العراق إلى أن يصدر بيانًا عبر العمليات العراقية المشتركة مساء الإثنين، ينص على أن بغداد: «تستنكر اختراق الأجواء العراقية من قِبل الطائرات التركية، الذى حصل مساء الأحد من خلال ١٨ طائرة تركية، متجهة باتجاه سنجار ومخمور والكوير وأربيل وصولًا إلى قضاء الشرقاط، بعمق ١٩٣ كم من الحدود التركية داخل الأجواء العراقية، واستهدف مخيمات للاجئين قرب مخمور وسنجار». لكن هذا البيان باعتبار صدوره الأحد الماضى ربما اكتفى بوصف المشهد الافتتاحى للعملية العسكرية الكبيرة، التى أصبح يديرها بعد أيام من هذا البيان وزير الدفاع التركى «خلوصى أكار» من مركز عمليات قيادة القوات الجوية، ويشارك معه الآن كل من رئيس أركان الجيش التركى «يشار جولر» وقائد القوات البرية «أميت دوندار» وقائد القوات الجوية «حسن كوجوك أكيوز» وقائد القوات البحرية «عدنان أوزبال». هذا يوضح أن مسرح العمليات بإزاء عمل عسكرى موسع أقرب للعمليات التى جرت خلال السنوات الماضية على أراضى شمال سوريا، وأفضت إلى احتلال أجزاء واسعة من أراضى ومدن الشمال السورى، تحت نفس الذريعة المتمثلة فى خطر الأكراد على تركيا.
تركيا لا تخفى أطماعها وخططها العسكرية الاستراتيجية فى كل من الشمال العراقى والسورى على حد سواء، وتمثل لها القواعد العسكرية الثابتة على تلك الأراضى الأداة الأكثر استقرارًا التى تشكل لها ضرورة، تضمن من خلالها أمن الحدود الجنوبية لتركيا من وجهة نظرها. وفى العراق تعتبر أنقرة أن هناك فجوة أمنية كبيرة فى الشمال على وجه الخصوص، باعتبار كثافة الوجود الكردى الذى استفاد من الأحداث التى أعقبت الغزو الأمريكى، ليفتح الباب أمام سيطرة عناصر «حزب العمال الكردستانى» على منطقة «جبال قنديل» الواسعة ذات الأهمية الجغرافية الاستثنائية. وهى وفق هذا المفهوم تظل طوال الوقت أمام الولايات المتحدة، والقوى والكيانات الكبرى مثل قيادة «ناتو» وغيرها، تلح وتتصلب فى أن هذا السلوك العسكرى ما هو إلا عمل من أعمال مكافحة الإرهاب، وتنتزع صمت أو تمرير هؤلاء لمثل تلك المفاهيم والاعتبارات المزيفة فى مقابل تجاهل واسع لحقوق السيادة الوطنية لدول كبرى، مثل العراق وسوريا. ففى الوقت الذى كانت فيه الدبلوماسية التركية تملأ العالم ضجيجًا بشعار «صفر مشاكل» مع جيرانها، ومع آخرين ظلت أنقرة تمارس بحقهم حملات مكثفة للعلاقات العامة المدروسة بعناية، وكان الجيش التركى فى ذات التوقيت يوقع اتفاقية مع حكومة «كردستان العراق» عام ١٩٩٥م تسمح له افتراضًا بمطاردة عناصر «حزب العمال الكردستانى» من خلال الوجود العسكرى فى أراض تابعة للإقليم الذى كان يؤسس للحكم الذاتى. منذ هذا التاريخ المتقدم، تمكنت تركيا من فرض أمر واقع تمثل فى نحو «٢٠ قاعدة عسكرية» قامت بإنشائها، أكبرها تسمى «بامرنى»، وتقع فى شمال مدينة دهوك وهى قاعدة لوجستية بها مطار حربى. وهناك قواعد عسكرية أخرى فى كل من «باطوفة» و«كانى ماسى» و«سنكى»، وأيضًا قاعدة «مجمع بيكوفا» وقاعدة «وادى زاخو» وقاعدة «سيرى» العسكرية فى شيلادزى، وقواعد «كويكى» و«قمريى بروارى» و«كوخى سبى» و«دريى دواتيا» و«جيل سرزيرى»، فضلًا عن القاعدة الكبيرة التى تقع فى ناحية «زلكان» قرب جبل مقلوب فى «بعشيقة».
يؤمن عمل تلك القواعد التركية بالعمل ومقرات للوحدات الاستخباراتية، فى كل من «العمادية» و«باطوفة» و«زاخو» و«دهوك»، وتهدف تلك القواعد إلى تأمين نقل أى معارك يخوضها الجيش التركى مع أى طرف، إلى أراضى تلك الدول وبعيدًا عن أراضيها بمسافات تصل إلى ١٥٠ و٢٠٠ كم، وفى ظل ضمانة الصمت على هذا النمط الذى لا يمثل سوى عملية «احتلال» عسكرى متكامل، يمكن لتلك القواعد أن تنخرط فى عمليات ومساعدات تقدمها لمن يهمه الأمر، من أجل ضمانة الحفاظ على هذا الاستقرار العسكرى المتقدم، على سبيل المثال عندما قام هذا الوجود العسكرى التركى بوظيفة ردع القوى والأحزاب الكردية فى سوريا والعراق عن التفكير فى الانفصال عن سوريا أو العراق، وهو ما تجلى خلال مشروع الاستفتاء الذى جرى فى إقليم كردستان العراق عام ٢٠١٧، إذ سارعت أنقرة حينها إلى التعاون مع بغداد وفرضت حصارًا بريًا وجويًا على الإقليم، أسهم بصحبة الجهد الاستخباراتى الذى قدمته أنقرة إلى العراق، فى إجهاض وفشل هذا المشروع على النحو الذى جرى وتابعه الجميع فى حينه.
هل تركيا اليوم، من خلال عملية «مخلب النسر» العسكرية بصدد توسعة وجودها العسكرى المستقر بالشمال العراقى، عبر رسم خرائط جديدة تضمن لها حصصًا إضافية على الأرض، خاصة وهى ترقب وتتسمع إعادة ترتيب الحضور الأمريكى والإيرانى فى توافقات جديدة يتم إبرامها هذه الأيام؟.. هذا ما ستكشفه الأيام المقبلة.