رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الثقافة الإنسانية وجائحة اللا إنسانية


هل لنا أن نطرح خاطرًا قد يبدو على هيئة علامة استفهام، مثل ما الرابط الذى قد يربط بين «فرج فودة»- الذى نعيش ذكرى اغتياله هذا الأسبوع- و«مارتن لوثر كينج».. وبالتفاكر المشترك قد يرى أهل العلوم الإنسانية أن ما يجمعهما بلغة أهل الغرب الفرنجة هو ما يمثل ما أحدثاه من إشراقة وومضة ضوء رائعة، وعند أهل الاستنارة فى الشرق ما يمثل تحقيق الانعتاق من غلال الأفكار الظلامية القابضة على حرية البشر فى التفكير والإبداع والإصلاح والتطوير أينما كانوا... إنه «فرج فودة» الذى قال وكتب إلى محبوبته مصر «كم أتخيلك تبعثين من جديد عظيمة ومنطلقة.. قوية وصامدة.. قادرة وحية.. معطاءة للخير وباعثة الحضارة من جديد كعهدنا بك».
لقد جمعهما وشغلهما أمر الثقافة الإنسانية التى تتجاوز بنا المساحات الخاصة الضيقة إلى رحاب عامة تتسع لعموم الناس على مدد الشوف.. حيث لا توقف أو تمترس عند مربعات ثقافات ضامرة غير قابلة للنمو وغير صالحة للازدهار.. ثقافات تنتمى إلى الإنسان والإنسانية.
جمعهما امتلاك ثقافة خلاقة وصاعدة بروحها وأسرارها لتتجاوز بعبقرية غباوات ثقافة «الأنا» الهابطة للدرك الأسفل لتراب أرض الموت والفناء.
ومعلوم أن الحديث حول «الثقافة الإنسانية» والبحث عن خصائصها وتحوراتها وتأثيراتها المجتمعية والحضارية، ظل يشغل أهل العلم وأصحاب رسالات التنوير منذ حقب عديدة.
نعم، فمنذ ٧٧ سنة، وبالتحديد فى عام ١٩٤٣، ألقى الدكتور «محمد بهى الدين بركات» محاضرة فى قاعة إيوارت التذكارية ونشرتها مجلة الهلال فى عدد مايو سنة ١٩٤٣ ومجلة الشئون الاجتماعية فى عدد يناير سنة ١٩٤٤.. وقد طرح على الحضور سؤاله: هل يتجه العالم نحو ثقافة إنسانية جديدة؟
وقال فى مستهل محاضرته «ليس فينا من لا يستمع إلى الراديو يوميًا، بل منا من يتتبعون أخباره فى الداخل والخارج عدة مرات كل يوم، فهل فكرنا فى مدى ما أدخلته تلك الآلة الصغيرة، أعنى عدة الراديو، من تطور جسيم فى حالة العالم بما أزالت من حدود بين الأمم المختلفة، وما خلقت من اتصال سريع بين الناس، وبما سهلت من تواصل الآراء بين سكان هذا العالم؟».
ويصل المحاضر فى نهاية محاضرته إلى أن من يضع هذه التطورات نصب عينيه يرى أن تقييد الأفكار أو الحجر عليها أصبح ضربًا من المحال، فإذا كانت المطبعة قد أتت بالعجائب وقلبت العالم فى القرون الوسطى بما سهلت من اتصال الأفكار، فماذا يكون مقدار أثر الراديو فى عهدنا الحاضر؟، لا شك أن هذا الاتصال الروحى الذى وجد بين جميع أجزاء العالم على إثر هذا الاكتشاف العجيب، سيكون له أثر شامل، لا أحسبنى مبالغًا إذا قلت إنه الحجر الأول فى سبيل توحيد العالم.
ويبقى السؤال: هل وصلت بنا الأحجار التالية لهذا الحجر إلى غاية تحقيق ثقافة إنسانية تسهم فى توحيد العالم؟
إننا اليوم نواجه موجات هادرة لنشر ثقافة الكراهية، ثقافة الذاتية الضيقة، التى لا ترى فى الآخر سوى تمايزه واختلافه: دينه أو عرقه أو لون بشرته أو ثرواته!.. ولا شك أن الثقافة الإنسانية تتحرر وتنمو بشكل إيجابى بما تعبر عنه من قيم عليا، وتتراجع عندما تسود ثقافة الكراهية.
هناك تحدٍ عظيم نواجهه، ولا نمتلك من خيار سوى التعاون والتكاتف فى صراعنا مع قوى الشر التى تضغط فى اتجاه شيطانى ملوث للثقافة الإنسانية الفطرية أو الإيجابية التى صنعتها الحضارة الإنسانية.
هناك قوى غبية جاهلة، معادية للتطور، غاشمة ومتوحشة، يسرها تقويض الحضارة، ولا تريد لأحد أن يعيش ويُعمل الفكر ويرفع رايات التنوير.
لقد كشفت جائحة كورونا عن ثقافة إنسانية جديدة وبشر لم نعرفهم من قبل.. وبتنا نصرخ أين ثقافة بشر زمن حرب ١٩٧٣ عندما اختفى وتوارى عن العيون معظم مخالفى القوانين رغم صعوبة ووعورة العيش فى تلك الفترة، حيث المعاناة من متاعب اقتصادية واجتماعية وإنسانية؟
أين بشر يوم ٣٠ يونيو العظام الذين واجهوا بصدور عارية أبشع جماعات الشر الحاكمة لمقدرات البلد عندما أيقنوا أن البلد ضيعها شرذمة جاهلة خائنة عميلة باغية؟
رغم صعوبة توقيت حدوث المفاجأة الكارثية بوقوع الجائحة اللعينة التى حلت بنا كبلد استطاع بإدارة واعية وقيادة وطنية تحقيق ما يرقى إلى مكانة المعجزات.
ورغم سحابات الموت الغادر التى باتت تغطى الكثير من سماوات بيوتنا الطيبة، لا تبالى فرق التجارة الانتهازية لتقيم مصانع تحت بير السلم لصناعة مستلزمات طبية مغشوشة تسهم فى رفع أعداد أرقام ضحايا الجائحة، وبينما يرى هؤلاء الخونة ملاحم عطاء وإيثار جنود كتائب الجيش الأبيض، يرفع أصحاب بعض المستشفيات الخاصة أسعار نجدة المريض الملهوف بشكل يستحقون عليه العقاب الأرضى السريع.
وتناشد جريدتنا الغراء «الدستور» أصحاب الملايين والمليارات، وتفضح تقاعس بعضهم بانتهازية وقلوب ميتة وعيون زجاجية غابت عنها دماء الحياة والرؤية لمشاهد الرحيل الصعبة، وأهالينا الغلابة يودعون الأحباب والجيران والأصدقاء، ولا يتفهمون هذا القدر الهائل من الجهود الحكومية العظيمة لمواجهة تصاعد الأزمة!
علينا أن نحرص من جديد على زراعة ثقافة احترام الإنسان لأخيه الإنسان. وأن ينظر كل منا لأخيه فى الإنسانية من زاوية مشتركه الإنسانى، لا من زاوية تمايزه العرقى أو الدينى أو الجغرافى أو أى تباين شكلى آخر.
إننا اليوم بصدد الاستمرار فى خوض معركة مقدسة، وعلى الجميع تحمل مسئولياته بوعى وأمانة.