رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«في ذكراه».. من الروائي الذي تمنى أن يكون تلميذًا لمحمود مرسي؟

محمود مرسى
محمود مرسى

ولد عملاقًا منذ طلته الأولى على شاشة السينما، فهو موهبة استثنائية يجعلك تنسى أنك أمام ممثل، أنه السهل الممتنع الذى يمنح بكل مشهد يؤديه درسًا فى كيفية تعايش الممثل مع الشخصية، ومتى يغادرها، وبالطبع في ذكرى ميلاده في مثل هذا اليوم، سيصيبك محمود مرسى الذي ولد بالأسكندرية في مثل هذا اليوم من عام 1923.
سيصيبك بالدهشة وأنت تحاول أن ترسم له صورة متخيلة كان عليها، فمع كل دور يؤديه تسكنه الشخصية بتفاصيلها الدقيقة، ويتماهى معها بصورة تدهشك فتحتار هل تناديه فؤاد في «الباب المفتوح» أو عيسي الدباغ في «السمان والخريف» أم عتريس بطل «شيئ من الخوف»، أو بدران في «أمير الدهاء»، أم أنه طلعت أفندي وكيل الوزارة في «حد السيف»، أو الشاويش محمد في «أغنية علي الممر».

كل هذه الأدوار وغيرها التي تشربها وأستنسخ أرواحها تماهي مع حيواتها في أحاسيسها بأفراحها وأتراحها، في شيطنتها وملائكيتها، في إنكساراتها وإنتصاراتها، في ضعفها وقوتها، وفي إنسانيتها بكل ما تحمله من متناقضات، لكنها في النهاية تبقي إنسانية متعددة الأبعاد وليست قالبا مصمتا أجوفا.
وعن كاريزميته يقول عنه الروائي الراحل "خيري شلبي": لم أر في حياتي فنانا يقمع جاذبيته مثلما كان يفعل محمود مرسي. إن جاذبيته كانت قوية٬ طاغية٬ مشعة٬ يمكن أن تستشعرها عن بعد قبل أن تقع أعيننا عليه. كان هذا يحدث معي شخصيا. ففي أواسط سبعينيات القرن الماضي شرفت بتدريس مادة تاريخ المسرح المصري المعاصر لطلبة معهد الفنون المسرحية٬ وكان محمود مرسي أحد عمد المعهد آنذاك٬ وفي عز إندماجي في المحاضرة كنت أشعر بوجوده قبل ظهوره٬ هو الذي لم يألف أن يضع العطور الصناعية٬ كان ينثر عطره الذاتي الطبيعي أينما حل.

دقائق معدودة٬ بعدها يصير حضوره ملموسا٬ زري الطلاب يتدافعون خارجين من الفصل المجاور٬ يتقافزون فوق درجات السلم متوجهين إلى فناء المعهد في ابتهاج كأنهم كانوا على موعد مع أعز الأحباب. ذلك أن محمود مرسي لم يكن يلقي محاضراته في فصل دراسي٬ بل لعله لم يكن يلقي محاضرات أصلا٬ بل كان يجلس في فناء المعهد تحت شمس الشتاء٬ يتحلقه الطلاب في حميمية٬ فإذا الدرس قد تحول إلي قعدة عائلية بكل معني الكلمة٬ أب يجلس وسط أولاده٬ يتحدث معهم في موضوع الدرس٬ تنكسر حدة الرسمية العازلة بين الأستاذ وطلابه تنزاح الحواجز النفسية٬ تحل محلها صداقة٬ قوامها علاقة صافية يترعرع في مناخها ذكاء الطلاب٬ يتفتح وعيهم٬ يستوعبون في بساطة وسلاسة٬ يتبادلون الأسئلة والأجوبة٬ لا يضيعون دقيقة واحدة من وقتهم.

يستطرد "شلبي": كان المنظر فاتنا بالنسبة لي٬ ما أكاد أنتهي من محاضرتي حتي أهبط مسرعا إلي فناء المعهد لأتفرج علي هذا المنظر البديع٬ أتلكأ في محيط القعدة لعلني أستمع إلي شيئ مما يقوله الأستاذ٬ أسترق السمع٬ أستمع فعلا إلي بعض عبارات٬ بعض شروح٬ بعض أسئلة٬ بعض إجابة٬ أتمني لو أن الأستاذ يسمح لي بالجلوس معهم٬ أتمني أن أرتد طالبا أن أكون علي وجه التحديد واحدا من تلاميذ الأستاذ هؤلاء.

أكثر من مرة فكرت أن أسحب كرسيا من البوفيه وأجلس علي مقربة من الحلقة الدراسية٬ إلا أنني كلما امتد ظلي وتمطي مخترقا الحلقة أري الأستاذ قد ألتفت نحوي عاقدا حاجبيه في استنكار وربما استهجان٬ كأن مجرد مروري قد عكر صفوهم٬ أوقن لحظتها أنهم جسم واحد غير قابل لدخول جسم غريب يفسد نظامه.