رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحقيقة الغائبة 3.. فرج فودة يكتب: قراءة جديدة فى أوراق الأمويين

فرج فودة
فرج فودة

قراءة جديدة فى أوراق الأمويين

للقارئ الآن وهو ينتقل معنا من عصر الراشدين إلى ما يليه، أن يهيئ ذهنه للدعابة، ووجدانه للأسى، فحديث ما يلى الراشدين كله أسى مغلف بالدعابة، أو دعابة مغلفة بالأسى، أما المجون فأبوابه شتى، وأما الاستبداد فحدث ولا حرج.
ليسمح لنا القارئ فى البداية أن نقص عليه ثلاث قصص موجزة، يفصل بينها زمن يسير، واختلاف كثير، وهى إن تنافرت تضافرت، مؤكدة معنى واضحًا، وموضحة مسارًا مؤكدًا، ومثبتة ما لا يصعب إثباته، وما لا يسهل الهروب منه.

القصة الأولى:
عام 20ه وقف عمر خطيبًا على منبر الرسول فى المدينة، وتحدث عن دور الرعية فى صلاح الحاكم وإصلاحه، فقاطعه أعرابى قائلاً: والله لو وجدنا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا، فانبسطت أسارير عمر، وتوجه إلى الله حامدًا شاكرًا، وذكر كلمته المأثورة المشهورة: الحمد لله الذى جعل فى رعية عمر، من يقومه بحد السيف إذا أخطأ.

القصة الثانية:
عام 45ه قال ابن عون: (كان الرجل يقول لمعاوية "والله لتستقيمن بنا يا معاوية، أو لنقومنك"، فيقول: "بماذا؟"، فيقول: "بالخشب"، فيقول: "إذن نستقيم").
(تاريخ الخلفاء للسيوطى- ص195)

القصة الثالثة:
عام 75ه خطب عبدالملك بن مروان، على منبر الرسول فى المدينة، بعد قتل عبدالله بن الزبير قائلاً "والله لا يأمرنى أحد بتقوى الله بعد مقامى هذا إلا ضربت عنقه".. ثم نزل.
ثلاث قصص موجزة، لكنها بليغة فى تعبيرها عن تطور أسلوب الحكم، واختلافه فى عهود ثلاثة، أولها عهد عمر بن الخطاب، درة عهود الخلافة الراشدة، وثانيها عهد معاوية ابن أبى سفيان مؤسس الخلافة الأموية، وثالثها عهد عبدالملك ابن مروان، أبرز الخلفاء الأمويين بعد معاوية، وأشهر رموز البيت المروانى، الذى خلف البيت السفيانى بعد وفاة معاوية بن يزيد، ثالث الخلفاء الأمويين.

أما القصة الأولى:
فهى نموذج لصدق الحاكم مع الرعية، وصدق الرعية مع الحاكم، ونحن لا نشك ونحن نقرأها فى أن الأعرابى كان صادقًا كل الصدق فى قوله، وأنه كان يعنى تمامًا ما يقول، وأنه كان على استعداد بالفعل لرفع السيف فى وجه عمر وتقويمه به إن لزم الأمر ونحن لا نشك أيضًا فى أن عمر كان يدرك تماما أن الأعرابى صادق فى مقولته، وأنه لهذا سعد، ومن أجل هذا حمد الله، وكان فى سعادته وحمده صادقًا كل الصدق، مع الله، ومع نفسه، ومع الأعرابى، وباختصار فنحن أمام حوار تؤدى فيه الكلمات دورها الطبيعى، حيث تعبر عن دخائل النفوس، فى دقة، ووضوح، واستقامة.

وأما القصة الثانية:
فهى نموذج رائع لخداع الكلمات حين يصبح للعبارة ظاهر وباطن، وللكلمة مظهر ومخبر، فالرجل فى تهديده أقرب للمداعبة، وأميل إلى الرجاء، ومعاوية فى رده عليه يحسم الموقف بتساؤله (بماذا) ؟ وهو تساؤل يعكس ثقة عالية فى النفس، وهى ثقة تهوى فوق رأس الرجل ثقيلة وقاطعة، شأنها شأن السيف الحاسم البتار، وما أسرع ما ينسحب الرجل سريعًا محولاً الأمر كله إلى الدعابة، وهنا يدرك معاوية أن الرجل قد ثاب إلى رشده، فيعيد السيف إلى غمده الحريرى، وينسحب هو الآخر فى مهارة وخفة، مرضيًا غرور الرجل، ما دام الخشب هو السلاح، وما دام القصد هو المزاح، والقارئ للحوار لا يشك فى أن الرجل قال شيئًا وقصد شيئًا آخر، وأن معاوية قال شيئًا وقصد شيئا آخر، وأن كلا الرجلين فهم قصد الآخر، فكرَّ فى الوقت المناسب، وفرَّ فى الوقت المناسب، وأن الرجل فى كرِّه نحو معاوية، وفى فرّه منه لم يكن أبدًا كجلمود صخر وإنما كان مثل كرة القش، ظاهرها متماسك وباطنها هش.

وننتقل إلى القصة الثالثة:
وهى أقرب من القصة الأولى فى وضوحها وصراحتها واستقامة ألفاظها، غير أنها هذه المرة تعلن عكس ما أعلنه عمر، وتهدد بالقتل فى حسم وصراحة، ليس لمن يخالف الأمير ويعترض عليه، وليس لمن يرفع فى وجهه السيف أو حتى الخشب، بل لمن يدعوه إلى (تقوى الله) وقد خلد عبدالملك نفسه بذلك، فوصفه الزهرى بأنه أول من نهى عن الأمر بالمعروف.
هذه قصص ثلاث توضح كيف تطور الأمر من خلافة الراشدين إلى خلافة معاوية، الرجل المحنك المجرب، الناعم المظهر، الحاسم الجوهر، المؤسس للملك، بكل ما يستوجبه التأسيس من سياسة وحنكة، ومظهر ومخبر، ثم كيف أصبح الأمر عندما استقر الملك، ولم يعد هناك داع للخفاء، أو مقتضى للخداع أو المداهنة، وبمعنى آخر فإن القصص الثلاث تنتقل بنا بين حالات ثلاث، أولها العدل الحاسم، وثانيها الحسم الباسم، وثالثها القهر الغاشم.
وكل ذلك خلال نصف قرن لا أكثر، وقد رأينا أن نوردها فى بدء حديثنا عن خلافة الأمويين لدلالتها، حتى يخلد القارئ معنا إلى قدر من الرياضة الذهنية والابتسام، بعيدًا عن صرامة السرد ومرارة الحقائق.
ولعل القارئ قد تعجب من اجتراء عبدالملك، لكنا نسأله من الآن فصاعدًا أن يوطن نفسه على العجب، وأن يهيئ وجدانه للاندهاش، وأن يحمد لعبدالملك صدقه مع نفسه ومع الناس، فسوف يأتى بعد ذلك خلفاء عباسيون يخرجون على الناس بوجه مؤمن خاشع، وتسيل دموعهم لمواعظ الزهاد، ثم ينسلون إلى مخادعهم فيخلعون ثياب الورع، وتلعب برؤوسهم بنت الحان، فينادمون الندمان، ويتَسَرَّون بالقيان، ويقولون الشعر فى الغلمان، وهم فى مجونهم لا يتحرجون حين تناديهم جارية لعوب بأمير المؤمنين، أو يخاطبهم مخنث (معتدل القامة والقد) بخليفة المسلمين، ما دمنا نتحدث عن وضوح عبدالملك، وصدقه مع نفسه، فلا بأس من قصة طريفة يذكرها السيوطى فى كتابه (تاريخ الخلفاء- ص 217):
(قال ابن أبى عائشة: أفضى الأمر إلى عبدالملك، والمصحف فى حجره فأطبقه وقال: هذا آخر العهد بك).
ونحن لا نجد تناقضًا بين أفعال وأقوال عبدالملك بعد ولايته، وبين ما تُحدثنا به نفس المراجع عن فقهه وعلمه ومن أمثلة ذلك:
(قال نافع: لقد رأيت المدينة وما بها شاب أشد تشميرًا ولا أفقه ولا أنسك ولا أقرأ لكتاب الله من عبدالملك بن مروان، وقال أبوالزناد: فقهاء المدينة سعيد بن الملك بن مروان، وعروة بن الزبير وقبيصة بن ذؤيب، وقال عبادة بن نسى: قيل لابن عمر: إنكم معشر أشياخ قريش يوشك أن تنقرضوا، فمن نسأل بعدكم؟ فقال: إن لمروان ابنًا فيها فاسألوه).
نقول لا تناقض على الإطلاق لأن ذلك كله كان قبل ولايته، فلما ولى أدرك أن عهد النسك والعبادة قد ولّى، وأطبق المصحف وأطلق شيطان الحكم والإمارة وصدق فى قوله للمصحف إن هذا هو آخر العهد به، ودليلنا على ذلك أن ساعده الأيمن كان الحجاج، وإذا ذكر الحجاج هربت الملائكة وأقبلت الشياطين، وقد عرف عبدالملك للحجاج مواهبه وأدرك أنه بالحجاج قد وطد دعائم الحكم وأرسى قواعد الخلافة، فكانت وصيته الأخيرة لولده وولى عهده الوليد أن يحفظ للحجاج صنيعه وأن يلزمه وزيرًا ومشيرًا، وقد كان.
ربما قال البعض، وما يضيرنا من سيرة رجل أعلن طلاقه للمصحف، وأدار ظهره لكتاب الله، وحكم بهواه، ولنا أن نذكرهم أنه فعل ما فعل، وسفك ما سفك وقتل من قتل، تحت عباءة إمارة المؤمنين، وخلافة المسلمين، وأن المسلمين جميعًا كانوا يرددون خلف أئمتهم كل جمعة دعاءً حارًا أن يعز الله به الدين، وأن يوطد له دعائم الحكم والتمكين، وأن يديمه حاميًا للإسلام وإمامًا المسلمين، وأن فقهاء عصره كانوا يرددون حديثًا تذكره لنا كتب التاريخ، مضمونه أن من حكم المسلمين ثلاثة أيام، رفعت عنه الذنوب ولعلنا نظلم عبدالملك كثيرًا إذا قيّمناه من زاوية العقيدة، فلم يكن عبدالملك فلتة بين من سبقه أو من لحقه، وكان فى ميزان السياسة والحكم حاكمًا قديرًا، ورجل دولة عظيمًا بكل المقاييس، فقد أخمد فتنة عبدالله بن الزبير، وغزا أرمينية، وغزا المغرب، وغزا المدن، وحصّن الحصون، وضرب الدنانير لأول مرة، ونقل لغة الدواوين من الفارسية إلى العربية، وقد لخص أسلوبه فى الحكم فى وصيته لابنه الوليد وهو يحتضر:
[يا وليد اتق الله فيما أخلفك فيه (لاحظ مفهوم الحكم بالحق الإلهى فى هذه العبارة)، وانظر الحجاج فأكرمه فإنه هو الذى وطّأ لكم المنابر، وهو سيفك يا وليد ويدك على من ناوأك، فلا تسمعنّ فيه قول أحد، وأنت أحوج إليه منه إليك، وادع الناس إذا مت إلى البيعة، فمن قال برأسه هكذا فقل بسيفك هكذا -ثم أخذته غفوة فبكى الوليد- فأفاق وقال ما هذا؟ أتحن حنين الأَمَة؟ إذا مت فشمر وائتزر، والبس جلد النمر، وضع سيفك على عاتقك فمن أبدى ذات نفسه فاضرب عنقه، ومن سكت مات بدائه].
وقد حفظ الوليد الوصية وقام بها خير قيام فكان رجل دولة وحكم من طراز فريد، وكان فاتحًا عظيما للثغور، فقد فتح الهند والأندلس، وكان أبعد ما يكون عن حديث الدين والعقيدة فلم يذكر عنه فيهما لا قليل ولا كثير، إلا بضعة أقوال عن أنه كان يلحن كثيرًا فى قراءاته للقرآن، وفى خطبه على المنابر، وقد حكم عبدالملك عشرين عامًا وحكم الوليد عشرة أعوام، أى إن عبدالملك والوليد حكما ثلاثين عامًا من اثنتين وتسعين عامًا هى عمر الدولة الأموية.
تلك الدولة التى لا يجوز أن نتحدث عنها دون أن نتوقف أمام ثلاثة خلفاء هم اليزيدان (يزيد بن معاوية ويزيد بن عبدالملك) والوليد بن يزيد.
أما يزيد بن معاوية، فقتله للحسين معروف، وقد أفاض فيه الرواة بما لا حاجة فيه لمزيد، غير أن هناك حادثة يعبرها الرواة فى عجالة، بينما نراها أكثر خطرًا من قتل الحسين، لأنها تمس العقيدة فى الصميم، وتضع نقاطًا على الحروف إن لم تكن النقاط قد وضعت على الحروف بعد، وتستحق أن يذكرها الرواة، وأن يتدارسها القارئ فى أناة، وأن يتذكر أنها حدثت بعد نصف قرن من وفاة الرسول.. فقط نصف قرن.
لقد هاجم جيش يزيد المدينة، حين خلع أهلها بيعته وقاتل أهلها قليلاً ثم انهزموا فيما سُمّى بموقعة (الحرة) فأصدر قائد الجيش أوامره باستباحة المدينة ثلاثة أيام، قيل إنه قتل فيها أربعة آلاف وخمسمائة، وأنه قد فضت فيها بكارة ألف بكر، وقد كان ذلك كله بأمر يزيد إلى قائد جيشه (مسلم بن عقبة):
(ادع القوم ثلاثًا فأن أجابوك وإلا فقاتلهم، فإذا ظهرت عليها فأبحها ثلاثًا، فكل ما فيها من مال أو دابة أو سلاح أو طعام فهو للجند، فإذا مضت الثلاث فاكفف عن الناس).
ولم يكتف مسلم باستباحة المدينة بل طلب من أهلها أن يبايعوا يزيد على أنهم (عبيد) له، يفعل فيهم وفى أموالهم وفى أولادهم ما يشاء، وهنا يبدأ مسلسل المفاجآت فى الإثارة، فالبعض ما زال فى ذهنه (وهم) أنه فى دولة الإسلام، وأنه قادر على إلزام مسلم ويزيد بالحجة، بما لا سبيل إلى مقاومته أو حتى مناقشته، وهو لا يقبل شروط مسلم، ويرد عليه كأنه يلقمه حجرًا: (أبايع على كتاب الله وسنة رسوله).
ولا يعيد مسلم القول، بل يهوى بالسيف على رأس العابد الصادق فى رأينا، والرومانسى الحالم فى رأى مسلم، ويتكرر نفس المشهد مرات ومرات، هذا يكرر ما سبق، فيقتل، وهذا يبايع على سيرة عمر فيقتل، ويستقر الأمر فى النهاية لمسلم، وما كان له إلا أن يستقر، فالسيف هنا أصدق أنباء من الكتب، وهو سيف لا ينطق بلسان ولا يخشع لبيان ويصل الخبر إلى يزيد، فيقول قولاً أسألك أن تتمالك نفسك وأنت تقرؤه، وهو لا يقوله مرسلاً أو منثورًا، بل ينظمه شعرًا، اقرأه ثم تخيل وتأمل وانذهل:
(ليت أشياخى ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل
حين حكت بقباء بركها واستمر القتل فى عبد الأشل).
والذى يعنينا هو البيت الأول الذى يقول فيه (ليت أجدادى فى موقعة بدر شهدوا اليوم كيف جزع الخزرج من وقع الرماح والنبل.
أما من هم أجداده، فواضح أنهم أعداء الخزرج فى موقعة بدر، والخزرج أكبر قبائل الأنصار، وكانوا بالطبع فى بدر ضمن جيوش المسلمين، وهنا يزداد المعنى وضوحًا، فيزيد خليفة المسلمين، وأمير المؤمنين، يتمنى لو كان أجداده من بنى أمية الذين هزمهم الرسول والمهاجرون والأنصار فى بدر، يتمنى لو كانوا على قيد الحياة، حتى يروا كيف انتقم لهم من الأنصار فى المدينة، ثم نجد من ينعت الخلافة بالإسلامية!!
ولا يتوقف أمام هذه الحادثة لكى يقطع الشك باليقين وليتحسر على الإسلام فى يد حكام المسلمين، وليترحم على شهداء الأنصار انتقامًا منهم لمناصرتهم للرسول والإسلام، وعلى يد من، على يد (أمير المؤمنين) وحامى حمى الإسلام والعقيدة، ويروى ابن كثير فى "البداية والنهاية" الأبيات السابقة فى موضعين أحدهما موقعة الحرة وثانيهما عندما وصل رأس الحسين إلى يزيد.
ولو صدقت الثانية لكانت أنكى وأمر، لأن الانتقام هنا مباشر من الرسول فى آل بيته، ويضيف ابن كثير بيتًا يذكره متشككًا دون أن يقطع الشك باليقين، داعيًا باللعنة على يزيد إن كان قد قاله والبيت يقول:
(لعبت هاشم بالملك فلا ملك جاء ولا وحى نزل).
ولعلى أستبعد أن يقول يزيد هذا، فللفكر درجات، وللمروق حدود، وللتفلت مدى، وكل ذلك لم يشفع لفقهاء عصر يزيد ولكُتّاب تاريخ الخلافة الإسلامية أن يذكروا أن يزيد مغفور له، وأن ذلك ثابت بالأحاديث النبوية، فابن كثير يذكر (البداية والنهاية - المجلد الرابع الجزء الثامن- ص 232):
(كان يزيد أول من غزا مدينة القسطنطينية فى سنة 44ه [أو 49هـ].. وقد ثبت فى الحديث أن رسول الله قال: "أول جيش يغزو مدينة قيصر مغفور له")... ولا تعليق.
وننتقل إلى يزيد بن عبدالملك، التاسع فى الترتيب بين خلفاء بنى أمية، وأحد أربعة تولوا الخلافة من أبناء عبدالملك بن مروان، هم على الترتيب الوليد وسليمان ويزيد وهشام، ونحن نخص منهم يزيد بالحديث، لأنه أتى فى أعقاب عمر بن عبدالعزيز، الذى قيل عنه إنه ملأ الدنيا عدلاً طوال عامين، فإذا بيزيد يأتى بعده لكى يملأها مغانى وشرابًا ومجونًا وخلاعة، طوال أربعة أعوام، ويذكر السيوطى فى (تاريخ الخلفاء- ص 246):
إنه ما إن ولى (حتى أتى بأربعين شيخًا فشهدوا له ما على الخليفة حساب ولا عذاب).
وهنا يدرك القارئ أن العلة لم تقتصر على الخلفاء، وإنما امتدت أيضًا إلى العلماء والفقهاء، وأنه ما دام هؤلاء يفتون أنه لا حساب على يزيد ولا عذاب ولا عقاب، فليفعل يزيد ما يشاء، وليتفوق على خلفاء الدولة الإسلامية كلها فى بابين لا يطاوله فيهما أحد، وهما العشق والغناء، فقد بدأ خلافته بعشق (سلامة) وانتهت خلافته، بل وحياته بسبب عشقه لجارية أخرى اسمها (حبابة).
وقبل أن نتحدث عن بعض من ذلك، نذكر له أيضًا رغبة تفرَّد بها بين الخلفاء، وذكرت له، ونقلت عنه، وهى رغبته فى أن (يطير).
وقصة ذلك أنه كان يومًا فى مجلسه، فغنته حبابة ثم غنته سلامه (فطرب طربًا شديدًا ثم قال: أريد أن أطير، فقالت له حبابة: يا مولاى، فعلى من تدع الأمة وتدعنا).
طبعًا، ماذا يفعل المسلمون لو طار الخليفة، من يملأ أنحاء الدولة الإسلامية طربًا وغناءً، وعشقًا واشتهاءً، ويذكر المسعودى (أن أبا حمزة الخارجى قال: أقعد يزيد حبابة عن يمينه وسلامة عن يساره، وقال أريد أن أطير، فطار إلى لعنة الله وأليم عذابه.
ويروى ابن كثير قصة وفاة يزيد على النحو التالى فى (البداية والنهاية لابن كثير – مجلد 5 جزء 9 ص 242)، ويذكر المسعودى الرواية نفسها فى (مروج الذهب- ج 3 ص 207):
(وقد كان يزيد هذا يحب حظية من حظاياه يقال لها حبّابة -بتشديد الباء الأولى- وكانت جميلة جدًا، وكان قد اشتراها فى زمن أخيه بأربعة آلاف دينار، من عثمان بن سهل بن حنيف، فقال له أخوه سليمان: لقد هممت أن أحجر على يديك؛ فباعها، فلما أفضت إليه الخلافة قالت امرأته سعدة يومًا: يا أمير المؤمنين، هل بقى فى نفسك من أمر الدنيا شىء؟ قال نعم، حبابة، فبعثت امرأته فاشترتها له ولبستها وصنعتها وأجلستها من وراء الستارة، وقالت له أيضًا: يا أمير المؤمنين، هل بقى فى نفسك من أمر الدنيا شىء؟، قال: أو ما أخبرتك؟ فقالت هذه حبابة، وأبرزتها وأخلته بها وتركته وإياها، فحظيت الجارية عنده وكذلك زوجته أيضًا، فقال يومًا أشتهى أن أخلو بحبابة فى قصر مدة من الدهر، لا يكون عندنا أحد، ففعل ذلك، وجمع إليه فى قصره ذلك حبابة، وليس عنده فيه أحد، وقد فرش له بأنواع الفرش والبسط الهائلة، والنعم الكثيرة السابغة، فبينما هو معها فى ذلك القصر، على أسرّ حال وأنعم بال، وبين أيديهما عنب يأكلان منه، إذ رماها بحبة عنب وهى تضحك، فشرقت بها وماتت، فمكث أيامًا يقبلها ويرشفها وهى ميتة حتى أنتنت وجيفت فأمر بدفنها، فلما دفنها أقام أياما عندها على قبرها هائمًا ثم رجع فما خرج من منزله حتى خرج بنعشه).
والقصة كما يذكرها ابن كثير، نموذج فريد لصحيح العشق، وأصيل الغرام، ولا بأس أن تذوب لها قلوب الصبية، وتنفطر لها قلوب الصبايا، وتسيل من أجلها قلوب المحبين، لكنها -فى تقديرنا- شاذة أشد ما يكون الشذوذ، بعيدة أكثر ما يكون البعد، عندما يتعلق الأمر بأمير المؤمنين، وإمام المسلمين، وخادم الحرمين، وحامى حمى الإيمان، والملتزم بأحكام القرآن، وبسنة نبى الرحمن.
ولعلنا نتساءل ومعنا كل الحق، ما بال المطالبين بعودة الخلافة يستنكرون الحانات، ويفسّقون المغنيات ويكّفرون الراقصات، بينما هذا من ذاك بل هذا بعض ذاك، ولقد عاصر يزيد أئمة كبارًا، وفقهاءَ عظامًا من أمثال الحسن البصرى وعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وغيرهم، وكانوا أقرب ما يكونون إلى التقيّة، وكانوا يوصلون بالعطايا ويتحفون بالهدايا، ويؤدون أحيانا دورًا مرسومًا بدقة، محددًا بحنكة، يظهر فيه الخليفة مسبل العينين، يسألهم فيجيبون، ويطلب منهم الموعظة فيعظون، وربما خوّفوه من النار، وعذاب الجبار، ووحدة القبر، وموقف الحشر، وهو منصت خاشع، تسيل دموعه مدرارًا، بينما هم مدركون لحدود الحديث، ومدى الموعظة، لا يتجاوزون إلى التعريض بالخلافة، أو التهديد بتأليب الرعية، أو الحكم بالكفر، ذلك كله خارج السيناريو المرسوم والمعلوم، والذى ينتهى دائمًا بصراخ الخليفة ونحيبه، حتى يُخشى عليه أو يُغشى عليه، أيهما أقرب إلى قدراته، وأنسب لملكاته، وما أسرع ما ينتقل الأمر إلى الرعية بسرعة البرق، فيتداولونه فى خشوع وإيمان، وينقله إلينا كتّاب الديوان، فنشربه كما شربته رعية يزيد وغير يزيد، ونشرب معه المزيد، مما تسطره أقلام المحترفين، وتردده على مسامعنا ألسنة المكفرين والجهاديين... ما علينا، ففى الجعبة مزيد.
غير أنّا نتوقع أن يعترض علينا معترض، رافعًا فى وجهنا ما يراه حجة، منكرًا علينا ما أنكرناه على يزيد، مؤكدًا لنا أن يزيد لم يرتكب منكرًا، ولم يقترف إثمًا، فالتسرى بالجوارى والتمتع بما ملكت الإيمان أمر لا ينكره الشرع، ولا يشترط فيه القران، ولا ينهى عنه القرآن، وهو رخصة ترخص بها يزيد، وترخص بها كبار الصحابة قبل يزيد، والله يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه.
وقد كان يزيد ككثيرين فى عصرنا، يتعشقون الرخص، ويسبقون بها العزائم، وهنا نقول له قف، وحاذر فإنك تركب صعبًا، فنحن وإن وافقناك على أن التسرى بالجوارى والتمتع بما ملكت الإيمان، لا يتناقض مع روح عصر يزيد، ولا يخالف أحكام القرآن، فإنك يجب أن تدرك أن للإسلام روحًا، وللدين جوهرًا، وللرخص حدودًا.
وليس منطقيًا أن تكون إباحة التسرى سبيلاً إلى التهتك، أو التمتع بما ملكت الإيمان وسيلة لهجر الإيمان، أو الحلال سبيلاً إلى التحلل، وإذا كنا نناشد الرعية غض البصر، ونتوعدهم بالعذاب إذا زنى النظر، فلا أقل من أن ننهى الخليفة عن التفرغ للخلوة على أسرّ حال وأهنأ بال، لاثمًا راشفًا متمنيًا أن يطير، لا لشىء إلا لأن الله أعطاه جناحين، من مال وسلطان، فتوسع فيما ملكت الإيمان.
ولعل يزيد لم يكن فى ذلك فلتة، فقد روى عن الخليفة المتوكل العباسى أنه: (كان منهمكًا فى اللذات والشراب، وكان له أربعة آلاف سرية، ووطئ الجميع) (تاريخ الخلفاء للسيوطى- ص 349: 350).
وقد تثير هذه القدرات الخارقة لعاب منتجى أفلام (البورنو) فى عصرنا الحديث، لكنها ممجوجة مكروهة إن كان الحديث عن الحكام، فى الإسلام أو حتى فى غير الإسلام، ولعل هذا كافٍ حتى يلزم المعترض علينا حده، ويثوب إلى رشده، ويتركنا ننتقل من حديث يزيد إلى حديث ولده، الوليد بن يزيد الذى أوصى له يزيد بالخلافة بعد أخيه هشام، ووفى هشام بعهده لأخيه، رغم ما كان يسمعه ويأتيه من أخبار فسق الوليد ومجونه، وهى أخبار تأكدت بعد ولايته، حين فاق الوليد أباه بل فاق ما عداه، وفعل ما لم يفعله أحد فى الأولين والآخرين، حيث يروى عنه أنه قد اشتهر بالمجون وبالشراب وباللواط.. وصدق أو لا تصدق، برشق المصحف بالسهام، وكان إلى جانب ذلك شاعرًا مطبوعًا، سهل العبارة، يُحسن اختيار الألفاظ ورويه.
وقد شاء الله أن يرزقه هذه الموهبة حتى يخلد لنا آثاره شعرًا يتناقله الرواة، ويتبعونه بالعياذ بالله، وبلا حول ولا قوة إلا بالله، وربما بشهادة أن لا إله إلا الله، ومن حسن حظ الوليد، وسوء حظ القارئ، أن كثيرًا من شعره وبعضًا من قصصه لا نستطيع روايته لوقاحة ألفاظه، وشذوذ أفعاله، لكن لا بأس أن نبدأ حديث الوليد بالمدافعين عنه:
فقد قال الذهبى: "لم يصح عن الوليد كفر ولا زندقة، بل اشتهر بالخمر والتلوط، فخرجوا عليه لذلك، وذُكر الوليد مرة عند المهتدى فقال رجل: كان زنديقًا، فقال المهتدى: مه، خلافة الله عنده أجل من أن يجعلها فى زنديق".
هذا حديث المدافعين عن الوليد، المنكرين أن يتهم بالكفر، أو أن يوصف بالزندقة، وهم فى دفاعهم يسوقون حججًا هشة، فمن قائل إنه لم يتجاوز التلوط أو شرب الخمر، وكأن ذلك هيّن ويسير، ومن قائل إن الله أرحم من أن يجعل خلافته فى زنديق، بينما نرى أن الله قد رحمنا بخلافة الزنادقة، من أمثال الوليد، حتى يعطى أمثالنا حجة نُفحم بها المزايدين، المدعين أن الدولة لا تنفصل عن الدين، وأنهما معًا حبل الإسلام المتين، بينما حقيقة الأمر أن الإسلام فى أعلى عليين، وأنه لا يضار إلا بالمسلمين، وعلى رأسهم الحكام باسم الإسلام، وإنه لا ضمان للمحكومين إن جار الحكام وأفسدوا، فبيعتهم مؤبدة، والشورى -إن وجدت- غير مُلزِمة، أو إن شئنا الدقة مقيَّدة.
واقرأ معى ما فعل الوليد حين قرأ ذات يوم {واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد، من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد}، فدعا بالمصحف فنصبه غرضًا للنشاب (السهام) وأقبل يرميه وهو يقول:
[أتوعد كل جبار عنيد فها أنا ذا جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم الحشر فقل يا رب خرقنى الوليد].
وذكر محمد بن يزيد المبرد (النحوى) أن الوليد ألحد فى شعر له ذكر فيه النبى وأن الوحى لم يأته عن ربه، ومن ذلك الشعر:
[تلعب بالخلافة هاشمى فلا وحى أتاه ولا كتاب
فقل لله يمنعنى طعامى وقل لله يمنعنى شرابي].
ولعل القارئ بعد قراءة ما سبق لا يذهل كما ذهلنا، ولا ينزعج كما حدث لنا، ونحن نذكر له أن الوليد حاول نصب قبة فوق الكعبة ليشرب فيها عام حج هو ورفاقه وأن حاشيته نجحت فى إقناعه ألا يفعل بعد لأى، وأنه فى (تلوّطه) راود أخاه عن نفسه، فالواضح من سيرته أنه أطلق لغرائزه العنان، حتى غلبت شهوة الغناء والشراب على الخاصة والعامة فى أيامه كما يذكر المسعودى، وتألق نجوم الغناء فى عصره، فكان منهم ابن سريج ومعبد والغريض وابن عائشة وابن محرز وطويس ودحمان، ولعله أدرك أنه تجاوز الحد، فلم يعد يعنيه أن يضيف إلى ذنوبه ذنبًا، أو إلى سيرته مثلبًا، شأنه فى ذلك شأن ضعاف الإيمان، حين يقنطون من رحمة الله، فيضاعفون من معاصيهم، ونحن فى هذا لا نلتمس له عذرًا، وإنما نعبر عن رأيه هو فى نفسه، حين أطلقه شعرًا فقال:
[اسقنى يا يزيد بالقرقارة قد طربنا وحنت الزمارة
اسقنى اسقنى، فإن ذنوبى قد أحاطت فما لها كفارة].
وبالفعل، فقد أحاطت به الذنوب، وتألب عليه الصالحون، وانتهى الأمر بخروج ابن عمه يزيد بن الوليد عليه، وقتله، بعد خلافة قصيرة استمرت عامًا وثلاثة أشهر وشاء القدر أن تكون خلافة يزيد أقصر، فلا تستمر إلا خمسة شهور يموت بعدها ليتولاها بعده شقيقه إبراهيم لمدة سبعين يومًا فقط ثم يعزل على يد مروان بن محمد، انتقامًا لمصرع الوليد بن يزيد، ثم ينتهى عصر الدولة الأموية بمصرع مروان على يدى العباسيين، بعد خلافة استمرت نحو خمس سنوات.

ونتوقف قليلاً قبل أن ننتقل إلى خلافة العباسيين، مستخلصين نتيجتين نوجزهما فيما يلى:
النتيجة الأولى:
أننا نشهد فى الدولة الأموية عهدًا مختلفًا كل الاختلاف عن عهد الراشدين، أضاف إلى فتوحات الإسلام الكثير، حتى امتدت الدولة الإسلامية من الهند شرقًا إلى الأندلس غربًا، وأضاف إلى سلطة الدولة وهيبتها وتماسكها الكثير، حيث لم يخرج فيها أحد من الأمويين على آخر، إلا فى نهاية الدولة حين خرج يزيد على الوليد، ثم خرج مروان على يزيد فكان ذلك نذيرًا بالنهاية، بينما حفل تاريخ العباسيين بكثير من الخروج والانقسام داخل الأسرة الحاكمة حتى قتل الابن أباه، والأب ابنه، وشاع خلع الخلفاء وسمل أعينهم، وقتلهم بسحق مذاكيرهم، وغير ذلك من الأحداث على مدى الخمسمائة عام الأخيرة فى حكم العباسيين.
وعلى حين يبدو أبوجعفر المنصور، والمأمون، رجال دولة متفردين فى تاريخ الدولة العباسية، لا يناظرهم أحد، ولا يطاولهم مطاول، نرى أن الدولة الأموية على قصر عمرها قد حفلت برجال الدولة العظام، وعلى رأسهم معاوية، ورجل الدولة الأول فى تاريخ الدولة الإسلامية كلها.
وقد يتساءل البعض: "وأين عمر؟".
ونرد عليه بأن عمر قد تفرد بأنه الوحيد فى تاريخ الخلافة الإسلامية الذى يمكن أن يطلق عليه وصف (رجل الدين والدولة معًا)، بينما لا تجتمع الصفتان بعد ذلك لأحد، فهناك رجال الدين مثل على بن أبى طالب، (رابع الراشدين)، وعمر بن عبدالعزيز، (الأموى)، والمهتدى (العباسى).
وهناك رجال الدولة مثل (معاوية)، (عبدالملك بن مروان)، (الوليد بن عبدالملك)، (هشام بن عبدالملك)، وهم أربعة خلفاء حكموا سبعين عامًا، بينما حكم الفترة الباقية (اثنتين وعشرين عامًا) عشرة خلفاء بالتمام والكمال.
وحينما نذكر أسماء الخلفاء الأربعة السابقين مقترنا بلقب (رجل الدولة)، نضع فى اعتبارنا هيبة الحكم، وفتح الثغور، وعمارة البلدان، وفى تقديرنا أن سيرة هؤلاء الخلفاء قد ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بفصلهم بين الدين والدولة عند قيامهم بأمانة الحكم، ولعل موقف معاوية من (على) مثال أوضح على ذلك، ولعل موقف عبدالملك بن مروان من المصحف عندما بلغه نبأ ولايته مثال أوضح، وقد أدرك كل منهم أنه لا يولى بصفته الأصلح دينًا، أو الأكثر إيمانا، وإنما يولى بوسائل دنيوية محضة، وعليه إن أراد أن يستمر، أن يضع نصب عينه أن الولاية من جنس التولية، فكلاهما دنيا وسطوة وحكم، وقد أجاد الخلفاء الأربعة اختيار معاونيهم، فكان منهم عمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد بن أبيه، ومسلم بن عقبة، والحجاج بن يوسف الثقفى، وهم بموازين السلطة والسطوة رجال، وبمقاييس عصرهم قادة، وهم أهل الدهاء لا النقاء، والسيف لا المصحف، وقد أرتأوا جميعًا أن أسهل السبل لإسكات المعارض قطع رأسه، وأن الخوف إذا تمكن من النفوس توطن فيها، فمكنوه ووطنوه وتعهدوه بالرعاية حتى صار ماردًا، وحذوا حذو مؤسس دولتهم معاوية، رجل الغاية لا الوسيلة، رجل الحكمة الشهيرة (إن لله جنودًا من عسل)، حيث يروى عنه أنه كان يضع السم لمعارضيه فى العسل، وأنه هكذا كانت نهاية الحسن، والأشتر النخعى وغيرهم، ورغم أن أحدًا لا يقر معاوية، أو غيره على فعالهم أو على الأقل لا يدعو للتأسى بهم، إلا أنه من الواجب أن نتعلم مما فعلوا درسًا بليغًا: أن على الحاكم -أى حاكم- أن يتعرف جيدًا على ساحته، وأن يتمسك جيدًا بأسلحته، وأن ينأى بنفسه وبحكمه عن استعارة سلاح الآخرين، أو الانتقال إلى ساحتهم، أو الرقص على أنغامهم، ولو حاول معاوية أو عبدالملك، ولو حاول مساعدوهم مثل زياد أو الحجاج، أن يحتكموا إلى القرآن، أو يناظروا مخالفيهم حول صحيح الإيمان، أو يفسروا قراراتهم بتعاليم الإسلام، أو يتباهوا على المخالفين لهم والخارجين عليهم بالصلاح والتقوى ونظافة اليد ونقاء السريرة، لانتهى حكمهم قبل أن يبدأ، ولأخلى معاوية مكانه لحجر بن عدى، ولتنازل عبدالملك عن منصبه للحسن البصرى، لكنهم احتكموا للسيف، وهو دستور عصرهم، فدانت لهم الدولة، وسهل عليهم الحكم، وربما سعدت الرعية بالاستقرار والأمن والأمان.
ولعل عصرنا لا يخلو من سيف متحضر هو الدستور، لا يُسيل دمًا وإنما يحفظ استقرارًا، ولا يطيح برؤوس وإنما يلزمها جادة الصواب، وليس لحاكم فى عصرنا، أو لنظام حكم فى عالمنا المعاصر إلا أن يستوعب درس السابقين، بأسلوب العصر لا بأسلوبهم، وليس له أن يحاور الخارجين فى ساحتهم، أو بسلاحهم أو أن يرقص على أنغامهم، وإنما عليه أن يلزمهم بالمحاورة فى ساحته، فليس أمامه ولا أمامهم ساحة غير ساحة الدستور، وليس هناك من سلاح إلا القانون، وليس هناك من أنغام إلا الديمقراطية والشرعية، ليحمدوا الله أن يجدوا فينا يزيد، ولم يتطرف منا وليد، ولم يتولّ وزارة الداخلية فى بلادنا حجاج، ولم يتملك منا عبدالملك، ولم يدَّعِ أحد من حكامنا أنه لا حساب عليه ولا عقاب، غاية ما فى الأمر أنه يوكل إلينا حساب السياسة فى أمور السياسة، ويحتكم أمامنا إلى الدستور ومؤسسات الدولة فى أمور الحكم، ويترك ونترك حساب الآخرة إلى الله وليس إلى الجماعات الإسلامية أو أئمة المساجد المسيسين.

النتيجة الثانية:
أن الشعر والأدب وفن العمارة والغناء، بل أكثر من ذلك مذاهب الفقه واجتهادات الفقهاء، قد بدأت فى الظهور والتألق مع نهاية الدولة الأموية، ومع انحسار القيود (الشكلية) للدولة الدينية ووصلت للغاية فى العصر العباسى الأول.
يكاد القارئ يلاحظ علاقة طردية بين دنيوية الدولة وتألق الفكر والأدب والعلوم والفنون والفقه، فحينما تزداد هذه يتألق أولئك، وعلى العكس من ذلك يضمحل كل شىء مع ازدياد سطوة الدين فى الدولة الدينية إلا العبادة وقصص الزهاد وأقوال الصالحين.
ولا أحسب أن ما أذكره هنا استنتاج بقدر ما هو حقيقة بسيطة وواضحة، وقد مضى عهد الراشدين، وخلدت لنا كتب التاريخ سكناته وأحداثه، فلم تسمع فيه قصيدة لافتة، أو فنا يطرب أو يهز الوجدان أو يبقى للأجيال، ذلك لأن الفن حرية، والحرية لا تتجزأ، والفنان لا يتألق إلا إذا أحس بفكره طليقًا، وبوجدانه منطلقًا، وبوجدان الآخرين مرحبًا، وبأذهانهم سعيدة بإبداعاته، مستعدة أن تغفر له شطحاته، مقبلة على الحياة لا على الموت، متفتحة للنغم لا للوعيد.
ولا أحسب أن ذلك كله جزء من طبيعة الدولة الدينية، بل هو متنافر معها كل التنافر، متناقض مع قواعدها، أشد التناقض، ولعل إحدى مشاكل الداعين للدولة الدينية أنهم يدركون أنها تحجر على كل إبداع أو تفتّح أو إجهاد للذهن أو اجتهاد للعقل، وأن كل ما يعيشه الناس ويتقبلونه تقبلاً حسنًا، لا يمكن قبوله بمقاييس الدولة الدينية بحال، فالأغانى مرفوضة، والموسيقى مكروهة عدا الضرب على الدفوف، والمغنيات فاجرات نامصات متنمصات، والمتغنون بغير الذكر ومدح الرسول فاسقون يلهون المسلمين عن ذكر الله ويدعونهم إلى الفاحشة، وممارسة المرأة للرياضة فتنة وإثارة للفتن، واختلاطها بالرجال جهر بالفسق، والتمثيل مرفوض لأنه كذب، ولأن هزله جد وجده هزل ورسم الصور للأحياء حرام، وإقامة التماثيل شرك، والديمقراطية مرفوضة لأنها حكم البشر وليس حكم الله، ومعاملة أهل الذمة على قدم المساواة إن لم تكن منكرًا فهى مكروهة، ولا ولاية للذمى، وباختصار عليهم أن يهدموا كل شىء، ويظلموا كل شىء، ويمنعوا كل شىء، وأن تقام دولتهم على أنقاض كل شىء، وبديهى أن الحديث فى هذا الإطار عن حرية الفكر لغو، وأن ادعاء حرية العقيدة هراء، وأن تصور نهضة الأدب أو الفن نوع من أحلام اليقظة لا يستقيم مع الواقع، ولا يستقيم الواقع معه، ولعل هذا أحد أسباب حرصهم على الامتناع عن بلورة برنامج سياسى متكامل، به قدر قليل من المواعظ والكلمات الطنانة، وقدر كبير من تصور الواقع أو معايشته، وبه قدر ولو معقول من احترام عقولنا، ناهيك عن احترام مشاعرنا.