رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«رب اشرح لى صدرى».. دعاء كل من ضاقت به نفسه


مَنْ منّا لم يمر بلحظة يشعر فيها بضيق فى الصدر، بعيدًا عن آلام وأسباب عضوية، حتى إنه يجد صعوبة فى استخراج الكلام، ويشعر كما لو أن دقات قلبه يسمعها جميع من حوله، كثيرون ربما عاشوا هذا الشعور الصعب الذى يجدون فيه أنفسهم عاجزين عن الكلام بالطلاقة المعتادة، وكأن شيئًا جاثمًا على صدورهم، يكتم أنفاسهم، ويجعلهم يشعرون بحالة من الضيق والاختناق الشديد.
يحدث هذا كثيرًا عندما يكون هناك أمر ما يشغل تفكير الإنسان، ويستحوذ على اهتمامه، كأن يكون مقبلًا على اختبار صعب، ويريد فيه إثبات جدارته، فينعكس إلى مشاعر من القلق والخوف الشديدين، خوفًا من الفشل وعدم النجاح، فما الحال إذا كان هذا الإنسان مكلفًا بأعظم رسالة حملها إنسان على وجه الأرض، مكلفًا بإبلاغها على أتم وجه، آخذًا بكل الأسباب التى تعينه على تحقيق هذا الهدف.
والأنبياء جميعهم بلا استثناء خاضوا هذا الامتحان الصعب، فلم يكن الطريق ممهدًا أمامهم بالورد، بل واجهوا الصعاب، ووضعت فى طريقهم العراقيل لإفشال مهمتهم العظيمة، المتمثلة فى هداية الناس إلى عبادة الرب الواحد، لأن ذلك من شأنه أن ينسف عقائد وأباطيل علقت فى الأذهان على مدار سنين طويلة، ناهيك عن أن ذلك يتعارض بالكلية مع مصالح هؤلاء الذين نصبوا أنفسهم حكامًا وآلهة فى الأرض.. إذ كيف لهم أن يتنازلوا بسهولة ويقبلوا الاعتراف بأنهم عباد لله، تسرى عليهم كل قوانين الخلق.. من هنا كانت مهمة سيدنا موسى، عليه الصلاة والسلام، فى غاية الصعوبة، وهو الذى أرسله الله إلى فرعون، الذى كان يعتبر نفسه إلهًا لا ينازعه أحد، «وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَٰأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِى فَأَوْقِدْ لِى يَٰهَٰمَٰنُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّى صَرْحًا لَّعَلِّى أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّى لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَٰذِبِينَ».
وعلى قدر عِظَم المهمة التى كلف بها، جاءت استعانة موسى بالخالق الأعظم فى إبلاغ رسالته، مهما كانت التحديات، والخطورة التى سيواجهها فى إيصالها إليه، ولم يكن ذلك لخوف منه، وهو المدعوم من الله القوى، بل لإدراكه أن فرعون الذى ادعى الإلوهية لنفسه لن يقبل بسهولة الاعتراف بوحدانية الله، والإذعان لحقيقة أنه لا سلطان لأحد على الناس سوى ربهم خالقهم.
قال له الخالق: «اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى»، فلم يتردد «موسى» فى الإجابة، وطلب منه العون والسداد فيما كلفه، وتوجه إليه بلسان صدق بأن يوفقه فى مهمته التى أوكلها إياه: «رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى* وَيَسِّرْ لِى أَمْرِى* وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِى* يَفْقَهُوا قَوْلِى».
الدعاء يتضمن أربعة طلبات، يجمعها رابط واحد، إذ إنه دعاء رفع الروح المعنوية وبث الأمل، والتخلص من اليأس والإحباط، وشحن العزيمة على تحمل المسئولية، وتقوية الإرادة داخل الإنسان على مواجهة مشكلات الحياة، وبالتالى فهو دعاء بناء الثقة بالنفس.
بعض الناس يظن أن هذا الدعاء يقال عند الذهاب إلى الامتحانات الدراسية، نعم هذا صحيح، لكنه يقال أيضًا فى مواقف أصعب، مثل التقدم لوظيفة ومقابلة عمل، لأنه يرفع الروح المعنوية، ويزيل الخوف والرهبة من داخل الإنسان من خلال قول «رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى»، كما أنه يحتوى على طلب إزالة المعوقات المادية بقول «وَيَسِّرْ لِى أَمْرِى»، ويأتى بعد ذلك قوله «وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِى»، وذلك لأن عقدة اللسان تأتى من القلق والاضطراب والتوتر، وبالتالى عندما تزول أسباب الخوف والرهبة والعقبات المادية ينطلق اللسان ويتحدث ويؤثر فى الآخرين، وبالتالى فهى أدعية مترتبة على بعضها.
فالدعاء هو سلاح المؤمن الذى يلجأ إليه فى كل أحواله طلبًا للنصر والعون من الله، ودفع ما يضره عنه، ولا عجب أن يكون للدعاء هذه القوة، فلا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يمنع البلاء إلا الدعاء، فالأخذ بالأسباب يحقق للبشر مرادهم، لكن الدعاء يزيد فوق ذلك بأن يحقق مراد الله فيهم.
وعلى قدر إيمان العبد تكون استجابة الله، فالدعاء إما أن يستجيب الله له، أو يدفع به ضررًا عن الداعى، فينبغى أن يستحضر المؤمن فى لحظة دعائه عظمة الخالق، وطلاقة قدرته، التى تقول للشىء: «كن فيكون»، والنبى، صلى الله عليه وسلم، يقول فيما يرويه عن ربه: «أنا عند ظن عبدى بى، وأنا معه إذا دعانى».
دعا موسى ربه: «رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى»، فانشراح الصدر هو الذى يجعل الإنسان يطيق فوق قدرة احتماله العادية، ويجابه المخاطر بإقدام، ويجعل كل صعب يسيرًا، وما يظنه العبد مستحيلًا ممكنًا.
وموسى كان يدرك أنه سيتعرض للأذى فطلب من الله أن يعطيه القدرة على مواجهته، وواصل دعاءه لربه: «وَيَسِّرْ لِى أَمْرِى»، فالتيسير فى الأمور من علامات التوفيق للعبد المؤمن، فلا يواجه عثرات، ولا مشقات، وإن واجهها أعانه على تجاوزها بسهولة ويسر، فمن كان يظن أن البحر يتحول بقدرة الله القادر إلى طريق أمان إلى موسى ومن تبعه من المؤمنين لولا إرادة الله الحق.
ومن أهم الوسائل التى يجب أن يتمتع بها الداعية إلى الله القدرة على اجتذاب الناس بحسن الفصاحة والبيان، على أن يكون الإخلاص هو المحرك الأساسى له، «وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِى* يَفْقَهُوا قَوْلِى»، فكل قضية عادلة تتطلب من صاحبها القدرة على الإقناع، وأخذ ألباب الناس، عبر التأثير على عقولهم وقلوبهم معًا، بالحكمة والموعظة الحسنة، كما أمر الله الكريم.
وقيل إن موسى، عليه السلام، كان يسأل ربه بهذا الدعاء أن يذهب عنه «اللثغ»، لأنه «حين عرضت عليه التمرة والجمرة، حين كان صغيرًا فى بيت آسية زوجة فرعون، أخذ الجمرة فوضعها على لسانه»، وكان لذلك أثره عليه فى حياته اللاحقة.
والقرآن الكريم فى موضع آخر يتحدث عن انشراح الصدر فى سورة «الشرح»، فيقول الله تعالى مخاطبًا نبيه الكريم، صلى الله عليه وسلم: «أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ»، أى نورناه وجعلناه فسيحًا رحيبًا واسعًا، والمراد به شرح صدره ليلة الإسراء، وهى الرحلة التى لم يشرف بها أحد من البشر من قبل، وجاءت للتسرية عنه، صلى الله عليه وسلم، بعد ما لاقاه من أذى وعنت فى تبليغ رسالة الله للعالمين، وفقدانه أهم داعميه فى الحياة، زوجته «خديجة» وعمه «أباطالب»، حتى إن العام الذى توفيا فيه بات يسمى «عام الحزن» لوقع ذلك على قلبه، فأخرجه الله من حالته هذه برحلة رأى فيها ما لم يره بشر أو نبى من قبل.
فإن أكثر ما يصيب الإنسان بضيق الصدر هو الأحزان والهموم، وأكثر ما يعالجها السعادة والفرح، ومستحيل لأى أحد أن يحقق السعادة فى غير رضا ربه، فتلك هى أعظم سعادة، وهو أن ينال العبد رضا الله، فالمال قد يكون مهمًا للكثيرين، وضرورة حياتية بالقطع، لكنه وحده لا يحقق للإنسان السعادة التى يريدها، وإلا ما سمعنا عن تزايد حالات الانتحار فى بلد مثل سويسرا، رغم الثراء ومستوى الرفاهية هناك، فالاقتراب من الله هو الذى يمنح الإنسان الشعور الحقيقى بالسعادة، الذى يجعل صدره متسعًا، ومنفتحًا على الناس، كل الناس، بلا استثناء، ويتحمل الأذى، ويمتلك القدرة على الصفح، فاسألوا الله تعالى أن يرزقكم سعة فى الصدر، كما أعطاها من قبل لنبينا محمد وموسى، عليهما السلام.