رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشيخ المهدى العباسى .. تميز بالتمسك بالحق دون خوف


هو الشيخ محمد المهدي العباسي، المولود عام 1827 في الإسكندرية، كان مُفتياً للديار المصرية، وهو أول من جمع بين منصبي الإفتاء ومشيخة الأزهر، واستمر بالإفتاء أربعين سنة. ومن مصنفاته: الفتاوى المهدية في الوقائع المصرية سبعة أجزاء وهو مجموع فتاواه. سلك محمد المهدي طريق العلم مثل جده وأبيه، فحفظ القرآن الكريم ومتون الفقه والحديث والنحو، ولما تولى إبراهيم باشا بن محمد ولاية مصر استدعى محمد المهدي، وأصدر أمراً بأن يتولى منصب الإفتاء في عام 1847م خلفًا للشيخ أحمد التميمي المفتي السابق. وكان محمد المهدي حين ولي هذا المنصب الجليل في الحادية والعشرين من عمره طالب علم يلازم حلقات العلماء لا يصلح للنهوض بأعباء الفتوى على الرغم من ذكائه الحاد واجتهاده في تحصيل العلم، بل إنه حين استدعي لتولي هذا المنصب كان في حلقه الشيخ السقا يتلقى عليه.
لكن السياسة وأهواءها قد تبتعد عن الحق، وتعدل عن العقل والحكمة، وتقدم على الغريب من الأعمال، وهذا ما كان من أمر إبراهيم باشا الذي كان في زيارة إلى عاصمة الخلافة العثمانية ليتسلم من السلطان مرسوم ولايته على مصر، وتقابل هناك مع شيخ الإسلام عارف بك، فأوصاه خيراً بذرية الشيخ محمد المهدي الكبير، وأن يولي منهم من يصلح لمنصب أبيه، فاستجاب إبراهيم باشا لوصية شيخ الإسلام وحرص على استرضائه، فعزل المفتي القديم، وأقام محمد المهدي في منصبه، وهو لا يزال صغير السن، لم يتجاوز مرحلة طلب العلم. وحلاً لهذا المعضلة عُقد للمفتي الجديد مجلس بالقلعة حضره مصطفى العروسي شيخ الجامع الأزهر وكبار العلماء، واتفقوا على تعيين أمين للفتوى يقوم بشئونها حتى يتأهل صاحبها، ويباشرها بنفسه. ولم يفقد المنصب الجليل الحكمة لدى المفتي الشاب ويظن أنه تولاه عن جدارة واستحقاق، فانكب على القراءة والدرس حتى يكون أهلا لما اختير له، وما هي إلا سنوات معدودة حتى أصبح جديرا بالمنصب، مؤهلا للتدريس في الأزهر بين كبار العلماء، وكان يدرس لطلابه كتاب الدر المختار وهو من أهم مصادر الفقه الحنفي، وغيره من أمهات الكتب، وجمع المفتي إلى جانب العلم وسعة الاطلاع ودقة الفهم ورعاً وزهداً وصلاحاً، فلم يخشَ في الحق لومة لائم، ويصدع بالحق دون خوف أو وجل، فحين أراد عباس الأول والي مصر أن يستولى على ثروة أسرة محمد علي بحجة أنه جاء إلى مصر لا يملك ديناراً أو درهما، وأن ما في أيدي أسرته إنما هو مال الأمة يجب رده إليها، وقف له المفتي وامتنع عن إصدار فتوى تبيح للوالي الإقدام على مثل هذا العمل، فحاول إكراهه وتهديده، فإزداد امتناع الشيخ ولم يأبه لتهديدات الوالي. وفي عهد الخديوي إسماعيل تولى محمد المهدي الأزهر سنة 1870 م خلفًا للشيخ مصطفى العروسي، مع احتفاظه بمنصب الإفتاء، فكان أول من جمع بين المنصبين وأول حنفي يتولى مشيخة الأزهر، وكان عادة يتولى المشيخة العلماء من أصحاب المذهب الشافعي، وهو يعد أصغر من تولى المشيخة في تاريخها المديد. وكان الشيخ الجليل عند حُسن الظن، فباشر عمله بكل حزم ونشاط، وشرع في تنظيم شئون الأزهر الإدارية والمالية، وأعاد لأهل الأزهر ما كان لهم من رواتب شهرية وسنوية، وتشدد في إنفاق أموال الأوقاف على مستحقيها وفق الشروط التي وضعها الواقفون. ثم استصدر قرارا من الخديوي بوضع قانون للتدريس بالأزهر، فاستجاب له، وكان هذا أول خطوة في إصلاح نظم الأزهر وتطوير الدراسة به، واختيار القائمين على التدريس به وفق شروط موضوعية، وكان المعتاد أن يجلس للتدريس بالأزهر من يجد في نفسه قدرة على التدريس، فإذا أقره شيوخه على هذا بعد حضور دروسه استمر في عمله، وكانت هذه الطريقة ينفذ من خلالها من ليس أهلا للتدريس بفعل المجاملة والتساهل.
أراد الخديوي إسماعيل أن يلحق للأوقاف الأهلية بالأوقاف العمومية ليسهل الاستيلاء عليها، حيث كان ناظراً عليها، ورغب في أن يعوض أربابها بما يكفل لهم معاشهم، وسأل الفتيا في ذلك فأفتاه بعض العلماء بجواز ذلك، فكان ذلك مسوغاً له ليشيد في طلب موافقة الإمام الذي أعلن رفضه لما يطلبه الخديوي، ولم يخضع لتهديداته قائلا: (إنه ليسهل عليه تجرده مما يملك وما ورث عن آبائه على أن يعلن أنه حكم بغير ما أنزل الله، وأنه حابى بدينه، أو راعه التهديد، ولم يعد أمام الخديوي سوى أن يعقد جلسة للعلماء؛ لبحث شرعية ما ينوي الإقدام عليه، وانتهى الرأي بالحاضرين من العلماء إلى صواب ما ذهب إليه الإمام الأكبر، فارتفعت مكانته وزادت هيبته بين الحكام). لم يزل الشيخ الكبير موضع إجلال وتقدير من كافة طوائف الناس حتى قامت الثورة العُرابية فلم يتجاوب معها، فطلب عُرابي من الخديوي توفيق عزله، فأجابه إلى ما طلب، وعزله في عام 1881 م، ولما اشتدت الثورة العُرابية كتب العلماء وقادة الثورة قرارا بعزل الخديوي توفيق، وطلبوا منه التوقيع على البيان، فرفض فلما اشتدوا عليه في الطلب قال لهم: (أنا لا أوقع بيدي، فإذا كان في الأمر غضب، فإن خاتمي معي فخذوه ووقعوا أنتم بأيديكم كما تشاءون) ولعله كان يرى أن الذي يملك عزل الخديوي هو الخليفة العثماني. ولما فشلت الثورة العُرابية وعاود الخديوي توفيق إلى الحكم أعاد الشيخ إلى منصبة في 2 من أكتوبر 1882 م تقديراً منه لعلمه وفضله، غير أن ذلك لم يمنع الشيخ من أن يعقد جلسات في بيته يؤمها بعض الكبراء والعلماء، يتكلمون في السياسة ويظهرون سخطهم على الاحتلال البريطاني وعلى ممالأة الحكومة المصرية له، فلما نمى ذلك إلى الخديوي توفيق غضب غضباً شديداً، وزاد من ذلك أن نوبار باشا رئيس النظام اشتكى الخديوي أن شيخ الأزهر يعارض أحكام القضاء، وأنه يتدخل في اختيار القضاة الشرعيين، وكان الشيخ يراعي في اختيارهم العلم والأمانة والدقة، ويحميهم من تدخل الحكام. فلما لامه الخديوي توفيق في إحدى المناسبات وخاطبه بغلظة أن لا يتدخل فيما لا يعنيه، أجابه الشيخ في عزة بأن طلب إعفاءه من المنصب بحجة أنه كبر سنه ولم يعد يتحمل أعباء الأزهر، فغضب الخديوي من رد الإمام الذي لم يكن يتوقعه، فقال له مستفهماً: (ومن الإفتاء أيضًا؟) فقال له نعم، ثم انصرف الشيخ، فأمر الخديوي بتعيين الإمام الإنبابي شيخاً للأزهر خلفاً للإمام المهدي في 30 من نوفمبر 1886 م.
ظل الشيخ محل تقدير وإجلال ومصدراً للفتوى بين الناس لما عُرف عنه من تقوى وصلاح، وكرمته دولة الخلافة العثمانية، فمنحه الباب العالي كسوة التشريف من الدوحة الأولى، والوسام العثماني الأول سنة 1892م، وفي سنوات عمره الأخيرة أصيب بالشلل وهو يتوضأ لأداء الصلاة، وظل مريضاً نحو أربع سنوات حتى لقي ربه في 8 ديسمبر 1897 م.
وقد أسفرت الأربعون عاماً التي قضاها في منصب الإفتاء عن سبعة مجلدات كبيرة ضمت فتاوى بعنوان: الفتاوى المهدية في الوقائع المصرية وهي تضم ثروة فقهية هائلة، وهي من أهم المصادر في الإفتاء، وطُبعت بمعرفة حفيد الشيخ المهدي المستشار محمد أمين المهدي.