رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إوعى يمينك إوعى شمالك: الحمير والناس قبل التحديث


هل تصدق أيها القارئ الكريم أن "لا مؤاخذة" الحمار كان وسيلة المواصلات الأولى في القاهرة، بل دعوني أقول في كل المدن في الشرق، ربما حتى نهاية القرن التاسع عشر! نعم، إنها قصة مهمة ومثيرة، قصة الحمار وطائفة الحمارين أو المكارية ودورهم وتأثيرهم في مدن الشرق حتى دخول وسائل النقل الجماعي إلى المنطقة.
عرفت القاهرة العديد من مواقف الحمير؛ حيث يذهب إليها الناس للانتقال من منطقة إلى أخرى، بصورة أقرب إلى مواقف الميكروباص الآن، وكانت هناك خطوط ومسارات تنظم حركة الانتقال بالحمير. وكانت طائفة المكارية، أي "سائقي" الحمير، من الطوائف المهمة في الحياة اليومية لأي مدينة، وكان هناك شيخ لطائفة المكارية ينظم طبيعة المسارات، وقيمة الأجرة، ويفض المنازعات التي تنشأ بين الجمهور والمكارية، أو حتى بين أبناء الطائفة أنفسهم.
تخيل أنك كنت تسكن في حي خان الخليلي وتريد أن تذهب إلى "مصر عتيقة"، مصر القديمة، لقضاء مصلحة ما أو زيارة الأهل؛ عليك أن تذهب إلى أول الدرب حيث موقف الحمير، وتأخذ الحمار اللي عليه الدور، ولا بُد أن تسأل إذا كان هناك خط مباشر إلى مصر القديمة، أو أنك ستتفاوض مع المكاري على توصيلة خصوصي وأجرة خاصة. وفي النهاية ستركب الحمار الذي يقوده المكاري بحرفية شديدة في وسط زحام القاهرة الفاطمية، قبل أن يخرج إلى الفضاء الذي سيؤدي به إلى مصر القديمة، وكثيرًا ما كانت تدب المشاجرات بين الراكب والمكاري في نهاية الرحلة عند دفع الأجرة، رغم الاتفاق عليها مسبقًا.
وكان ركوب الخيل مقصورًا على الفرسان ورجال الحكم، أو من كانوا يعرفون بـ"أهل السيف"، بينما كانت وسيلة انتقال القضاة وعلماء الأزهر "البغال"، أما ركوب الحمير فكان لبقية الناس.
وتحكي المصادر كثيرًا عن ما يمكن أن نطلق عليه تجاوزًا "اكسسوار الحمار"، ولعل أشهرها البردعة، وحلية الحمار، وأحيانًا الجرس في رقبة الحمار لتنبيه المشاة- مثل كلاكس السيارة الآن- هذا فضلاً عن حدوة الحمار وغيره.
وهناك حكايات شهيرة عن أدوار خاصة لعبها المكارية كرُسُل غرام بين المحبين، وتدبير لقائهم في أماكن على أطراف المدينة، وفي بعض الأحيان كان المكارية واسطة في تسويق بنات الليل، خاصةً في العشش التي تقام في الضواحي، ولذلك كانت سمعة الكثير من المكارية ليست فوق مستوى الشبهات.
كما ارتبط تاريخ المكارية بالأحداث السياسية، ولعل أشهر هذه الحوادث مذبحة الإسكندرية التي بدأت بين أجنبي ومكاري في خلاف على الأجرة، ثم تطورت إلى صراع بين أولاد البلد والأجانب، حيث سقط العديد من القتلى والجرحى، وأخذت بريطانيا هذا الحادث ذريعة لحماية الأجانب، وعدم قدرة أحمد عرابي على حفظ النظام، من هنا كان ضرب الإسكندرية، واحتلال مصر في عام 1882.
ورغم دخول الترام إلى مصر مع نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، استمر دور الحمار والمكارية في الحياة اليومية في المدن المصرية، لكن الضربة الكبرى لهذه الطائفة ستأتي أثناء الحرب العالمية الأولى، عندما تستولى انجلترا على معظم الحمير في مصر لاستخدامها في المجهود الحربي كوسيلة نقل للمؤن والعتاد، وأحيانًا لجر المدافع وغيرها، وترك هذا أثرًا كبيرًا على هذه الطائفة، وعلى استخدام الحمير في النقل الداخلي، الذي تراجع أيضًا وبشكل كبير مع انتشار خطوط الترام في القاهرة والإسكندرية.