رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ورقة من مذكرات طبيب مصري بألمانيا خلال جائحة كورونا لـ«الدستور»: كل عبارات الطمأنة سقطت هنا

طبيب مصري
طبيب مصري

"أنا طلال فيصل، أخوك في الله طلال فيصل، واحد من حراس اللاشيء، وولي من أولياء الشيطان، أول من قال لا في وجه من قالوا نعم، فهمت كل شيء وعرفت كل شيء.. أما عن الحكاية فهي مسلية لمن يسمعها ومؤلمة لمن عاشها".

كانت تلك الكلمات من رواية "بليغ" للروائي المصري طلال فيصل، والذي يعمل طبيبًا نفسيًا بقسم الطب النفسي بمستشفى ماربورغ الجامعي، بوسط غرب من ألمانيا. طلال يعمل بالقسم الخاص بكبار السن، أو ما يُعرف بـ "طب نفس المسنين".

الكلمات السابقة تُعبر عما يعيشه كاتبها خلال أزمة "كوفيد 19" الذي كان شبحًا يُهدد ألمانيا والتي احتلت بنهاية أبريل الماضي المرتبة الخامسة بقائمة أكبر بؤر كورونا في العالم، وذلك على الرغم من التقدم التي أحرزته برلين في السيطرة على العدوى خلال الفترة الحالية.

يقول فيصل لـ"الدستور" من ألمانيا، موثقًا هذه الأيام بالنسبة له كأحد الأطباء الذين يقفون في الصفوف الأولى لمواجهة القاتل الصامت: "لك أن تتخيل الوضع؛ كل مرضاك من كبار السن والطاعنين، والذين يسمعون كل يوم في الراديو وشاشات التلفزيون ومن الأطباء أنهم الفئة الأكثر عُرضة للوفاة جراء الإصابة بفيروس كورونا".

"كل العبارات الكلاسيكية التي نطمئن بها الناس، أو غيرهم من المرضى، لا يصح هنا أن تفكر فيها، دعك من النطق بها. كل مريض منهم يحمل كل عناصر القلق التي نسمعها بشكل متكرر: السن المتقدمة، قائمة الأمراض المزمنة التي يحملها على ظهره، أو في صدره، المناعة الضعيفة. كل ما تقرأ أو تسمع يطمئن غيرك ولا يأبه لك، كأن العالم يحاربك أو يتآمر ضدك، خاصة مع إحساسهم الدائم أن الحياة في محطتها الأخيرة، وأحيانا بأن وجودهم عبء على الجميع، وعلى أفضل تقدير، لا قيمة له".

تصاعدت الدراما كذلك، بعد تأكد إصابة أحد زملاء فيصل في المستشفى بالعدوى، يقول لـ"الدستور": "لم يُصبنِ الذعر بشكل الشخصي ولكنه – مثل الفيروس – ينتقل بالعدوى. تم عزل المصاب، وإجراء فحص لكل العاملين والمرضى، لم يُصب أحد آخر وكانت النتيجة للجميع سلامتهم من الإصابة، لكن أيام من القلق، والأسئلة المكررة، والأجوبة المطمئنة التي لا تجد سامعا. أطنان من الأوراق ينبغي ملؤها، وفحص عام لكل داخل للمستشفى بما فيها العاملون وإجراءات جديدة. الجدية الألمانية التي كانت ثقيلة على النفس تبدو إيجابية الأثر الآن، والصرامة والتدقيق يبدو أنها ستكون سبيل النجاة مجددا لشعب يقدس العمل والجدية".

رغم جو الرعب الذي يهدد العالم، ورغم ما يعيشه فيصل في المدينة الباردة ومستشفاها البعيد، إلا أنه اختار رواية بعيدة عن كل ذلك ليقرأها هذه الأيام.

بدافع التضامن الإنساني مع اللحظة الفارقة انتهى من روايات الأوبئة؛ طاعون ألبير كامو ورواية ديكاميرون بوكاشيوالذي يفرض الوباء على عشرة أشخاص خلال العزلة، فيتبادلون الحكايات في ما بينهم لتزجية الوقت، ثم اختار أحدث روايات كاتبه الإنجليزي المفضل – حسبما يقول - جوليان بارنز "الرجل ذو المعطف الأحمر"، والتي تدور حول الطبيب صموئيل بوتزي المعروف بأنه سليل عائلة بروتستانتية من أبرز أطباء النساء في القرن التاسع عشر - ومؤسس أول كرسي في أمراض النساء في فرنسا وكان قارئًا يمتلك مكتبة ضخمة إلى جانب حبه للفنون.

تتحدث الرواية عن حياة بوتزي على أساس الصورة المميزة التي رسمها له الرسام الأمريكي جون سنجر سارجنت في عام 1881 في منزله وهو يرتدي معطفا أحمر، الأديب جوليان بارنز اهتم في رواياته الاخيرة بالكتابة عن الفنون وعن طريق الخلق والإبداع في حيّاة الرسام غوغان وحياة الموسيقي شوستاكوفتش.

يقول طلال عن الكتاب: "هذا كتاب يزعم غلافه أنه عن جراح فرنسي يدعى صامويل بوتزي، لكنه في حقيقة الأمر كتاب ساحر الأسلوب عن كل شيء وعن لا شيء، يترك فيه الكاتب والروائي بارنز لقلمه الحرية فيستطرد كيفما اتفق بلا موضوع محدد، وهو ناثر لا مثيل له، يحتفظ باهتمامك حتى وإن كنت لا تعرف عم يتحدث بالضبط".

يعود فيصل بالحديث من معطف بارنز الأحمر لمعطفه هو الأبيض، مؤكدًا أن مهمته - كطبيب ضمن الفرق الرابطة في الخطوط الأمامية لمواجهة كورونا - تعد أكثر تعقيدًا خاصة خلال محاولة طمأنة المصابين الخائفين، كما أنه شخصيًا عرضة للإصابة وهو ما حدث خلال الأسابيع الماضية عندما اكتشف أن أحد مرضاه، وبعدها أحد زملائه، أصيبوا بعدوى الفيروس.

فيصل يوضح أنه تم اتخاذ اجراءات مشددة فى كل مستشفيات ألمانيا كغلق العيادات الخارجية، واحتجاز الطارئة فحسب، ثم تفريغ أحد الأقسام بالكامل وتعقيمه تحسبا لتزايد عدد مرضى الكورونا المحتمل. إجراءات جعلت المرضى أكثر تخوفًا، لا سيما بعد تضييق وقت خروجهم من المستشفى، ثم منع الزيارات من ذويهم ومنع خروج المريض المحتجز في عطلة نهاية الأسبوع مثلما كان مسموحًا به سابقًا.

ويلفت فيصل إلى أنه يحاول بشكل عام التنبيه علي المرضى بالنصائح العامة ولا جديد فيها: النظافة الصحية وغسل اليدين لمنع انتشار الفيروس أو الإصابة به، متوقعا أن يقل عدد الإصابات إذا تم تضييق وقت انتشاره، خاصة أن الانتشار هو مشكلة المرض الرئيسية لا المرض في ذاته، بحسب الإحصائيات المعروفة عن "كوفيد 19" أنه بين كل ١٠٠ مصاب، ١٦ تقريبا يحتاجون لسرير في مستشفى، بنسبة وفاة ٣ في المائة.

مع زيادة انتشار المرض تصل لنقطة – كما حدث في إيطاليا – يصبح الاحتياج للأسرّة في المستشفيات أكبر من المتاح، هنا يبدأ تصاعد معدل الوفيات بشكل جنوني.

ويختتم فيصل حديثه لـ"الدستور" بعبارة من طاعون ألبير كامو، وهي تمثل أمنيته الآن: "أريد أن تنتهي الأزمة والوباء، ونستعيد توهّمنا بأننا - كبشر - نتصرف تصرف الأحرار".