رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الإرهاب 3.. فرج فودة يجيب: كيف نواجه مشكلة الإرهاب؟

فرج فودة
فرج فودة

هذا مربط الفرس، كما يقولون، سواء اتفقنا فى جزئية من جزئيات توصيف المشكلة، أو اختلفنا فى أخرى، ولعلى وإن بدا للجميع أن لى موقفا محددا من الإرهاب، وربما رآه البعض حقا، وربما رآه البعض الآخر تحاملا أو تجاوزا، مطالب بأن أرتفع فوق هوى النفس، وأن أقترح سبل الحل من منطلق الواجب الوطنى وليس من منطلق تصفية الحسابات، وبميزان العقل وليس الوجدان، ولعلها المرة الأولى التى أتجاوز فيها عن دروس التاريخ القريب أو البعيد، رغم أنها شديدة الوضوح، ولا لشىء إلا لأن ضمير الحرية يأباها كل الإباء، وواقع العصر فى تقديرى قد تخطاها إلى غير رجعة، فالتاريخ يحدثنا -مهما تشدق غيرنا بالعكس- بأن مسلسل الإرهاب قد انفجر، وتلاشى، واندثر، حين تمت مواجهته بنفس أسلوبه، أى بالإرهاب، وأنا هنا لا أتحدث عن عقيدة بل أتحدث عن حقيقة، ولا أدعو للتمثل بل أدعو للنسيان والتجاوز، فمسلسل الإرهاب الفج، المتتابع، الصاعد إلى أعلى الذرى فى نهاية الأربعينات بمقتل النقراشى نفسه، قد انتهى فجأة باغتيال حسن البنا نفسه، وبالرد عليه بنفس الأسلوب، اغتيالا باغتيال، ورأسا برأس، وعدا محاولة محدودة وفاشلة لاغتيال حامد جودة، انتهى كل شىء وهدأت الأحوال، وتوقف تماما مسلسل الاغتيال، وبعد أن كان لا يمر شهر إلا وجلجلت أصوات الرصاص، وقد توقف الإرهاب خمس سنوات، ووعى عبدالناصر أنه يجب الرد رأسا برؤوس، عنفا بعنف أشد لا يبقى ولا يذر، وكانت النتيجة عشر سنوات هادئة، ومن غرائب القدر أن إبراهيم عبدالهادى وجمال عبدالناصر، قد ماتا على فراشيهما آمنين، بينما اغتالت الرصاصات من أخرج الإخوان من السجون، وعدل الدستور بجعل "مبادئ" الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع، وتركهم يصدرون الصحف والمجلات، وأقصد به السادات.
مرة أخرى لا أسرد لكى أستنتج، ولا أضع السم فى ثنايا السطور، ولا أستعدى السلطة عليهم، فكل ذلك فى اعتقادى ليس واردا، وليس مطلوبا أو مقبولا، فقد علمنا التاريخ بجانب ما سبق، أن الاستبداد مثل "الإسبراى"، تطلقه فى اتجاه فينتشر فى كل اتجاه، وربما أسعدك أن يتوجه إلى عدوك، لكنه سوف يصل إليك فى النهاية، وقد تأمن له فترة، لكن ذلك لن يستمر إلا إلى حين، يخرج لك بعده، أصلب عودا، وأعز نشيدا، وأكثر وجودا، وأعنف تهديدا، وسوف يضاف إلى رصيده تعاطف البسطاء وسوف تدرك بعد سنوات أنك حرثت البحر، وبنيت قصورا فى الرمال، وحاربت طواحين الهواء. وإذا كنا لا نريد أن ندفن رؤوسنا فى الرمال، وأحسب أن أوضاع الحاضر لا تسمح بذلك الترف، فإن علينا أن نواجه حقيقة قاسية، لأن إدراك المشكلة هو سبيل الحل، علينا أن نعترف بأن قضية الإرهاب أضلاعها ثلاثة، أولها الإرهاب نفسه، وثانيها سلطة الدولة وهيبتها، وثالثها موقف الشعب واقتناعه أمام الصراع الذى يدور بين الطرفين أو الضلعين الأولين، أى بين الإرهاب والسلطة، والحقيقة التى نود أن نؤكدها أن الضلع الثالث هو الفيصل، وهو العنصر الأساسى فى حسم الصراع، إن غاب غامت الرؤية، وإن انتصر لأحد الفريقين نصره بلا جدال، وحسم الأمر لصالحه دون شك، ولعلى أذكر كيف تحمس الشعب كله لصالح السلطة فى مواجهة الإخوان المسلمين، بل كيف كان يجتمع حول أجهزة التليفزيون، لكى يسمع اعترافات المتهمين ولم يكن يتبادر إلى أى ذهن قادر من الشك فى أنهم قد عذبوا للحصول على الاعتراف، وكان بعضهم يبدو وكأنه مخدر أو كأنه جهاز تسجيل تم ضبطه، بل وربما التسجيل عليه، ولم تثر رؤوسهم الحليقة تعاطفا، ولم تثر قسوة المذيع حمدى قنديل فى حوارهم وهم فى هذا الموقف أى رد فعل إيجابى لصالحهم، وكان إذا همس الواحد منا بأنهم قد عذبوا يأتيه الرد السريع من الجميع، بما معناه أنهم يستحقون، وأنهم لو تركوا للشعب لمزقهم شر ممزق، وعدا أسر الإخوان المسلمين أنفسهم لا أعتقد أن الصورة كانت مختلفة عن ذلك، ولا أعتقد أن أحدا يمكن أن يزايد بالقول بأن الشعب وقتها قد تعاطف معهم أو أيدهم، أو أنه لم يكن مستعدا لقبول أى شىء يقال عنهم، حتى ولو كذبا أو مبالغة، وليقارن القارئ بين ذلك الموقف وبين الموقف الآن، حتى يكتشف الفرق بين استعداد الشعب لقبول ما تنقله السلطة إليه حتى ولو كان كاذبا، وبين تردد الشعب اليوم فى قبول ما تنقله السلطة إليه حتى ولو كان صادقا.. تلك نقطة بدء يجب أن نعترف بها، وبدون هذا الاعتراف لن نواجه شيئا ولن نحل شيئا، ولست أميل إلى القول بأن الشعب بعيد عن السلطة أو رافض لها، فذلك فى تقديرى غير صحيح، والصحيح أن نقول إن الدولة من خلال الوسائل المتاحة لها، نتيجة لسوء استخدامها أو إهمال استخدامها نجحت ليس فى تجنيد الشعب لمواجهة الإرهاب، بل فى تجميده، وتحييده، وعزله، ووضعه فى موقف المتفرج، وهو أخطر وأسوأ إنجاز يمكن أن يتحقق، وهو أيضًا مدخلنا فى اقتراح سبل الحل لظاهرة الإرهاب والتى نوجزها فى وسائل ثلاث على المدى القصير ووسائل ثلاث على المدى الطويل.
 
سبل الحل فى المدى القصير
يمكن إيجاز هذه السبل فى ثلاثة:
- الديمقراطية
- سيادة القانون
- الإعلام.

سبل الحل على المدى الطويل:
التعليم والمشكلة الاقتصادية والوحدة الوطنية
هذه ثلاث سبل، هى الأخرى، من الواجب أن يبدأ السعى فيها من الآن، وأن تتوازى مع حلول المدى القصير، غير أن هذه السبل تتطلب فترة زمنية طويلة حتى تؤتى ثمارها، وهى تنحصر فى تقديرى فى ثلاثة مجالات، هى: التعليم والمشكلة الاقتصادية، والوحدة الوطنية، وفى إيجاز شديد، لأن كلا منها يحتاج إلى مبحث مستقل، فإنه لا بد من مراجعة برامج التعليم الحالية، لأنها أحد أسباب ظهور جيل يستنكف استعمال العقل ويحجم عن إعماله، ويستهين بالحضارة الإنسانية ويحمل لها خالص الاحتقار، ويجهل تواصل تاريخه وتنوعه وتعدد انتماءاته ولا يرى منه إلا جانبا واحدا، وحتى هذا الجانب، لا يرى منه إلا وجها واحدا هو الوجه المضىء، بينما جوانبه الأخرى شتى، شأنها شأن أى تاريخ، وهذه الظواهر كلها تعكس جناية أسلوب التعليم الحالى على أبنائنا ولو نجحنا فى المدى الطويل فى خلق أجيال تتجنب هذه الأخطاء، بل على الأقل تتجنب الخطأ الأول، حيث يكون الهدف الأول للتعليم هو إعمال العقل واستخدام المنطق والأسلوب العلمى والمنطقى فى التفكير، لقضينا على جانب كبير من جوانب مشكلة الإرهاب التى نواجهها الآن، أما بالنسبة للمشكلة الاقتصادية فلست أعتقد أن أحدا يختلف على أنها من الأسباب الرئيسية لظاهرة الإرهاب، ذلك الذى لا نجد له مكانا فى نادى الجزيرة أو نادى هليوبوليس مثلا، وإنما نجد له جذورا فى المطرية وعزبة النخل وكرداسة والمنصورية وغيرها وفى أعماق الريف المصرى المطحون بالمشاكل وتدنى مستوى الخدمات، وأظن أيضًا أنه لا خلاف على أن حل هذه المشكلة لن يكون سريعا، وأنه سوف يستغرق وقتا طويلا، ولا بد أن نصل إلى صيغة يتحقق من خلالها هدفان فى المدى الطويل، أولهما أن تصبح مسئولية حل هذه المشكلة واجبا للجميع، وأن يدرك كل مواطن أبعادها ودوره فى التصدى لها بالحل، وأن يتخلى عن سلبية عدم الإحساس بها أو النظر لها من الخارج وكأنها مشكلة خارجية، وثانيهما أنه إذا كان صعبا فى المدى القصير أن نشترك فى الحل لصعوبته أو لطول الفترة الزمنية اللازمة له، فلا أقل من أن تشترك فى الهم، فيصبح سداد قسط القرض هما للجميع، ومثار حوار وترقب، ومحل انتظار وتعاطف، وبمعنى أكثر بساطة، فإن على الدولة أن تدرك أنه كلما زادت الأزمة الاقتصادية أضيف إلى حساب الإرهاب رصيد جديد، وأنها بقدر ما تدفع المواطنين إلى المشاركة فى الحل أو على الأقل المشاركة فى الهم، بقدر ما تسحب من هذا الرصيد ما يكفل الأمان، ويقلل من احتمالات التوتر والخطر، أما ثالث سبل الحل فى المدى الطويل، فهو ما يتعلق بالوحدة الوطنية، تلك التى يرى الإرهاب فى تهديدها سبيلا من سبله، ومدخلا إلى استثارة العواطف الديماجوجية بحيث تعمل فى صالحه، وفى تقديرى أنه لا يكفى فى هذا الأمر أن نتبادل العناق والقبلات، وأن نشترك فى الندوات، وإنما يجب أن نتدارس هذه الظاهرة فى هدوء وعمق، وأن نضع لها الحلول، وقبل ذلك أن نعترف بأنها تعكس خللاً جوهريًا فى سلوكنا الاجتماعى ونظرتنا إلى حرية العقائد، وربما كان التشريع إحدى سبل مواجهة التعصب الذى يؤدى إلى هذه الظاهرة، والذى قد يؤدى بتاريخ طويل نبيل من الوحدة والتوحد.