رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الإرهاب 1.. فرج فودة يكتب: كيف يستغل الإرهابيون سلاح الشائعات

فرج فودة
فرج فودة

للإرهاب أنياب ومخالب، تتمثل فى إطلاق الشائعات الكاذبة المدروسة، والتى تمثل -إذا استعرنا أسلوب حرب العصابات- ستار الدخان الذى يحمى الإرهابيين، سواء فى إقدامهم على الفعل، أو فى هروبهم بعده، بأقل قدر من الخسائر، وبأكبر قدر من تجميد وتحييد الاستنكار الشعبى، ولست أدرى تحت أى مبرر دينى تبرر الجماعات الإسلامية هذا الأسلوب، ولست أدرى أيضًا كيف لم يتنبه أحد إلى أنها أصبحت سمة أساسية للعمليات الإرهابية فى السنوات الأخيرة، وكيف لم تصل درجة التنبيه إلى دراسة كيفية مواجهة هذه الشائعات، إعلاميًا وسياسيًا وأمنيًا، لأنها فى النهاية لا تقل خطرًا عن البندقية فى كل الأحيان، وترتبط بها ارتباطًا وثيقًا فى أغلب الأحيان، ولعل أوضح مثال على ذلك، ما أشيع عقب محاولة اغتيال أبوباشا، من أنه رمى بالمصحف على الأرض، ثم داسه بالأقدام، والغريب أن هذه الشائعات قد لاقت صدى واستجابة ليس فقط بين البسطاء بل أيضًا بين كثير من أصحاب المستوى التعليمى المرتفع، حيث استمعوا إليها دون أى استعداد للمناقشة وربطوا بينها وبين الحادث، فأراحوا أنفسهم من عناء التفسير والتبرير، وأعادوا ترديدها هم أنفسهم دون تفكير، وكانت النتيجة أن رد الفعل الشعبى فى استنكار إرهاب الحادث كان أقل مما هو متوقع بكثير.. ولعلنا نتذكر شائعة مماثلة، وقت أن تحركت الجماعات الإسلامية ضد عميد طب القاهرة، وأشاعوا أنه نزع النقاب بيده من على وجه الطالبة، وهو ما نفته الطالبة نفسها، لكن ذلك لم يمنع الهياج والتهييج، والمظاهرات والاحتجاجات، وشغل الرأى العام شهورًا، وقريب منه ما حدث فى نفس الكلية، فى سنة سابقة، حيث أقيمت حفلة دعيت إليها «فرقة المصريين» بقيادة هانى شنودة، وأشاعت الجماعات أن هذه الفرقة متخصصة فى تمزيق المصاحف إلى صفحات متناثرة، ينثرونها على أرض المسرح، بينما يرقصون "ويدبدبون" بأرجلهم فوقها خلال الغناء، يقودهم فى ذلك رئيس الفرقة هانى "شنودة"، ووقتها اضطرت إدارة الكلية إلى إقامة الحفل تحت حراسة الأمن المركزى..
وإذا كان الشىء بالشىء يذكر، فلا بأس أن أسرد على القراء تجربة شخصية لى خلال الانتخابات الأخيرة، حيث رشحت نفسى فى إحدى دوائر القاهرة، وفوجئت بمنشور يوزع منه عشرات الآلاف عقب صلاة الجمعة، ولا يحمل توقيعًا يشير إلى الجهة التى أصدرته، ويتصدره اسمى بصفتى مرشحًا عن الشيوعية "الملحدة"، والعلمانية "الكافرة"، والإمبريالية "العالمية"، وربيبتها الصهيونية "النجسة"، وللقارئ أن يتعجب من تجمع هذه المتناقضات فى شخصى المتواضع، لكن الأعجب هو ما تضمنه المنشور من عبارات نسبت إلى من نوع "سيدنا الحسين عديم الإحساس -الإسلام دين رجعى-أستاذى ماركس الشيوعى الملحد وداروين اليهودى المتعصب وفرويد اليهودى الكافر"، وحتى يوحى من كتبوا المنشور بأن ما كتبوه صحيح، ذكروا أمام كل عبارة رقم الصفحة ورقم السطر، مع الإشارة إلى اسم الكتاب بعبارة الكتاب الأول أو الكتاب الثانى.. إلخ، دون ذكر اسم الكتاب، والفكرة أو الإشاعة، ذكية ومحسوبة، ففى مواجهة مائة منشور، لن يوجد أكثر من مائة كتاب لدى سكان الدائرة، وحتى من يملك الكتاب يمكن أن يتصور أن عبارات المنشور قد وردت فى كتاب آخر، وللوهلة الأولى لم أعر هذه المنشورات انتباهًا، وكان تعليقى أنه ما دام لم يوقع عليها أحد، فإن أحدًا لن يصدقها، كما أن العبارات الواردة فيها شديدة البلاهة، بما يتجاوز بكثير إمكانية أن يصدقها أحد، وللأسف الشديد فإن تقديرى كان مخطئًا، وللأسف أيضًا فوجئت فى مساء نفس اليوم الذى وزع فيه أول منشور، بعودة المكلفين بتوزيع منشورات دعايتى الانتخابية، طالبين إعفاءهم من هذه المهمة بسبب ما يواجهونه من هجوم من أبناء الدائرة بسبب المنشور المعادى، واضطررت إلى طبع منشورين للرد والتفنيد، ثم إلى طبع منشور ثالث أعلنت فيه عن جائزة قدرها خمسمائة جنيه لمن يجد حرفًا مما نشر فى المنشور فى أى كتاب لى، واضطررت إلى بيع الكتب بنصف الثمن، دون أن أنجح فى استئصال تأثير الشائعة، ولست فى حاجة إلى توضيح الصلة بين حرب الشائعات والإرهاب، فهى صلة واضحة ووثيقة، فالشائعات هى المدخل الآمن لتنفيذ العملية الإرهابية، ولو قدر للمتطرفين أن ينشئوا مدرسة للإرهاب، لكان الدرس الأول فيها: لا تتسرع بإطلاق الرصاص، وأبدأ أولاً بإطلاق شائعة، وتعمد أن تكون فجة ومثيرة، وأساس الشائعات أن تتهم الضحية بتمزيق المصحف أو بدهسه بالأقدام، أو بأنه شتم سيدنا الحسين، أو بأنه يتباهى بالكفر والإلحاد، أو بأنه شتم الدين الإسلامى، وسوف تنتشر الشائعة كالنار فى الهشيم، وبعدها لك أن تقدم آمنًا مطمئنًا على إطلاق النار، وسوف تجد طريقك ممهدًا، وإرهابك مؤيدًا، فأنت أمام الرأى العام، مدافع عن الإسلام، ومنتقم ممن داس المصحف بالأقدام، وشتم سيدنا الحسين، ولعل القارئ مندهش معى من قابلية الجمهور لتصديق هذه النوعية من الشائعات الفجة، ولعله يتساءل كما أتساءل عن السبب، وهل هو انتشار أمية القراءة الكتابة، أم انتشار الأمية الثقافية، أم التدريب الطويل للرأى العام على أسلوب التفكير أحادى الاتجاه، الذى يقبل ما يلقى إليه بالتصديق ويرفض أن يمحص ما يعرض عليه، أو يخضعه للمنطق والتحليل، أم أنه تقصير أجهزة الإعلام فى التصدى للشائعات بالتنفيذ، وأنا أقصد هنا الشائعات ذات التأثير العام، ومن أمثلتها حملة الشائعات التى سبقت جميع حوادث الفتنة الطائفية فى مصر، مثل شائعة الدعوة لإنشاء دولية قبطية وقيام الأطباء الأقباط بتعقيم النساء المسلمات قبل حوادث الزاوية الحمراء، وشائعة الصلبان على ملابس المحجبات قبل حوادث الصعيد وكفر الشيخ الأخيرة، وليس للقارئ أن يتصور أن جميع الشائعات الممهدة للإرهاب من نوع شتم الإسلام أو شهدت نموذجًا جديدًا للشائعات، يتمثل فى الشائعات المدروسة، التى تستهدف نتائج محددة، وتستند إلى دراسة نفسية لاتجاهات الرأى العام، وما يمكن أن يؤثر فيه، وتخلق الإطار النفسى الملائم لقبول عمليات إرهابية فى مرحلة لاحقة، ومثل هذه الشائعات يصعب على أن أتصور أنها من صنع خيال أفراد، والأقرب والأدق أن تكون من صنع أجهزة متمرسة، تضع الشائعة المركبة فى عدد محدود من السطور، وتتركها لكى تختمر بعد شهور، ثم يحدث المحظور، ولولا ضيق المجال لأثبت أن كل حادث إرهابى وقع فى مصر، سبقته حملة الشائعات، وأن حوادث الإرهاب الموجهة ضد الأمن القومى المصرى، قد تم التمهيد لها بهذا النوع من الشائعات المدروسة، وسوف أختار حادثتين من هذا النوع، وأضع فى مواجهتهما هذا النوع من الشائعات، وليس مصادفة أن يكون مصدر هذه الشائعات واحدًا، وهو باب أسبوعى فى إحدى صحف المعارضة، ولنأخذ أولاً حادث إطلاق النار على بعض موظفى السفارة الأمريكية، والمعروف باسم حادث سيارة المعادى، ولنقرأ معًا الشائعة التى مهدت له، وسوف يكتشف القارئ أنها شائعة مصاغة بحنكة لا يتمتع بها الهواة، ولنقرأ معًا ما نشر فى جريدة الشعب، فى باب "أخبار ممنوعة" بتاريخ 1 مارس 1987 تحت عنوان: "وفراخ سامة؟"، ونصه: تقول مجلة النيوزويك إن مصر ظلت لسنوات تأكل فراخًا لحمها ممتلئ بمادة سامة تعرف باسم بى سى بى لا يظهر أثرها إلا بعد عشر سنوات ولا تستطيع المعامل المصرية أن تكشفها، أحرقوا بعضها فى أمريكا وصدروا الباقى إلى الدول النامية ومنها مصر؟"، وحتى أريح القارئ من سوء الظن، أؤكد له فى البداية أننى لا أدافع عن الولايات المتحدة، ولا يرد ذلك فى خاطرى أبدًا، وقصارى ما أفعله أن أناقش خبرًا قرأته مثل غيرى بعينى، وحللته بعقلى، وناقشت مفرداته من خلال دراستى العلمية الطويلة، وسألت فيه بعض ذوى الشأن والعلم، فلم أجد أحدًا يقبل أو يصدق أن هناك مادة سامة لا يظهر تأثيرها إلا بعد عشر سنوات، وقد ذكر لى الخبراء المتخصصون أن مثل هذه المادة مستحيلة، مثل الغول والعنقاء والخل الوفى، وأنهم جميعا سمعوا عن الـ"بى.بى.سى" وهى الإذاعة البريطانية، لكن أحدا منهم لم يسمع فى حياته عن الـ"بى.سى.بى"، ولأن الحقائق العلمية هى الفيصل فى القبول أو الرفض، فالخبر غير صحيح، وبمعنى آخر فإنه إشاعة وليس خبرًا، وهنا ننتقل إلى مستوى آخر فى المناقشة وهو مستوى التأمل فى محتوى الإشاعة وسوف نكتشف أنها إشاعة مركبة، وأن عناصرها مدروسة بذكاء شديد، فالمصدر مجلة لم يحدد تاريخ النشر فيها، وحتى يستحيل الاستدلال على مصدر الخبر، والصياغة تحتوى على اسم علمى لمادة لا وجود لها، وذكر الاسم يوهم القارئ بعلمية وموضوعية الخبر، وحروف الاسم تشتمل على حرفى "بى" حتى يحتار القارئ فى أحدهما أو فيهما معا، وهل هو أو هما بى خفيفة، أم بى ثقيلة، ويتوه ذهنه أمام أربعة عشر احتمالا وليس احتمالا واحدا من حيث ترتيب الحروف، عدا مئات الاحتمالات حول تركيب الكلمات، والفترة الزمنية مقصودة لأن القارئ قد يتذكر ما تناوله من طعام خلال أسبوع، وربما خلال شهر، أما أن يتذكر ما أكله منذ سنة، فأمر عسير أو مستحيل، وتصبح الاستحالة مطلقة بالنسبة لتذكر ما تناوله من طعام منذ عشر سنوات بالتمام والكمال، وهنا يصبح احتمال إصابته هو أو أحد أفراد أسرته بالمادة السامة وارادًا بل ربما مؤكدًا، ويصبح منطقيا أن يعزو حالات المرض أو الوفاة فى الأسرة منذ عشرة أعوام، وهو الـ"بى.سى.بى"، وإذا كان خيال القارئ خصبًا، أو روحه متشائمة، فسوف يضع يده على بطنه، وسوف يدور حول نفسه، خوفا من الـ"بى.سى.بى"، ولن ينجيه من الشك إلا أن يلجأ إلى معامل التحليل للتيقن، بيد أن الشائعة لم تترك مجالاً لهذا الاحتمال، وسارعت بسد باب النجاة حين ذكرت فى الفقرة الأخيرة، أن معامل التحليل المصرية لا تكتشفها. خطة للقتل إذن، وهو قتل لا يحدث نتيجة للخطأ بل يحدث مع سبق الإصرار والترصد، حيث تذكر الشائعة أن الأمريكان أحرقوا الموجود من الدجاج فى أمريكا، وصدروا الباقى إلى مصر، أى أنهم يعلمون، ويرسلون، ويقصرون حمايتهم على مواطنيهم، بينما يوزعون الموت على الآخرين، ومنهم أو على رأسهم المصريون. سوف يستقر ذلك كله فى وجدان القارئ وسوف يشكل مبررًا مسموحًا به لحادثة إرهاب سوف تحدث بعد ذلك بثلاثة شهور، حين يطلق الرصاص مصوبا إلى سيارة تحمل بعض الدبلوماسيين الأمريكان، وسوف يقرأ من صدقوا الخبر عن هذا الحادث، فيشعرون بالارتياح ويسعدون للانتقام، ويبتهجون لأن الله قد سلط أبدانا على أبدان، وانتقم لهم من الأمريكان، وقتلا بقتل، والبادئ هو المدان، وليس شرطا أن تكون هناك علاقة بين من صاغوا الشائعة وأطلقوها، وبين من قاموا بتنفيذ العملية، لأن دور المجموعة الأولى هو تهيئة المناخ وإعداد المسرح وتحفيز من كانت لديهم الرغبة أو توافرت لديهم النوايا، وربما انزعج القارئ إذا ذكرنا له، أن نفس الباب، كان مسئولا عن شائعة الصلبان، حيث ورد فيه لأول مرة خبر الإسبراى الذى يرشه بعض الأقباط، على ملابس الفتيات، فيترك أثرا لا يظهر إلا بعد الغسيل، مكونا صليبا أو صلبانا، ولكى يبدو صاحب الإشاعة محايدا، وعمليا ودقيقا، فإنه ينهى إشاعته بمطالبة السلطات المسئولة بالتحقيق، فى الخبر السابق، أو الإشاعة السابقة، فالمستهدف هو المحجبات، أى الجنس الناعم اللطيف، وهو أمر مفزع للرجال، يستثير نخوتهم، وشهامتهم ورغبتهم فى الانتقام، وفرصة التحقق من الأمر منعدمة، لأن الصلبان لا تظهر بعد الرش، ولا تكتشف فى الطريق، وإنما تكتشف بعد الغسيل، أى فى المنازل، والتمحيص العلمى يرفض أيضًا تلك المعلومة المستحيلة، التى تتحدث عن إسبراى من خصائصه الانتشار فى مساحة واسعة، والاندثار إلا من مساحة محدودة ليست دائرة مثلا أو مربعا أو هلالا، بل هى صليب، وليلاحظ معى القارئ نفس التركيب والترتيب، معلومة غير صحيحة، وإمكانية تيقن مستحيلة، واستفزاز للمشاعر مؤكد، ونتيجة درامية تدفع إلى الغضب، وتدعو للانتقام، ومقدمة لمجموعة من حوادث الفتنة الطائفية حدثت بعدها أيضًا بثلاثة شهور، فى مناطق متعددة، وربما استند الجناة فيها إلى منطق الثأر، ولعلهم توقعوا أن تتداخل مشاعر الغضب لدى المصريين مع مشاعر الانتقام، وأن يرسخ فى أذهان الجماهير أن البادئ أظلم، فيرتعش إصبع الاتهام..
لقد قصدت فيما سبق أن أوضح جانبا من جوانب الإرهاب قد يخفى على البعض وهو التمهيد النفسى له وتخير الرأى العام الجماعى حتى لا يستنكر، بل تطويعه -إن أمكن- للقبول والتبرير، وأن جهاز الإرهاب لا يقتصر فقط على حملة السلاح، ومصوبى الطلقات، بل يشمل، فيما يشمل، بعض الخبراء فى إعداد الشائعات، شأنها شأن كثير من السلع الاستهلاكية، بعضها صناعة محلية، حين يتعلق الأمر بتصفية حسابات فردية، وبعضها مستورد، تصنعه أجهزة متخصصة، حين يتعلق الأمر بتهديد الأمن الداخلى والخارجى لمصر "1"، وأن إهمال هذا الجانب يفقد تحليلنا لظاهرة الإرهاب جانبا من جوانبها الأساسية، ولعلى لا أخفى على القارئ أننى فى محاولة لمداعبته كسرا لرتابة السرد وملل التحليل، وهى عادة درجت عليها، حاولت جاهدا أن أخترع شائعات على نفس نمط الشائعتين السابقتين، وكان نصيبى الفشل الذريع، ربما عن عجز، وربما لأن ما يصنعه جهاز متخصص، يعجز عنه قلم فرد، وأيا كان رأى القارئ فى عرضى لهذه الظاهرة، ومهما اختلف رأيه عن رأيى، واختلاف الرأى وارد، فإن هناك حقيقة تعلو جزئيا على الخلاف، وهى أن الشائعات المدروسة قد أصبحت جزءا لا يتجزأ من عملية الإرهاب المتكاملة، وأن مواجهة هذه الشائعات يحب أن تتوازى مع واجهة الطلقات.