رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد الباز يكتب: كيف انتصر رجال البرث؟

محمد الباز
محمد الباز

لن أحدثكم عن المعركة التى جلس الجميع فى انتظار تفاصيلها بالحلقة الثامنة والعشرين من مسلسل الاختيار.
لن أتتبع دموعكم وأنتم تودعون كل شهيد يرتقى برصاص الخونة، الذين باعوا دينهم ووطنهم وتنازلوا طواعية عن إنسانيتهم.
لن أصف لكم صرخات الشفقة التى بدت منكم وأنتم تحاولون بها حجب الموت عن الشهداء الذين تعرفون جيدًا أنهم ماتوا.. وأن كل ما نراه تسجيلًا لما جرى.
تشغلنى أكثر المعركة الحقيقية، التى دارت على الأرض فجر اليوم السابع من الشهر السابع من العام ٢٠١٧.
أنا وأنت فى الغالب شاهدنا المعركة الدرامية ونحن نجلس فى غرف مكيفة.
انفعلنا.. بكينا.. قذفنا التكفيريين بكل ما فى قاموسنا من شتائم، سجل كل منا موقفه على صفحته الخاصة بـفيسبوك، رفعنا صورًا مختلفة لمنسى ورجاله، ترحمنا عليهم، سألنا عن أحوال أمهات الشهداء وأسرهم، كيف مرت عليهم الدقائق التى شاهدوا فيها أولادهم فى أرض المعركة من جديد؟
وبعد ذلك كله.. رحنا نبحث عن مسلسلات أخرى وحكايات أخرى.
نجحت الشركة المتحدة نجاحًا باهرًا فى إنتاجها لمسلسل «الاختيار»، قدمت للشهداء بعضًا من حقهم علينا، حفظت للوطن جزءًا من ذاكرته، التى يجب ألا تتبدد أبدًا، يراهن أعداؤنا على أن تتلاشى هذه الذاكرة، حتى يخترقونا فى الوقت الذى يريدونه وبالطريقة التى يحددونها.
بقى أن ننجح نحن، أن نتعلم، أن نعرف لماذا خاض أبطال البرث معركتهم بكل هذه البسالة؟
لماذا ظلوا على ثباتهم حتى آخر رصاصة وآخر نقطة دم وآخر آهة من القلوب وآخر صرخة من الحناجر؟
فعل الأبطال ذلك لأنهم قرروا أن ينتصروا؟
وقد تسألنى: كيف انتصر رجال البرث وقد ماتوا جميعًا.. لم يبق منهم إلا شاهد واحد ربما ادخره الله لنا ليروى عن بطولات كنا اعتقدنا أنها انتهت من على وجه الأرض، فإذا بها حاضرة ومتجددة ودائمة فى صفوف الجيش المصرى؟
لسنوات طويلة يتعمد الجيش المصرى، رغم ما بذله من جهود خارقة ليحفظ لهذا البلد أمنه واستقراره، ألا يتحدث عما فعله.
يصر على عدم الإشارة لأبنائه الأبطال.
يطوى أحزانه على رجاله ويكمل طريقه، دون أن ينتظر من أحد كلمة شكر ولا حتى تحية.
يفعل الجيش المصرى ذلك.. لأنه يعرف أن هذا دوره.. وهذه رسالته.
ولو فتح الجيش سجلاته كلها لوجدنا أنفسنا أمام عالم من البطولات الأسطورية.
لقد أحدثت فينا معركة البرث كل هذا التأثير، فما بالكم ببقية المعارك؟
لم أفلت خيط حديثى معكم.. ذاك الخيط الذى يقودنا إلى إجابة عن السؤال: ماذا يعنى الانتصار فى معركة البرث بالنسبة لنا؟
كان طبيعيًا أن يستهدف كلاب أنصار بيت المقدس كمين البرث، وكان لديهم بدل السبب ثلاثة أسباب.
السبب الأول أن أحمد منسى ورجاله كانوا يستقرون فيه، وهم يريدون رقبة منسى بسبب ما فعله بهم خلال شهور طويلة، عندما عاد إلى سيناء ليتولى قيادة الكتيبة ١٠٣ صاعقة، لقد رأى التنظيم التكفيرى أن منسى تحول فى سيناء إلى أيقونة، تحول إلى ملهم، بدأ يظهر فى كل مكان وأى مكان.. نزع من أهالى سيناء الخوف من الإرهابيين، ومنح الأطفال ما يريح قلوبهم ويغير نظرتهم إلى الجيش.
لم يكن أحمد منسى خطرًا على التكفيريين فى سيناء لأنه يواجههم بسلاحه، قدروا هم خطره بأنه يكسر صورتهم، يحطم كل الأفكار التى يخدعون الناس بها.. خافوا من منسى لأنه هزمهم معنويًا قبل أن يحولهم إلى جثث بلا قيمة.
السبب الثانى هو أن كمين البرث كان محطة ينطلق منها رجال منسى لتنفيذ عملياتهم ضد الجماعات التكفيرية، فكان لا بد من التخلص منه وتحويله إلى حطام.
كان بالنسبة لهم مصدرًا ليس للإزعاج فقط، ولكن للموت أيضًا.
السبب الثالث كان الأهم والأخطر.
لسنوات فشل تنظيم أنصار بيت المقدس فى السيطرة على الأرض فى سيناء، كل ما كان يفعله عمليات سريعة يهرب بعد تنفيذها ويختبئ أعضاؤه، ينصبون كمينًا ويقومون بتفتيش بعض السيارات أو قتل بعض المواطنين، ويصورون فيديو بذلك، ليخدعوا الناس بأنهم يسيطرون على الأرض، رغم أن سيطرتهم لا تستمر لأكثر من الدقائق التى تم فيها التقاط الفيديو الخادع.
بعد أن بايع كلاب أنصار بيت المقدس كلاب داعش، وأطلقوا على سيناء اسم «إمارة سيناء» كان الأمر بالنسبة لهم نظريًا بحتًا، فسيناء بالفعل تحت سيطرة وإدارة الدولة المصرية، ولا يمكنهم أن يزعموا أن سيناء أصبحت إمارة دون أن تكون لديهم منطقة يحكمونها، أو علم يرفعونه على أى مبنى فيها.
حاول التكفيريون أن يفعلوا ذلك فى المعركة الكبرى، التى دارت فى أول يوليو ٢٠١٥، عندما هاجموا جميع الكمائن فى شمال سيناء فى وقت واحد، ومهدت المنصات الإعلامية القطرية والتركية لسقوط سيناء فى يد التنظيم الإرهابى، كانوا ينتظرون الفيديوهات والصور التى تسجل هذه اللحظة، لكنهم عادوا خائبين، فلم يستطع كلاب التنظيم التكفيرى أن ينتصروا على رجال الجيش المصرى، الذين صمدوا فى أماكنهم حتى لا يقترب أحد من التكفيريين منهم أو من الأرض التى يقفون عليها.
بعد عامين، وفى ٧ يوليو ٢٠١٧ خطط التنظيم الإرهابى مرة أخرى لإعلان الإمارة ورفع العلم على أرض كمين البرث، كان يشغله مصير منسى، قرر أن يقتله بأى ثمن، كان رجال منسى الأبطال يشغلونه، قرر أن يُمثل بجثثهم عندما يفوز بهم.
لكن، ولأن الأبطال هم الذين يقررون مصيرهم، فقد أعلنوا أنهم لن يستسلموا ولن يتركوا شهيدًا أو جريحًا لكلاب أنصار بيت المقدس، وهو ما جرى بالضبط.. تخيلوا أن الذين ماتوا هم الذين رسموا سير المعركة حتى لحظتها الأخيرة.
النصر فى المعارك يتحدد بتحقيق أهدافها.
فى معركة البرث حقق منسى ورجاله أهدافهم، وفشل كلاب بيت المقدس فى تحقيق أى هدف كانوا يخططون له أو يحلمون به.
ولو قلت لى لقد نجحوا فى قتل أحمد منسى ورجاله.. أليس هذا نجاحًا كافيًا لهم؟
سأقول لك: هذه نظرة خاطئة وضيقة تمامًا، صحيح أنهم قتلوا أحمد منسى ورجاله، لكن منسى أصبح أطول عمرًا من قاتليه، وهذه هى القيمة الحقيقية لمعنى الشهادة.
كثيرون يموتون، يختفون تمامًا، يتلاشون، لا يبقى منهم أى أثر، وكأنهم لم يكونوا بيننا هنا فى أى يوم من الأيام، لكن الشهداء وحدهم هم الذين يبدأون حياتهم بعد أن يموتوا.
فى لحظة واحدة، وحّد أحمد منسى المصريين جميعًا، إلا من ضل منهم واختار طريقًا آخر غير طريق الوطن.
فى لحظة واحدة أدرك المصريون حقيقة ما يحدث على أرض سيناء.
كانوا يشكون به ويشككون فيه.
بل إنهم سخروا من الأغنيات التى تشير إلى بطولاتهم، تخيلوا أنه من نسج الخيال.
رأيت من كتب أنه لم يكن يفهم أغنية «قالوا إيه علينا دولا وقالوا إيه»، التى تسجل بطولات منسى ورجاله.
لم يكن يتخيل أن الأسماء التى تتردد موجودة، أو أنهم فعلوا ما يستحقون تخليدهم من أجله.. لم يكن يلتفت إليها، وجد نفسه مشدودًا إليها بعد أن رأى بعينيه من يجسدون نهايات الأبطال.. لحظاتهم الأخيرة، أعاد الاستماع مرة أخرى إلى الأغنية وهو يضع أمام عينيه الذين أدوا أدوار الأبطال مرة، وصور الأبطال أنفسهم مرة أخرى.
أعرف أن كثيرين ممن عرفوا الآن بعضًا مما جرى فى سيناء يعيشون حالة من الشحن النفسى هائلة، يريدون أن يمزقوا كل من يعمل ضد هذا البلد، يضعون الإخوان فى خانة الخونة، وكل من يساندهم من خانة من يعين الخونة على خياناتهم.
أعرف أنهم وفى لحظة محددة قرروا أن يكونوا جنودًا لحماية هذا الوطن.
فالذين ماتوا أمامهم لا يحبون وطنهم أكثر منهم، فلا أقل من أن يتمنوا أن يكونوا مثلهم أو فى مكانهم.
أعرف أن الأطفال الذين تابعوا مشاهد منسى ورجاله الأخيرة يحلمون الآن باليوم الذى يدخلون فيه إلى الجيش، يتحولون إلى أبطال، لو سألت أى طفل الآن: عايز تطلع إيه لما تكبر؟ مؤكد أنه سيقول لك: عايز أبقى شهيد.
أثق فى جيشنا، أعرف أن هذه عقيدته، التى لن يتراجع عنها أبدًا، وأعرف أيضًا أن الجيش ليس فيه منسى واحد، بل كل واحد من رجالنا هو منسى، ولن يخذلنا جيشنا أبدًا، وسيظل يحملنا فوق كتفيه، وسنظل نحمله فى قلوبنا.
ما أتمناه أن نكون نحن على قدر التحدى.
ألا تتفلت من بين أيدينا الحالة التى تركها «الاختيار» فى قلوبنا وعقولنا ومشاعرنا.
لا تتعاملوا معه على أنه مسلسل وانتهى.. لأنه بالفعل حقيقة جرت وقائعها على أرض مصر، وهؤلاء أبناؤنا، ليسوا أبطالًا خياليين اخترعهم مؤلف، إنهم بشر من لحم ودم، تركوا الأحزان لمن يحبونهم، وذهبوا وهم منتصرون، فازوا بمحبة الله فى الدنيا، وبرضاه فى الآخرة.
بعد أن ينتهى «الاختيار» احتفظوا بروحه.. فروحه ستحيينا، وتعلمنا أن هذا الوطن لن يبقى إلا بدماء أبنائه.. فبدمائهم نعيش فى أمان، وبها نبنى لأجيال سيكون عليها هى الأخرى أن تحافظ على ما تركه لهم الأبطال.