رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اختر صحبة الشهداء أو زُمرة البؤساء


لم تظهر شخصية في مسلسل الاختيار، إلا وكان لها وجود حقيقي، من لحم ودم، على أرض الواقع، حتى كاد أن يكون مسلسلاً وثائقياً أكثر منه درامياً.. هل تتذكرون شخصية (أبو عبدالله)، أمير تنظيم أنصار بيت المقدس، في المسلسل، التي أداها الفنان القدير ضياء عبدالخالق؟.. إنه توفيق محمد فريج زيادة، المُكنى بـ(أبو عبدالله).. كان حاصلاً على دبلوم تجارة، وفشل فى الحصول على عمل، ففتح محلاً لبيع العسل فى العريش!.. وحينما اعتقل عقب أحداث شرم الشيخ فى عام 2006، التي كان وراءها تنظيم التوحيد والجهاد، الذي انضم إليه، بتشجيع من ابني عائلته، إبراهيم وسامح أحميد فريج زيادة، أفرج عنه جهاز أمن الدولة قبل ثورة يناير 2011، لأن رجال الجهاز رأوا أنه شخص عادي فى التنظيم، وكان انعزالياً عن عناصر الجماعة بالسجن، ودائم السكوت، ولم يكن يبدو عليه أية إمكانات تؤهله حتى لقيادة مجموعة، لكنه أذهل الداخلية كلها حينما ثبت فيما بعد أنه مَنْ بنى تنظيم بيت المقدس، وأصبح قائداً له، وكان يقود ضباطًا، منهم هشام عشماوي وعماد عبدالحميد، وأساتذة ومهندسين، منهم د. محمد أحمد نصر، الأستاذ بكلية العلوم جامعة قناة السويس!!، وهنا يتضح (أن التقييم الأمنى لتوفيق فريج كان خاطئاً ألف بالمائة)، كما يقول ماهر فرغلي، الكاتب صحفي، والباحث في شئون الحركات الإسلامية.. فقد قال بعض أتباعه عقب القبض عليهم، إن توفيق كان يدرس لهم بنفسه (كيف تواجه القوات الخاصة)، ونظم لهم دورة في (صناعة الإرهاب).. إذن، فتوفيق ليس إرهابياً استثنائيًا فقط، بل هو جزء مهم من تاريخ جماعة بيت المقدس.

بعد الإفراج عنه فى عام 2009، ظل توفيق عنصراً كامناً فى سيناء، لا يخرج من محل إقامته بمنطقة مزارع دائرة قسم أول العريش، إلى أن قرر توفيق إعادة بناء التنظيم، وكان يبلغ 48 عاماً، وتحول من تاجر إلى إرهابى.. كلف أتباعه بتفجير مبنى مديرية أمن القاهرة، واستهداف مديرية أمن الإسماعيلية، واستهداف محطة القمر الصناعى بالمعادي، وساعتها سرقوا سيارة أحد المسيحيين، من مرتادى كنيسة مجاورة لنادى المنتزه بالإسماعيلية.. واستمرت عمليات التنظيم في داخل سيناء، وكان أخطرها ذبح جنود الجيش برفح، واغتيال المقدم محمد مبروك، وغيرها من العمليات، بعد أن عمل على تأسيس فرع للتنظيم بالمحافظات، وبمدن القناة، وتشكيل خلايا عنقودية، تكون مهمتها تخفيف العبء عن المجموعات الموجودة بسيناء عن طريق عمليات مسلحة، وتقديم دعم لوجستى للمجموعات الموجودة مع توفيق فريج زيادة.. وتمكن من تشكيل خلايا بالقاهرة، والقليوبية، والجيزة، وكفرالشيخ، والمنصورة، والسادس من أكتوبر، وقنا، وبني سويف، والشرقية، تتلقى الدعم المالي من محرضي الخارج وأعضاء الداخل، وتقوم بالسطو على سيارات لإخواننا الأقباط ومحلات الصرافة وشاحنات نقل أموال.. وكان يرسل التكفيريين الجدد لتلقي التدريبات في سيناء.. وفجأة أعلن التنظيم عن مقتل أبوعبدالله توفيق فريج، أثناء تركيبه لبعض القنابل فانفجرت إحداها فيه، وقاموا بدفنه في مكان مجهول!.

هذا واحد من بعض الوجوه القليلة من بدو سيناء التي أغرتها دولارات قطر وتحريضات تركيا، ومن يدور في فلكهم، للانقلاب على مصر والنيل من أمنها، ولكنهم بقع سوداء، لا تُلطخ أبداً ثوب أبناء سيناء ناصع البياض، الذي يتحلى به كل المخلصين لوطنهم، المحاربين من أجله، منذ نكسة 67، وما تلاها من حروب الاستنزاف، وحتى النصر العظيم في أكتوبر 73.. ومن بين هؤلاء الأبطال، الشيخ سالم لافي، شيخ شباب قبائل سيناء، من قبيلة الترابين، بعد أن قابل الرائد أحمد منسي، لتعزيته في وفاة والده الطبيب صابر منسى، قال لصديق عمره حداد: (الضابط منسي يتحدث من قلبه، فالحرب من غير قلب تخسر.. العقل بقدر ما هو حريص ويحمي، إلا أنه جبان ويهد من العزيمة، أما القلب، فيجعلك تحارب مثل الوحوش، وإن مت، تموت مثل الأسد.. أشعر أن بين وبين المنسي إخوة، فالإخوة ليست بالقرابة أو أواصر الدم.. قال لي جدي وأنا صغير: يا ولدي، إياك أن تنظر إلى أرض سيناء على أنها مثلها مثل أي أرض.. هذه الأرض غالية ومباركة.. ربنا كلم سيدنا موسى هنا، وفي هذه الأرض تجلى إلى الجبل.. من هنا، مر السيد المسيح والسيدة مريم العذراء في رحلة العائلة المقدسة إلى مصر.. وعندما ضاق الحال بالسيدة زينب، في مدينة جدها، الرسول الكريم، ﷺ، جاءت إلى مصر فرحت باستقبالهم لها في العريش، وطمئنوا قلبها، فدعت لهم: «يا أهل مصر، نصرتمونا نصركم الله، وأويتمونا آواكم الله، وأعنتمونا أعانكم الله، وجعل لكم من كل مصيبة فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا».. هذه الأرض غالية على خلق الله، والكل طمعان فيها، من الهكسوس إلى التتار، وحتى الإسرائيليين وغيرهم.. وغالية على الخالق، فلم يُمكّن منها أحداً، وحماها لنا، جيلاً بعد جيل.. أحمد منسي أخونا، لأنه عارف أن هذه الأرض، ما مثلها أرض أخرى).

كان ما سبق جزءًا من سيرة بطل من رموز سيناء، هو من وضع يده فى يد الشهيد منسى لمحاربة العناصر التكفيرية، حتى استشهد مُقبلاً غير مدبر في مواجهة العناصر التكفيرية بنطاق قرية البرث جنوب رفح، بعد أن فضّل أن يكون جندياً فى الميدان، وكانت ذكرى استشهاده فى اليوم الذى بدأ ظهوره فى مسلسل الاختيار.. أما القصة الحقيقية للشخصية التى ظهرت فى المسلسل فيرويها أيمن، النجل الأكبر للشيخ الشهيد، والذي أكد أن والده كان قدوة ورمزاً بين أبناء كل قبائل سيناء، وكان حريصاً على أن يترك كل النعم من حوله، ويقف فى الميدان جندياً محارباً عن الوطن.. وقال إن اللقاء الحقيقي بين منسي ووالده، كان بين بطل يبحث عن بطل لتطهير سيناء من دنس التكفيريين.. الشهيدان، سالم لافى والرائد منسي، ترافقا فى معارك ملاحقة العناصر بمناطق جنوب رفح، ونال الشهادة فى يوم العاشر من شهر مايو 2017، وهو فى سن 42 عاماً، أي قبل شهرين فقط من استشهاد البطل منسي، وتركهم هو وأشقائه الـخمسة، بعد أن اختار صحبة الأبطال ومصير الشهداء.

بفعل ما لاقاه الشيخ سالم لافي على أيدي وزير الداخلية الأسبق، حبيب العادلي، وما لفقه له من تهم خطيرة، بالإضافة إلى إهمال النظام المصري المخلوع لسيناء وأهلها، لسنوات طويلة، تسرب يقين إلى بعض أبنائها بأن مصر ليست بلدهم، وأن سيناء المُهملة أرضاً وشعباً، لا يمكن أن تكون جزءًا من بلد اسمها مصر.. ولذلك، اختلفت وجهة النظر بين منسى وسالم في أول الأمر، على أن ما يدور على أرض سيناء من معارك تخوضها قواتنا المسلحة، لا يمكن أن تكون هي نفس معركة سالم.. عندما قال الرائد منسي لسالم (هييجى وقت وتعرف إن سيناء أرضى زى ما هي أرضك.. وبكرة تعرف إن حربى هي حربك)، رد سالم (لو شوفتها مثلك.. هجيلك من أوسع الأبواب وأمام كل القبائل، وأحط إيدى في أيدك).. وبالفعل، أدرك سالم أن مصر اليوم ليست هي مصر الأمس، وأن القيادة السياسية والقوات المسلحة والشرطة المصرية تؤمن بأن سيناء جزء عزيز وغالٍ على نفس كل مصري، وهنا بدأ يجمع أبناء كل أبناء القبائل ويحثهم على مقاتلة الإرهابيين، وأجمعت رموز القبائل على أن حياة الشيخ سالم شهدت مراحل كثيرة من التحول، كان هدفه فيها أن تبقى سيناء وأهلها فى كرامة وعزة، وكان قراره مواجهة العناصر التكفيرية ميدانياً، وسيذكر التاريخ فيما بعد حقائق كثيرة عن هذا البطل السيناوي.

أن الشيخ سالم لافى شخصية حقيقية، جسدت دوراً، أداه ويؤديه الكثير من أبناء سيناء، الذين يقدمون التضحيات جنباً إلى جنب مع القوات المسلحة والشرطة المدنية فى ملاحقة العناصر التكفيرية، وهى رسالة تقطع الطريق على كل من يشكك فى دور أبناء سيناء.. ليبقى الشيخ سالم في الذاكرة بطلاً شهيداً، حارب ومات وهو يدافع عن أرضه.
الأسبوع القادم نستكمل بطولات أهل سيناء، منذ حرب الاستنزاف، وحتى الآن.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.