رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مفكر على الباب


أثناء تولي أحمد بك لطفي السيد رياسة تحرير "الجريدة"، و كان أحمد حشمت باشا وزيراً للمعارف المصرية واتفق يومئذ أن أعد رحمه الله مشروعًا يخول وزارة المعارف مراقبة معاهد التعليم الحر، فلم يصادف هذا المشروع ارتياحًا عند لطفي السيد وحمل عليه في "الجريدة" بعدة مقالات ضمنها ما يوجهه إليه من انتقادات ..
وتحت عنوان " أحمد بك لطفي السيد يكتب إلى ناظر المعارف "كتب محرر جريدة "كل شىء والعالم" في عددها الصادر بتاريخ 9 يوليو 1928، وأستأذنك عزيزي القارئ لنشر مقاطع مما كتب «لطفي السيد»، لعلنا نقترب من إضاءة جوانب من زوايا فكر الرجل الذي تقلد العديد من المناصب المهمة، فكان نعم المسئول في وطنيته ووعيه واستنارة فكره، كما نقترب من معاناة أهل الفكر والإبداع في تعاملهم مع أهل السياسة ومتخذي القرار عبر العصور..
كتب محرر " كل شىء والعالم " ..
" لم يكتف وزير معارفنا اليوم بما كتبه في جريدته انتقادًا لبعض فقرات مشروع حشمت باشا، بل أخذ يسعى لتعديله المشروع، وكان من البديهي أن يبدأ سعيه في الوكالة البريطانية، لأنها كانت مصدر المشروعات يومئذ فأخبره المستر ستورس الذي كان سكرتيراً شرقياً للوكالة البريطانية (وهو اليوم السير رونلد ستورس حاكم قبرص) أن اللورد كتشنر يريد منه أن يناقش حشمت باشا في المشروع، وزاد المستر ستورس على ذلك أن اللورد كتشنر خاطب حشمت باشا في هذا الموضوع فأظهر استعداده لمقابلته، أي (لمقابلة الأستاذ أحمد بك لطفي السيد) ومناقشته في اعتراضاته بعد عودته من الفيوم .. وبناء على هذا الكلام من جانب المستر ستورس قصد الأستاذ أحمد بك لطفي السيد بعد أيام إلى نظارة المعارف وفاءً بوعده واستيفاء لوعد حشمت باشا، واستأذن في مقابلته فأخبره رشدي بك (من كبار موظفي وزارة المعارف العمومية) أن سعادته الناظر (أي حشمت باشا) يعتذر عن مقابلته في ذلك اليوم لضيق وقته، فسأله أن يطلب إليه تحديد وقت آخر، فعاد يقول له إن سعادة الناظر لا يستطيع تحديد وقت لمقابلته وعليه (أي على الأستاذ أحمد بك لطفي السيد) ألا يعاود ذلك الإذن في وقت آخر فأدرك رئيس تحرير "الجريدة " معنى هذه الصيغة المألوفة لرفض المقابلة، وانتظر الأستاذ أحمد بك لطفي السيد بعد ذلك يومين ولما لم يسمع خبرًا من حشمت باشا كتب إليه كتاباً تاريخياً حمل فيه عليه حملة شعواء وهذا الكتاب الذي قد يكون الأول من نوعه لم يُنشر إلى اليوم .. وقد استأذن بعضهم من أيام من معالي الأستاذ أحمد بك لطفي السيد في نشر هذا الكتاب التاريخي بمناسبة تقلده وزارة المعارف العمومية لأنه بسط فيه خلاصة المبادئ التي يجدر بوزير المعارف المصرية أن يتبعها، فكان جوابه أنه ما زال مستعدًا لأن يتحمل مسئولية جميع المبادئ التي بسطها في ذلك الكتاب التاريخي وأنه ما كان ليعارض في نشره لولا أن حشمت باشا انتقل إلى جوار ربه فصار من حسن الذوق وواجب احترام الأموات ألا يُقدم معاليه على نشر الكتاب المذكور لما تضمنه من التأنيب والقدح في شخص قبضه الله إليه وأخذه إلى جواره بعد حياة جليلة نافعة، وأنه لهذا السبب وحده لا يرغب في نشر الكتاب ..".

وعن الكتاب وفحواه ذكر محرر " كل شىء والعالم ": "قد حدثنا من اطلع على هذا الكتاب أنه كُتب بحروف من نار وإن الأستاذ أحمد بك لطفي السيد استهله بالإشارة إلى المسلك الذي سلكه حشمت باشا تجاهه وكيف رفض مقابلته، ثم قال موجهاً كلامه إليه: فإن كنت أردت أن تحط من كرامتي فقد أخطأت الفهم لأنه يستحيل أن يحط منها عمل غيري فلا أظن هذه الإهانة إلا لاحقة بشخصك وبفخامة اللورد كتشنر الذي لولا إني اتبعت مشورته ولولا أن سكرتيره أخبرني بوعدك بمقابلتي لما أتعبت نفسي بزيارتك" ، ثم قال: "ومن المحزن أن يكون مظهر قدرة الوزير حاجباً يمنع طلاب الخير ومبلغ حريته من العمل أن يرفض مقابلة من لا يشتهي مقابلته، فإن أقصر الناس باعاً لا يعجز عن التمتع بهذه الحرية وتلك القدرة"، ثم قال: " أليس من المحزن أن يكون العامل الأكبر من تقدير رجالنا التفاوت في الألقاب وأن تكون فكرتنا من الحياة الإنسانية سطحية ساذجة إلى حد أن ينزل الرجل منها عن شخصيته فيحب لا بواقع ذاتي، بل بالوكالة عن غيره ويبغض لا بدافع ذاتي ولكن بالوكالة عن غيره أيضاً، وإلا فقل لي يا سعادة الباشا ما الذي غير بيننا ما كان من المجاملة والمعاملة إلا أنك ظننت خطأ أن أبواب عابدين موصدة دوني وهب أنها كذلك فهل يليق؟ .. على أن أبواب عابدين مفتوحة لي لما هي مفتوحة لك وإن كنت في شك من ذلك فاسأل بعض زملائك ..".

ويختتم المحرر مقاله بتلك السطور: "هذه هي بعض سطور ننقلها إلى القارئ من كتاب أحمد بك لطفي السيد الطويل وقد اخترناها دون غيرها لأنها أخف من بقية عبارات الكتاب وطأة، أما الكتاب نفسه فنحن أيضاً نمسك عن نشره لما أبداه كاتبه من رغبة ولما نكنه لشخص المغفور له أحمد حشمت باشا من احترام وإعجاب .."..
انتهى الاقتباس من مقال محرر "كل شىء والعالم " الذي حُرر منذ 90 سنة، وما زال على باب الوزراء بعض أهل الفكر والاستنارة يحملون العديد من الإضاءات الفكرية الرائعة ، فهل يُسمح باستقبالهم وأفكارهم ؟