رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سقوط قاعدة «الوطية» وخطة تركيا لابتلاع ليبيا


المساومات كانت دائرة على أشدها بين آمر المنطقة العسكرية الغربية التابع لفايز السراج وممثلى مدينتى الزنتان والرجبان لتسليم قاعدة «الوطية» دون قتال.. مطالبهم الأولية تمثلت فى تعيين عناصر زنتانية بمواقع مؤثرة.. الرائد السابق عماد الطرابلسى رئيسًا للمخابرات العامة، بلقاسم امسيك سفيرًا فى تونس، وتسمية زنتانى وزيرًا للصحة.. قادة قبائل المدينة يدعمون الجيش الوطنى، لكنّ قطاعًا مؤثرًا منهم موالٍ للسراج، وخسائر الجيش بالساحل الغربى قوَّت شوكتهم.. الطائرات التركية احتلت المجال الجوى للقاعدة، فى غياب دفاع جوى فعال، باستثناء وحدة «بانتيسير» روسية لا تعمل، ما أوقف الدعم والإمداد من الجو.. كما قطعت كل الطرق المؤدية للقاعدة فتوقفت الإمدادات البرية أيضًا.. بعد ثلاث موجات هجوم استشهد خلالها قائد القاعدة وعدد كبير من رجاله كان قرار الانسحاب اختيارًا مفروضًا، لتجنب المزيد من الخسائر.
العمليات العسكرية التى بدأتها تركيا منتصف أبريل الماضى، باجتياح مدن الساحل الغربى، كانت جزءًا من خطة عاجلة لابتلاع ليبيا قبل تفاقم صعوبات الموقف الدولى، خاصة ما يتعلق ببدء العملية الأوروبية «إيرينى»، لمراقبة إمدادات الأسلحة عبر البحر المتوسط مطلع أبريل، وتصاعدت الأصوات المعارضة لدعم التدخل التركى فى ليبيا داخل البرلمان التونسى، وفضح علاقة «الغنوشى» بأنقرة والإخوان.
صحيفة «ينى شفق» التركية اعترفت بتكليف ضابط تركى برتبة جنرال بإدارة المنطقة الغربية من ليبيا وتولى أنشطة تدريب الميليشيات، وأكدت دفع ست سفن حربية قبالة السواحل الليبية، ومجموعات من القوات الخاصة إلى طرابلس، لدعم الميليشيات.
لكن هناك ظواهر أكدت لتركيا الحاجة لوجود قيادات ميدانية تابعة لها، أبرزها: الخسائر البشرية بين عناصر سلاح الطيران التركى.. قصف الجيش مقر قيادة العمليات التركية بقاعدة معيتيقة الجوية.. ومركز قيادة عمليات الطيران المسير بالكلية الجوية بمصراتة.. فشل الهجوم على ترهونة.. وتعثر هجومين على قاعدة «الوطية».. واختطاف مدير المخابرات العامة وقتله بمعرفة الميليشيات.
رئيس المخابرات التركية «هاكان فيدان» زار ليبيا مطلع مايو، واصطحب معه الإرهابى خالد الشريف المعروف بـ«أبوحازم الليبى»، القيادى البارز فى تنظيم «القاعدة»، والمطلوب للعدالة، لإدارة «غرفة عمليات طرابلس»!!.. وتلك ليست المرة الأولى التى يتم فيها تصعيد عناصر إرهابية لمواقع قيادية ميدانية، بعد تكليف «أحمد الدباشى» بقيادة الهجوم على مدينة صبراتة، وهو الذى وضعه مجلس الأمن فى القائمة السوداء ٢٠١٨، بتهمة الاتجار بالبشر.
الاطمئنان إلى التغيير الجذرى الذى حدث فى توازن القوى العسكرية دفع رئيس أركان السراج للتأكيد أن الاستعدادات جارية لتحرير مناطق جنوب طرابلس ومدينة ترهونة، وذلك بعد أن أضحت القوات المتمركزة فيهما رهائن للطيران التركى، ما فرض إعادة تموضع قوات الجيش حول العاصمة.
خطة تركيا العاجلة لابتلاع ليبيا أضحت قابلة للتنفيذ، بعد تجاوز الصعوبات اللوجستيكية اعتمادًا على قاعدة «الوطية».. الخطة تتضمن عدة محاور، بدأت بإحكام السيطرة على العاصمة طرابلس والغرب الليبى، قبل الانتقال لاستعادة سرت، والقفز على منطقة الهلال النفطى، ثم استعادة السيطرة على الجنوب الليبى.. الخطة التركية تستند إلى أربعة محاور رئيسية.
المحور الأول: تثبيت وجودها العسكرى ليصبح دائمًا، تتم ترجمته إلى نفوذ سياسى.. تركيا شحنت إلى ليبيا أسلحة متطورة وتقنيات عسكرية جديدة، ومرتزقة تجاوز عددهم تسعة آلاف، ما قلب موازين القوى.. نصبت منظومات دفاع جوى متطورة، وصواريخ أرضأرض حديثة، وأجهزة تشويش على الاتصالات، وقذائف هاون من العيار الثقيل، بالإضافة إلى مجموعة من الطائرات المسيرة طراز «العنقاء» بعد فشل «بيرقدار» فى تحقيق التفوق الميدانى.
صحيفة «ديلى مافريك» فى جنوب إفريقيا أكدت أن ٦ طائرات عسكرية تركية وصلت إلى العاصمة كيب تاون فارغة، باستثناء واحدة عليها شحنة متواضعة من الإمدادات الطبية، وهناك تم شحنها بمعدات عسكرية، من إنتاج شركة «راينميتال دينل مونيتيون» المنتجة للذخيرة، وتم تفريغها بمطار مصراتة الليبى.
عملية تجنيد تركيا للمرتزقة تواجه صعوبات، بعد أن كان الجميع يتسابق للتطوع؛ وذلك نتيجة زيادة أعداد القتلى فى الشهور الماضية «٢٧٩».. تقرير موقع «المونيتور» الأمريكى كشف عن أن تركيا تضطر لتجنيد غلمان مراهقين بدلًا من المقاتلين المحترفين، مما يفسر أسر الجيش أعدادًا منهم.
تركيا أيضًا لم تف بوعودها الخاصة بقيمة المكافآت الشهرية، ولم تصرف سوى سُدس ما وعدت به.. ناهيك عن أن انتشار «كورونا» فى ليبيا أثار المخاوف من السفر إليها.. المخابرات التركية تدخلت فى العديد من الحالات للضغط والترهيب حتى تجبر الفصائل السورية على تقديم مرتزقة جدد.
الخسائر التركية رغم المكاسب على الأرض ضخمة وغير متوقعة.. يناير ٢٠٢٠ كان البداية، بمقتل ٣ جنود، وإصابة ٦ آخرين، وسقوط ٥ طائرات مسيّرة.. النزيف استمر خلال فبراير بإسقاط ٩ مسيرات.. حصيلة مارس قتل أكثر من ١٥ جنديًا، و١٢٠ مرتزقًا، وسقطت ١٢ مسيّرة.. وخلال أبريل دمّر الجيش ١٣ طائرة عسكرية ومسيرة، مما يفسر تهديدات الخارجية التركية باستهدافه إن استمر فى الإضرار بـ«المصالح التركية».. التهديد التركى ثم احتلال «الوطية» يؤكد قرب مشاركة سلاح الطيران التركى غير المسير فى الحرب.. وهو تطور يمثل نقلة خطيرة فى طبيعة المواجهة، تهدد بتوسيع نطاقها ليشمل قوى إقليمية أخرى.
المحور الثانى: التنسيق مع «إخوان ليبيا».. المجلس الاستشارى للدولة الذى يسيطر عليه «الإخوان» طالب السراج برفع مستوى التنسيق العسكرى مع الحلفاء!، ودعا إلى التوقف عن الحديث عن الحوار أو الحلول السياسية قبل التصدى الكامل للجيش.. هذه الدعوة تعنى تفويض الإخوان لتركيا فى المزيد من الانخراط العسكرى لمواجهة الجيش، بكل ما تمتلكه من قدرات، وهو ما يتسق مع علاقتهم الاستراتيجية بتركيا، واستعدادهم لتسليمها الولاية على ليبيا، والخضوع لسيادتها.
المحور الثالث: دعم التنظيمات الإرهابية فى ليبيا.. تركيا تتولى نقل الإمدادات والأسلحة إلى التنظيمات المسلحة بالجنوب الليبى، على رأسها داعش والقاعدة وقبيلة الطوارق التى انبثقت عنها جماعة المرابطون «مختار بلمختار»، وذلك اعتمادًا على المنظمات الخيرية «مؤسسة حقوق الإنسان والحريات والإغاثة الإنسانية التركية».. تقنين التعاون التركى مع الطوارق تم خلال زيارة ١٠ من شيوخ القبيلة لإسطنبول أبريل ٢٠١٨، لأن الطوارق من كبرى قبائل المنطقة، تتنقل بين ليبيا والجزائر ومالى وتشاد والنيجر وموريتانيا، وتسيطر على مساحات شاسعة من الصحراء الكبرى والمناطق الرخوة بدول الساحل والصحراء، كما تسيطر على مسارات التهريب وتجارة السلاح والهجرة غير الشرعية، مما جعلها حاضنة لأكثر التنظيمات تطرفًا، مثل جماعة «أنصار الإسلام»، «القاعدة» بقيادة أبوالوليد الصحراوى، وجيش الصحراء التابع لـ«داعش» بقيادة سليمان بن دقمو.
تركيا بدأت دعمها العسكرى للطوارق فى مواجهة قبائل التبو منذ ٢٠١٢.. القبيلة تدين بالولاء للسراج، وترفض سيطرة الجيش على الجنوب، حتى لا يخصم من نفوذها.. نقل الجماعات الإرهابية الموجودة فى سوريا والعراق إلى الجنوب الليبى بدأ منذ ٢٠١٧، وذلك كعملية إعادة انتشار، تعتمد على تشكيل حواضن للتنظيمات الإرهابية فى الداخل الليبى، لتحويلها إلى معسكر تدريب لتلك التنظيمات، تتسرب بعده المجموعات إلى دول الساحل والصحراء، خاصة تشاد والنيجر، كما تتمدد جنوب الجزائر والمغرب.. تقرير المراقبين الأمميين فى ليبيا ١١ مايو ٢٠٢٠ أكد أن التنظيمات الإرهابية قد تسعى إلى استغلال حالة انعدام الأمن بجنوب ليبيا لتوسيع نطاق أنشطتها، مستدلين بالهجوم على نقطة تفتيش غرب مرزق الجنوبية ٢٨ يناير الماضى، كما أكد أن قيادة «داعش» لا تزال تتركز فى بنى وليد، وتنتشر خلاياها النائمة فى طرابلس ومصراتة، وسبها.
إقليم الساحل والصحراء احتل المرتبة الثانية ضمن أكثر مناطق العالم التى شهدت عمليات إرهابية بعد جنوب شرق آسيا، عدد ضحايا العمليات الإرهابية التى نفّذتها الجماعات المتطرفة والتكفيرية بمنطقة الساحل والصحراء ارتفع من ٢١٨ قتيلًا ٢٠١٧، إلى ٥٢٩ قتيلًا ٢٠١٨، و١١١٠ قتلى ٢٠١٩.. الخطير، أن هذه التنظيمات تراقب حاليًا المعارك الدائرة فى الغرب الليبى، وتأمل أن تنتهى بإنهاك الجيش الوطنى، ما يسمح لها بالانقضاض على الهلال النفطى مصدر الثروات الليبية، ثم العودة للتمركز بالمنطقة الشرقية لتهديد الحدود الغربية لمصر.
المحور الرابع: هو فرض أمر واقع تركى بمياه المنطقة الاقتصادية الحرة لليبيا، بما يضمن لها تحقيق حلم المشاركة فى الثروات الغازية للبحر المتوسط.. شركة البترول التركية «تباو» قدمت طلبًا إلى فايز السراج للحصول على تصريح تنقيب، لكن الحكومة لم تنتظر رد السراج على الطلب.. وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركى فاتح دونماز أكد أن بلاده بدأت بالفعل تطبيق البروتوكول البحرى مع ليبيا، وباشرت الاستكشاف فى المنطقة الحدودية البحرية المشتركة، وهى المرحلة التى تسبق البدء فعليًا فى التنقيب عن الموارد الطبيعية بالمنطقة.. هذا الإجراء يعيد التوتر إلى شرق المتوسط، بين تركيا واليونان وقبرص، لأن المنطقة المستهدفة تدخل ضمن منطقتهما الاقتصادية الحرة، نظرًا لعدم وجود حدود مشتركة بين تركيا وليبيا، مما يفسر صدور البيان المشترك بين مصر واليونان وقبرص وفرنسا والإمارات الذى ندد بالتحركات التركية غير القانونية الجارية، بما تمثله من انتهاك صريح للقانون الدولى ولاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار.
مصر تدرك أن الاحتلال التركى لقاعدة «الوطية» يستكمل ملامح المؤامرة الإثيوبية بالسعى للتعامل المنفرد مع «سد النهضة»، مما يسمح لها بـ«تعطيش» مصر.. كما أن الإجراءين العدائيين لا ينفصلان عن محاولات إنعاش النشاط الإرهابى فى سيناء.. المحروسة مستهدفة، لكنها تدير مواجهاتها برصانة، حفاظًا على أمنها ومصالحها وعلاقاتها الدولية.