رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حوار حول العلمانية 3.. فرج فودة يكتب: تشريح الواقع الإسلامي فى مصر

فرج فودة
فرج فودة

الواقع
(الإيجابية - السلبيات)
1 - مقدمة:

هذه محاولة للتعرُّف على الواقع المصرى الحالى، فيما يتعلق بهذه المشكلة لإيجابياته وسلبياته من وجهة نظر محايدة قدر الإمكان.
2 - إيجابيات الواقع الحالى:
(أ) تفتت التيار السياسى الإسلامى إلى ثلاثة تيارات سياسية متباينة هى: التيار التقليدى والتيار الثورى (راجع الفصل الخامس من كتاب «قبل السقوط» للمؤلف)، وعدم تجانس هذه التيارات، سواء فى الفكر أو أسلوب العمل.
(ب) افتقاد التيار السياسى الإسلامى، بفصائله الثلاثة، القيادة الإسلامية الواحدة، وبمعنى آخر فإنه على المستوى العام يفتقد شخصيةً قياديةً من نوع «حسن البنا» الذى يُرضى المتطرّف والمعتدل، على حدٍّ سواء، والذى يستطيع أن يجمع تحت رايته «الهضيبى» و«السندى» فى آنٍ واحد (الفكر الهادئ والمسلح معًا)، والذى يحظى بالقبول الشعبى والتنظيمى فى آنٍ واحد، والذى يستطيع أن يصل بالتيارات الثلاثة إلى حدٍّ أدنى من الاتفاق فى الفكر والتنسيق فى الفعل وعدم وجود هذه الشخصية القيادية بجانب كونه مصادفةً سعيدةً، إلا أنه أيضًا مسألة وقت، لكنه يمثل حاليًا جانبًا إيجابيًا.
(ج) عدم تمتُّع أى قيادة من القيادات الثلاث للتيارات السياسية الإسلامية بقبول شعبى عام، يصدق هذا على «عمر عبدالرحمن» (التيار الثورى)، كما يصدق على «عمر التلمسانى» (التيار التقليدى)، وبمعنى آخر فإن القبول بكل من هذه القيادات لا يزيد عن كونه قبولاً تنظيميًا داخليًا، ويصدق ذلك أيضًا على القيادات المرشّحة لخلافة القيادات الحالية لهذه التيارات «الزمر» (فى الثورى) و«شادى» (فى التقليدى). (1)
(د) عدم اتجاه القيادات الإسلامية التى تحظى بقبول شعبى واسع (ونموذجنا الواضح يتمثل فى الشيخ الشعراوى، وبدرجة أقل بكثير فى الشيخ كشك) إلى العمل السياسى التنظيمى، وإمكانية التوصل إلى مساحة واسعة من (الرسمى)، معها (قبول «الشعراوى» للوزارة وقبول «كشك» للكتابة فى صحيفة «اللواء الإسلامى» التى يصدرها الحزب الوطنى واعتدال كتاباته فيها)، وبمعنى آخر فإنه بالربط بين هذه النقطة والنقطة السابقة لها يمكن القول بأن «القيادات التنظيمية ليست شعبية، والقيادات الشعبية ليست تنظيمية»، هما أمران إيجابيان بالتأكيد.
(هـ) تمثل القيادة الحالية للتيار التقليدى (عمر التلمسانى) أضعف حلقات قيادية تاريخية، سواء من ناحية الفكر أو القدرة على التأثير أو التمتُّع بإمكانية الزعامة، وقد ساعد على ذلك كونها (قيادة سن) وليست قيادةً منتخبةً، حيث تولى «التلمسانى» رئاسة مكتب الإرشاد باعتباره الأكبر عمرًا فى غياب العمل الشرعى، كما ينص على ذلك النظام الداخلى للإخوان.
(و) معاناة التيار التقليدى (الإخوان المسلمين) من تمزُّق فكرى شديد لظهور «سيد قطب» كزعامة منسوبة إلى هذا التيار اسمًا (بينما هو فى حقيقته المنظّر الفكرى الأول للتيار الثورى)، الأمر الذى ترتب عليه حدوث صدام بين منهجين فكريين مختلفين، أولهما منهج أصولى يمثله «حسن البنا»، وثانيهما منهج ثورى مختلف تمامًا وإن كان أكثر تماسكًا، ويمثله «سيد قطب»، ولعل آثار معاناة الإخوان المسلمين من ذلك تبدو واضحة فى إصرار قياداته على ذكر الإمام الشهيد، قاصدين بذلك «حسن البنا» وإحياء كتاباته وتجاهل ذكر «سيد قطب» تمامًا رغم كونه (إمامًا شهيدًا) هو الآخر، وعدم الإشارة إليه تجنبًا لمنهجه واعتباره داخل صفوف التيار التقليدى خارجًا على الفكرة من ناحية، وقيادة غير شرعية لم يفرزها أحد السبيلين اللذين لا ثالث لهما، وهما انتخابات مكتب الإرشاد أو كبر السن، من ناحية ثانية، ومثل هذا التمزُّق الفكرى يؤثر على قوة التنظيم وفعاليته ويحجِّم كثيرًا من قدرته على التأثير ويعطى للمختلفين معه سلاحًا فكريًا ماضيًا.
(ز) بدأ التيار الثورى الإسلامى فى تحقيق بعض ردود الفعل المناهضة له على مستوى الرأى العام الشعبى، وقد حدث ذلك نتيجة تزيُّدهم فى التطرُّف، الذى تمثل فى استخدام مكبرات الصوت بصورة مزعجة، أو لجوئهم إلى أساليب العنف الجسدى مع معارضيهم فى الجامعات، أو تأثر بعض الأسر بسلوك أبنائهم فى مواجهة أفراد الأسرة أو برفض أبنائهم التعليم أو العمل، ورغم أن هذا القدر من رد الفعل ليس كبيرًا بدرجة مؤثرة، فإنه قد تكون فى مواجهة مسيرة «حافظ سلامة»، أو فى إزالة الملصقات أو التقبُّل الحسن للحملة الإعلامية التى أعقبت محاولة مسيرة «حافظ سلامة» التى كتبت فيها مجموعة من المقالات، لم يكن متصورًا أن تكتب فى فترة سابقة دون فعل شديد بالعنف، على عكس ما حدث.
(ح) أنه على العكس من تمزُّق التيار السياسى الإسلامى إلى أجنحة مختلفة وربما متصارعة وتوزع ولائه بين قيادات متعددة ومختلفة، يبدو التيار السياسى القبطى متماسكًا بصورة لم تحدث من قبل، كما أنه يدين بالولاء لقيادة واحدة شرعية هى البابا، وعلى الرغم من اعتراض الكاتب على قيادة رجال الدين للعمل السياسى فى كل من الجانبين، الإسلامى والقبطى، فإن توحد التيار السياسى القبطى تحت قيادة واحدة غير مختلَف عليها يمثل نقطة إيجابية واضحة، لأنه إذا لم يكن ممكنًا التحكم فى «الفعل الإسلامى» فإنه يمكن التحكم فى «رد الفعل القبطى» من خلال إمكانية التفاهم مع قيادته، ومساحة التفاهم واسعة من منطلق إحساس الأقلية بالخطر وسعيها المبرّر بتحجيم المشكلة، وسوف نناقش هذه النقطة بالتفصيل عند مناقشة أسلوب الحل.
(ط) أن الأقلية القبطية فى مصر، على عكس كثير من الأقليات فى أغلب دول العالم، ليست أقلية وافدة، بل هى أقلية أصيلة، الأمر الذى يصعُب معه النظر إليهم على أنهم دخلاء أو مجموعة قابلة للنزوح إلى موطنها الأصلى، أو أن ولاءها خارجى، كما أنه من ناحية أخرى لا يمكن الشك فى ولائها لمصر، الأرض والوطن والتاريخ، وهذه كلها عوامل تُحجّم كثيرًا من مبررات الصراع الطائفى.
(ى) أن تبنى الأقلية القبطية بعض المطالب السياسية لا ينطلق من عقيدة دينية بقدر ما ينطلق من مفهوم حقوق الإنسان فى العالم المعاصر، وبمعنى آخر فإن موقفهم ينطلق من أرضية سياسية، وليس من أرضية دينية، كما لا يتكون إلا كرد فعل فى مواجهة تجاوز الفعل فى الجانب الآخر لحدود المعقولية، الأمر الذى يؤدى إلى قصر المواجهة فى اتجاه تحجيم الفعل وهو أمر إيجابى.
(ك) أدى التزيُّد فى التطرّف السياسى الدينى إلى ظهور تيار فكرى علمانى واضح تبنّاه بعض المفكرين فى مقالاتهم وكتبهم، واستطاع أن يفرض نفسه على الساحة الفكرية بعد غياب، كما بدا تأثيره واضحًا فى بعض الأحزاب السياسية حيث بدأ كثير من القواعد الحزبية فى تبنى العلمانية والدعوة إلى الالتزام بها، ويرى الكاتب أن تبلور هذا الاتجاه سوف يؤدى إلى تصحيح مسار الحوار الدائر، وذلك بإحلال التيار العلمانى محل التيار الدينى المعتدل فى الحوار الدائر مع المتطرفين.
(ل) من أهم الإيجابيات أن الغالبية العظمى من المصريين ما زالوا خارج دائرة الحوار، وإذا كان محسوبًا كإيجابية عدم تعاطفهم بعد، مع المتطرّفين، فإنه محسوب كسلبية عدم تصديهم للمواجهة معهم.
3 - سلبيات الواقع الحالى:
(أ) الإعلام:
(أ - 1) منطق الحوار الدينى:
ساد الإعلامَ منطق خاطئ، وهو منطق «الحوار الدينى» مع المتطرّفين دينيًا، والخطأ فى هذا المنطق يعود إلى ما يأتى:
1 - أنه حوار «دينى - دينى» يصل بالطرفين إلى نتيجة واحدة فى جميع الأحوال، مضمونها قبول كثير من اتهامات المتطرّفين للمجتمع بالخروج عن صحيح الدين مع محاولة من الطرف الحكومى المحاور إثناء المتطرّفين عن اتباع العنف، وخلال ذلك كله يتم تجهيل أو تجاهل الخلفية السياسية للمتطرفين.
2 - أن الحوار «الدينى - الدينى» يصل بالمتابع له إلى اختيار بين دولة «دينية» متطرّفة أو دولة دينية معتدلة، وهو أمر خطير إذا كان مقصودًا، والأخطر ألا يكون مقصودًا.
3 - يتمتع المتطرّفون بمنهج متكامل ومتماسك بصرف النظر عما يحمله من خطأ أو صواب، بينما لا يزيد الأمر بالنسبة للمحاورين لهم عن اجتهادات غير متناسقة تفتقد التكامل، وفى أغلب الأحيان يبدو موقفهم دفاعيًا، وهو أمر له تأثيره النفسى بالغ السلبية.
4 - يتأثر الرأى العام فى مصر بالانطباع وليس بالاقتناع، والانطباع الذى يتولد لدى مشاهدى الحوار التليفزيونى أو متابعى الحوار الصحفى، أنه مواجهة بين مجموعة ذات انتماء عقيدى صادق، ومجموعة أخرى تؤدى واجبًا رسميًا، أو إذا أردنا المقابلة اللفظية الصحيحة، مجموعة ذات انتماء رسمى صادق.
5 - فى أحيان كثيرة يؤدى الحوار إلى نتائج عكسية للمستهدَف منه، وعلى سبيل المثال فقد استضاف برنامج «ندوة الرأى» بالتليفزيون عالمًا دينيًا فاضلاً مشهورًا بالاعتدال وهو الشيخ محمد الغزالى، وسُئل عن رأيه فى العلمانية فأجاب «من ينادى بالعلمانية يُعتبر مرتدًا عن الإسلام»، وعندما سُئل فى الحلقة نفسها عن رأى زميل له فى تكفير الحاكم، أجاب بما يُوحى بأن القضية خلافية، وفى مرة أخرى فى البرنامج نفسه هاجم بتحامُل شديد غير مبرّر أحد أعضاء جماعة التبليغ ردًا على عرض له لأسلوب الجماعة، بدا فيه شديد الذكاء والاعتدال والتديُّن، الأمر الذى يدفع بالمشاهد إلى نتيجة معاكسة للهدف من البرنامج وأمثلة ذلك كثيرة.
6 - يبقى السؤال الأهم والحاسم لخطأ منهج الحوار بالصورة التى يتم بها حاليًا، وهو كم متطرّفًا استطاع البرنامج أن يثنيه عن تطرُّفه؟ الإجابة تقريبًا لا أحد، فالوجوه المحاورة من المعتدلين هى نفسها تقريبًا منذ نحو أربع سنوات، بينما يمكن القول بأن البرنامج قد دفع الكثير من المتطرّفين إلى دائرة الشهرة والنجومية، وربما دفع البعض من الشباب المعتدل إلى التطرُّف.
ولا يعنى ما سبق أن الكاتب ضد الحوار، بل هو معه، على أن يكون حوارًا بين مفهوم الدولة الدينية ومفهوم الدولة المدنية، وأن يتم على أساس سياسى، وأن تمثل فيه جميع الأطراف الحقيقية للحوار.
(أ - 2) أسلوب الحملات الإعلامية:
درج الإعلام على معالجة أو مواجهة التطرُّف السياسى الدينى بحملات إعلامية مركزة وعالية النبرة فى توقيت ملازم للمواجهات الأمنية للتطرُّف، وما إن تنتهى المواجهة حتى تفتر الحملة وتبدأ المقالات التى تصف المتطرّفين بحُسن النية وأنهم مغرر بهم، وأن الدولة هى التى قصّرت فى إجراء الحوار معهم ودعوتهم إلى قيم الدين الصحيح.
ومن المؤكد أن أسلوب الحملات الإعلامية (الأمنية) يحمل فى طياته قدرًا كبيرًا من الخطأ، فهو يبدو من ناحية أمام الرأى العام، أمنيًا أكثر منه سياسيًا أو فكريًا، ومن ناحية أخرى يؤدى التزيُّد فيه أحيانًا إلى نتائج عكسية، منها التعاطف، ومنها تضخيم حجم المتطرفين لدى الرأى العام أن أسلوب الخط السياسى الثابت فى مواجهة التطرُّف هو البديل الواجب اتباعه.
(أ - 3) التلفزة الدينية:
وقع المشرفون على التليفزيون فى مجموعة من الأخطاء التى ترتب عليها عدد من السلبيات المؤثرة على قدرة هذا الجهاز الخطير على التأثير فى الرأى العام، فمن ناحية أخلى التليفزيون مساحات كبيرة من ساعات إرساله للبرامج الدينية وشجّع على ارتفاع أصوات المتطرّفين بالهجوم على برامج الشاشة الصغيرة، مما أدى إلى مزيد من الخطوات فى هذا الطريق، وأى إحصائية لعدد ساعات الإرسال الدينى ونسبتها إلى مجمل ساعات الإرسال وتطوّر هذه النسبة فى السنوات الثلاث الأخيرة تؤكد انسحاب التليفزيون عن خطه (العادى)، وهو انسحاب لن يحده شىء لأنه لا حدود للتنازلات التى يطالب بها المتطرّفون، ولعل الإصرار على إذاعة الأذان فى وقته كاملاً ثم تطور ذلك إلى إذاعة حديث نبوى بعد أذان الصلاة بلا ضرورة، يُعطى مثالاً لهذا الانسحاب، وإذا كان الشىء بالشىء يُذكر، فقد طالبت جريدة «النور»، فى عدد الأربعاء 21 مارس 1985، بأن يلى الحديث النبوى تفسير له، وهو ما يشكل نموذجًا لأسلوب سباق الجرى (خلفًا) الذى يشارك فيه التليفزيون، أو بعبارة أدق يُسابق فيه التليفزيون، آراء المتطرفين (1).
ومن الأمثلة الأخرى على أخطاء التوجّه الإعلامى التليفزيونى ما أصبح يُسمى بظاهرة الشيخ الشعراوى، الذى يخلق منه التليفزيون المصرى نجمًا تليفزيونيًا بإصراره على التركيز عليه وإعطاء مساحة يومية له فى التليفزيون، وعندما مست أحاديثه عقيدة الإخوة الأقباط ومشاعرهم أكثر من مرة، لم يستطع التليفزيون أن يفعل شيئًا، وترتب على محاولة حصر برنامجه فى وقت أكثر محدودية أن ثار المشاهدون وعبّروا عن ثورتهم بسيل من الخطابات، وهكذا واجه المشرفون على التليفزيون مأزقًا هم صانعوه، والحديث عن أخطاء الشاشة الصغيرة يطول، والنماذج متعددة، لكن أكثرها بجاحة، ذلك البرنامج الذى أُذيع فى شهر رمضان وادعت كاتبته أن نصف ملوك الفراعنة كانوا مسلمين، وإذا كان من حق التليفزيون أن يُشهر إسلام الفراعنة فإن من حق المتطرّفين أن يرفعوا شعاراتهم وأن يغالوا فى تطرُّفهم عن يقين بأنهم لن يطاولوا التليفزيون بجاحة ولا تطرُّفا!!
(أ - 4) الجيش السرى الإعلامى:
عندما تحدد شهر مايو 1985 لمناقشة قوانين الشريعة، فوجئ المصريون فى شهرى يناير وفبراير من العام نفسه وخلال هذين الشهرين فقط، بما يمكن أن يكون حملة إعلامية منظّمة، استغلت جميع ما حدث من قضايا أو حوادث خلال هذين الشهرين فى الدعوة والتمهيد لتطبيق الشريعة الإسلامية، وأوجز بعض الأمثلة على ذلك فيما يلى:
- اعتدى ستة شبان على فتاة كانت موجودة مع خطيبها فى سيارة فى أحد الشوارع المهجورة فى المعادى، وقد أثبت الطبيب الشرعى فيما بعد أنها عذراء، وقد ركزت الصحف على هذه القضية، وركزت فى عرضها للحوادث أو لجلسات المحاكمة على الدعوة إلى تطبيق حدى الزنا أو الحرابة، ولم يخلُ أى مقال أو موضوع كُتب عن الحادث من رأى دينى أو فتوى لرجل من رجال الدين، وقد نجح ذلك فى التأثير على الحكم (الأمر الذى اعترف به القاضى حين صرح للصحف بأنه لم يكن من الممكن تجاهل الرأى العام فى القضية)، وحكم على خمسة شبان من الستة بالإعدام، ولكن الأهم من التأثير على الحكم، ذلك التأثير الذى كان موجهًا للرأى العام، حاملاً مضمونًا فحواه أن القوانين الوضعية لم تعد صالحة لحماية الأعراض، وأن البديل ممثل فى تطبيق الشريعة.
- قتل شاب مريض نفسيًا (وهذا ثابت) والديه، واستغل الإعلام ذلك بادعاء أن الشاب قد تأثر بالمذاهب (الوجودية) الهدّامة وأن إلحاده هو السبب، وخلص من ذلك إلى نتيجة مؤدّاها أن العودة بالمجتمع إلى الدين هى الحل والنجاة، وأنه من الضرورى حماية المجتمع من (الفلسفات الوضعية المنحرفة).
- استغل الإعلام حادث انتحار فتاة مغربية فى منزل ملحن مشهور فى الإيحاء بأن مصر أصبحت مرتعًا للسكارى، وتحوّلت إلى ماخور كبير تدور فيه الفاتنات العاريات بكؤوس الرَّاح على الشاربين، وكان المضمون الذى وصل إلى القراء كرسالة إعلامية واضحة هو ضرورة تطبيق حد شرب الخمر وضرورة إقامة المجتمع الإسلامى (المثالى).
- حُوكمت قصة «ألف ليلة وليلة» الشهيرة بحُجة (الخلاعة والألفاظ الخارجة)، رغم أنها موجودة منذ مئات السنين دون استنكار أو إدانة، وبدلاً من أن يواجه الإعلام هذه «المحرقة الفكرية» ساندها بأقلام كبار الكتاب، وبدا صوت المعارضين باهتًا، وكان الهدف هو التوصُّل إلى الحكم على الفكر والأدب والفن من منطلق دينى، وهو منطق شديد الخطورة، لكنه يُعتبر تمهيدًا لما يتوجه له المجتمع أو يتم توجيهه إليه.
- أُعيدت مناقشة قضية البهائية للمرة الثالثة (المرة الأولى فى أوائل الستينات والثانية فى أوائل السبعينات) وبعد أن نُوقشت القضية فى المرتين السابقتين على أنها قضية مذهب إسلامى منحرف، نُوقشت هذه المرة على حقيقتها، وهى أنها قضية دين جديد، ولم تُنَاقش القضية فى وسائل الإعلام على أساس فكرى أو قانونى، بل نُوقشت بمفاهيم دينية أساسًا، وبتوجه واضح إلى ضرورة تطبيق «حد الرّدة».
- ركز الإعلام على مناقشة قضية ما سُمى بالنبى المزعوم بريقع، تلك القضية التى يخرج المتابع لها بانطباع مؤداه أنها قضية خلقية أو شخصية، لكن الإعلام عرضها من خلال مفهوم آخر، وهو مفهوم مضمونه أن المجتمع العلمانى المصرى يسمح فى ظل القوانين الوضعية بظهور الديانات والأنبياء، وأن غياب (حد الرّدة) هو السبب فى ذلك.
ومن الممكن سرد أمثلة أخرى عديدة، لمفردات الحملة الإعلامية الشرعية التى شنّها الإعلام فى اتجاهه للتمهيد لتطبيق الشريعة الإسلامية، وهو الأمر الذى يطرح (فزورة) يصعب حلها ومضمونها كالتالى:
* الدولة لا ترى ضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية الآن.
* الإعلام يتبع الدولة.
* الإعلام يشن حملة باتجاه تطبيق الشريعة الإسلامية الآن.
ولا يحل هذه الفزورة إلا جواب واحد، وهو أن هناك جيشًا إعلاميًا سريًا يسعى لتطبيق الشريعة الإسلامية ويتجاوز مصالح المسيطرين على الإعلام إلى مصالح أخرى يمكن بحثها أو البحث حولها فى مجال آخر.
(أ - 5) الإعلام والأمن:
تبرر القيادات الإعلامية تدخل (الأمن) فيما يتعلق بنشر الموضوعات الخاصة بهذه القضية، أو إذاعة البرامج المواجهة للتطرُّف بأنه من الضرورى التنسيق بين الاعتبارات السياسية والأمنية فيما يتعلق بظاهرة لها وجهاها، السياسى والأمنى، وبصرف النظر عن مدى صحة هذا المنطق، فإن الأمر يتجاوز مجرد التنسيق فى كثير من الأحيان، الأمر الذى يترتب عليه غلبة المنطق الأمنى على المنطق السياسى، ويأتى بنتائج عكسية، والأمثلة على ذلك كثيرة، وأغلبها يتعلق بنشر «الأخبار» المتعلقة بهذه الظاهرة، وكمثال على ذلك فقد منع الأمن الصلاة بمسجد النور فى أعقاب محاولة مسيرة «حافظ سلامة» حتى تتم الإنشاءات الخاصة بالمسجد، وتصدى المتطرّفون لذلك بالاعتداء المسلح على رجال الأمن، واستخدموا فى اعتدائهم السلاح الأبيض، وترتبت على ذلك إصابات فى الطرفين وقُبض على بعض المتطرّفين، وقد نشرت جميع وكالات الأنباء العالمية هذا الخبر، ومُنع نشره فى مصر بتعليمات أمنية، وهو أمر لا يبدو مفهومًا، فلا الأخبار يمكن حجبها فى عالم مفتوح، ولا النشر ضار، بل مفيد إلى أقصى درجات الإفادة، وقد صرح الأمن بعد ذلك بنشر الخبر، وفى وقت بين عدم السماح والسماح يمكن تصوّر التأثير الضار للتدخل الأمنى فى مجال الإعلام.
(أ - 6) الشراك الإعلامية:
يحلو لكثير من القيادات الإعلامية والفكرية أن تبدأ مقالاتها بعبارات من نوع «لا يختلف أحد حول تطبيق الشريعة الإسلامية - لقد أعطى الشعب كلمته - أعطت الحكومة وعدها - أبدت أحزاب المعارضة تأييدها - تلك قضية منتهية لا خلاف عليها»، ولكن، وآهٍ من «لكن» هذه، وآهٍ مما يتلوها عادةً من عبارات تناقض العبارات السابقة أشد التناقض، وتخالفها أشد المخالفة، بل قد ينتهى المقال برفض تطبيق الشريعة الإسلامية تحت مسميات أهونها التدرُّج وأقصاها توجُّه الكاتب للمتطرّفين، بتساؤلات من نوع، قولوا لنا أولاً ماذا تريدون؟ وكأنه لم يسمع منهم قولاً، أو يسمع عنهم قتلاً، ويتصوّر الكاتب والمفكر أنه قد نصب شركًا محكمًا لهم، بدأه بإعداد الطُعْم (بضم الطاء وسكون العين)، ممثلاً فى العبارات التى بدأ بها المقال، وهو طعم يسهل -فى تصوّره- أن يبتلعه المتطرّفون، ثم يفاجأون باستدراجهم فى نهاية المقال إلى نتيجة عكسية، والحقيقة التى لا شك فيها ولا مراء، أن الشرك منصوب للقراء وأن الجريدة اليومية التى توزّع مليون نسخة، وبالتالى يقرأها خمسة ملايين قارئ، قد نصبت بفضل الكاتب أو المفكر الكبير شركًا لهذه الملايين، والسبب فى ذلك أنه ليس فى هذه القضايا الحساسة والمصيرية «لكن»، تمامًا كما تقول المسرحية المشهورة، ليس فى القانون (زينب)، فإما أن تكون (مع) وإما أن تكون (ضد)، وما دمت بدأت القول إن قضية الشريعة محسومة، وإنها محل اتفاق عام، فإن أى قول بعد ذلك لا يُجدى وأى (لكن) لا يؤمن بالعبارات التى ذكرها، والتى يكررها أمام عيون القراء يومًا بعد يوم وكأنها مقرَّر إعلامى، والمؤكد أيضًا أن ما ذكره للأسف ليس صحيحًا، فالقضية لم تكن يومًا (كقضية سياسية) محل اتفاق عام، والحكومة لم تكن يومًا (صادقةً) حين وعدت بتطبيق الشريعة، وإنما أعلنت ما أعلنت عن يقين بأن كان شىء فى مصر (يُنسى بعد حين)، والأحزاب لم ترفع يومًا من الشعارات ما اقتنعت به، وإنما رفعت ما تُزايد به على الحكومة، ربما عن عدم إدراك لمخاطر التطرُّف الدينى، وربما عن إدراك وسعى فى الوقت ذاته، لأن تحصد الحكومة ما جنت يداها.
إن المثال السابق ليس رأيًا لكاتب أو فقرة من مقال مفكر، ولو كان كذلك ما استحق منى الذكر أو التعليق، وإنما هو «نغمة» سادت الإعلام المصرى وأسلوب أدمنه كبار الكتاب، وعمامة يصرون على وضعها على رأس دافعى الضرائب (أقصد الشعب) وحجرًا ثقيلاً على رأس دافعى المرتبات -مرتباتهم- (أقصد الحكومة).
(ب) الديمقراطية بين السماح والمناخ:
من الصعب أن يقتنع الرأى العام المصرى بخطأ ممارسات التيار السياسى الدينى المتطرّف، طالما ظلت الممارسات الديمقراطية فى مصر على ما هى عليه، وطالما دارت هذه الممارسة، كما تدور الآن فى ساحة السماح الديمقراطى، الذى يأتى من السلطة الحاكمة أو الحزب الحاكم، دون أن يتعدى ذلك إلى مناخ ديمقراطى، يتيح لكل الراغبين فى الممارسة السياسية أن يكون لهم دور وحزب ومنابر إعلامية، بل إن الرأى العام يتعاطف معهم أحيانًا ويميل إلى تبرير مظاهر العنف فى حركتهم، بحجة أنهم لجأوا إلى الأساليب غير الشرعية حين لا يُسمح لهم بالعمل السياسى الشرعى أو بمعنى أكثر تحديدًا ووضوحًا، حيث لم يسمح لهم بتشكيل أحزابهم السياسية.
إن الحجة الوحيدة التى يرفعها المعترضون على السماح للتيارات السياسية الإسلامية بتكوين أحزابهم مضمونها أن ذلك سوف يؤدى إلى تشكيل أحزاب سياسية مسيحية فى المقابل، الأمر الذى سوف ينتهى بمصر إلى وضع مشابه لوضع لبنان، وهذه الحجة مردود عليها بما يلى:
1 - أن السماح بتكوين أحزاب سياسية إسلامية لن يضيف جديدًا إلى الساحة، فالتيار السياسى الإسلامى الذى يقبل بذلك (وهو تيار الإخوان المسلمين) له قواعده وله قيادته ممثلة فى مكتب الإرشاد العام، وله زعيمه ممثلاً فى «عمر التلمسانى» الذى يتولى حاليًا منصب المرشد العام، وأكثر من ذلك له الآن نوابه فى البرلمان، وهم لا يخفون انتماءهم الواضح والصريح لهذا التيار.
2 - أن ظهور أحزاب سياسية إسلامية سوف يؤدى -من ناحية- إلى توقف مزايدة الأحزاب السياسية على الشعارات الدينية، ومن ناحية أخرى سوف يحجّم كثيرًا من مزايدات أئمة المساجد على الشعارات الدينية، لأنهم سوف يصبحون أنصارًا لحزب سياسى فى الساحة، منافس لأحزاب أخرى.
3 - سوف تضطر هذه الأحزاب الجديدة إلى وضع برنامج سياسى يضعون فيه حلولاً لمشكلات المجتمع الحقيقية، مثل الإسكان أو الأسعار أو الدين أو غيرها، وفى هذا مجال واسع للخلاف بينهم والاختلاف عليهم، ليس هذا فقط، بل إن ذلك سوف يفتح المجال للجميع لإمكانية الحوار معهم وتفنيد آرائهم، لأن ساحة النقاش سوف يتم تصحيحها بأن تصبح ساحة سياسية وليس ساحةً دينيةً، وسوف يصبح جميع أطراف هذا الحوار، مجموعة من الساعين للحكم، لا للجنة، والمتقربين للشعب لا لله، والطامحين للسلطة لا للشهادة.
4 - أن التخوُّف من قيام أحزاب دينية مسيحية لا مبرر له لعدة أسباب هى:
(أ) أن التجربة التاريخية أثبتت أن أقباط مصر يتعاطفون دائمًا مع الأحزاب العلمانية عن إدراك حقيقى بأن المستقبل للتعايش، لا للانفصام، والدليل على ذلك تجمّعهم تحت راية «الوفد» وولاؤهم له قبل ثورة 1952، وبقاؤهم على هذا الولاء حتى بعد انفصال أكبر قياداتهم السياسية «مكرم عبيد».
(ب) أن تجربة إقامة حزب مسيحى دينى لها سابقة فى التاريخ المصرى، تمثلت فى حزب مصر الذى أنشأه «أخنوخ فانوس»، ولم ينضم إليه إلا قلة محدودة، وانتهى بعد سنوات فى صمت كما ظهر، دون أن يكون له تأثير على مسار الحياة السياسية فى مصر، ودون أن يؤثر سلبيًا على مناخ الوحدة الوطنية فيها.
إننى أؤكد أن الوضع الحالى المتمثل فى (السماح) الديمقراطى وتحجيم حرية تكون الأحزاب وقصر التجربة الحزبية على ما هو قائم له تأثير سلبى خطير على واقع التطرُّف السياسى الدينى فى مصر، خصوصًا أنه لا يقتصر على تحجيم دور هذا التيار فى الوجود السياسى، بل يمتد أيضًا إلى تحجيم الأحزاب العلمانية، سواء اليسارية منها أو الليبرالية.
(ج) التعصب الدينى:
يجب أن نعترف جميعًا وبصورة واضحة ومعلنة بأن مصر بها قدر من التعصُّب الدينى، وأن هذا القدر موجود لكنه محدود، وأن له من الخصائص ما يتناقض مع المنطق، فهو يزداد مع ارتفاع المستوى التعليمى أو الوظيفى، فيوجد مثلاً فى بعض الأقسام بالجامعات، ويقل كثيرًا فى القرى والمدن الصغيرة، ويطرح الاعتراف بظاهرة التعصُّب إمكانية دراسة أسلوب حل هذه المشكلة، وهل يكون بفرض عقوبات رادعة على من يثبُت أنه قد اتخذ قرارًا من منطلق التعصب أو بالتمثيل النسبى السياسى للأقليات أو غير ذلك من الحلول.
ويبقى الحل
ما سبق كان طرحًا موجزًا للمشكلة (تعريفها - طبيعتها - سلبيات المرحلة الحالية وإيجابياتها)، وهو ما يمكن طرحه للمناقشة العامة بهدف محاولة التوصل إلى حل، وهو موضوع حديث آخر.