رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الدستور» تنشر الأعمال الكاملة للمفكر الشهيد «1».. فرج فودة يكتب: العلمانية هي الحل

فرج فودة
فرج فودة

هذا هو الكتاب الأول لفرج فودة الذى تبدأ "الدستور" فى نشره، وهو تحت عنوان "حوار حول العلمانية".
لنقرأ أولًا تقديم فرج فودة لكتابه المهم:

هذا الكتابُ أعتزُ به كثيرًا، لأنه ينقل إلى القارئ ملامح معارك فكرية استمرت عامين، ربما تفسر للقارئ كثيرًا من القضايا، لكنها تفسر لى شخصيًا سر الشعيرات البيضاء التى تسلّلت إلى الرأس، والصلابة التى تمثّلت فى المواقف، والوضوح الذى تخلّل الفكر، وهى أيضًا ظاهرة إيجابية فى مناخنا الفكرى العام، لأنها تعيد إلى الأذهان ذكرى المعارك الفكرية فى العشرينات والثلاثينات والأربعينات، بعد أن تخيل الكثيرون -وأنا منهم- أنها بعض ملامح الزمن السعيد الذى لا يعود، ولعل الصلة بين هذا الكتاب وكتبى الثلاثة السابقة «الوفد والمستقبل»، و«قبل السقوط»، و«الحقيقة الغائبة»، تتمثل فى أنها جميعًا كتب «مزعجة»، تثير الكثيرين، وتقيم الدنيا ولا تقعدها، وتُلجئنى أحيانًا إلى لعنْ اليوم الذى أمسكت فيه القلم، لولا أنه الواجب، والصدق مع النفس، واليقين فى المستقبل، ولعلى أصارح القارئ بأن هذا الكتاب هو الأثير لدىّ، ليس فقط لكونه الأخير، بل لكونه حصيلة اجتهاد وجهاد وعناد، أما الاجتهاد فالحكم عليه متروك للقراء، وأما الجهاد فلأن أغلب ما نُشر فيه من مقالات كان استجابة لإنذارات قانونية، يعلم من تلقاها أننى على استعداد لإكمال الشوط، مهما كلّفنى من جهد ومال، ومن المناسب أن أصارح القارئ بأننى ترفّعت فى بعض الأحوال عن اللجوء إلى هذا الأسلوب، رغم حقى الواضح فيه، وذلك حين تبيّنت أنه لا يوجد (تحت القبة شيخ)، وهو ما سيُدركه القارئُ فى حوارى مع البعض، ومن أمثلة ذلك حوارى مع الأستاذ فهمى هويدى، الذى تطوّع «الأهرام» بإرسال المقالات الثلاث إليه فأودعها دُرج مكتبه، وحجبها عن النشر، ولو كنت مكانه لفعلت ما فعل، على الأقل تنفيذًا لأمر الله بالستر.
ولا يبقى بعد الاجتهاد والجهاد إلا العناد، وأمره واضح فى إصرارى على الكتابة، رغم رفض النشر لكثير من المقالات، وللقارئ أن يتعجّب معى من سبب عدم النشر، وله أن يُفسر ذلك بمشاعر «التخوُّف»، وحسابات «الأمن»، ودواعى «الحساسية» فى الصحف القومية، وبالتقليد السائد فى غيرها والمتمثل فى الحكمة السائدة «دع مخالفك فى الرأى يضرب رأسه -أقصد رأيه- فى الحائط»، ولو اقتصر الأمر على منْع النشر، سواء للرأى أو للرد، لهان ذلك علينا وما استحق التعليق، لكنه تجاوز إلى معارك صغيرة لم أُشغل بها القارئ فى الكتاب، لأنها ليست «معارك فكرية»، بل «معارك شخصية»، استُخدمت فيها أحط الأساليب، وعلى رأسها أسلوب التشهير، ولم يتحرّج الطرف الآخر فيها من استخدام أقذر الأسلحة وهو الكذب، ومن أمثلة ذلك ما نشرته جريدة «الوفد» ثم جريدة «الأحرار» عن كونى غير حاصل على شهادة الدكتوراه (ولا حتى من جامعة بخ بخ على حد قول جريدة «الوفد»)، بينما صاغتها جريدة «الأحرار» فى شكل (فزورة) تحت عنوان «من هو؟»، من نوع فزورة (مصنوع من الأخشاب، وآخر حرف فيه باء، والحرف الأوسط ألف، وأول حرب باء، واسمه باب، يبقى إيه؟)، والتقطت جريدة «الشعب» الكرة فذكرت اسمى صريحًا، (حاف كده من غير الدال) على حد ما جاء فى الخبر، لأننى فى تقديرها نصّاب أدّعى لقبًا لم أحصل على شهادته، وتكرر ذلك من الجريدة فى أسابيع متتالية مع نشر صورتى، ووجدت نفسى فى موضوع صعب وعصيب، فأنا إن رددت على جريدة «الشعب» بإرسال صورة الشهادة، أكون قد رفعت من شأنها وأعطيتها من الاهتمام ما لا تستحقه، ثم منذ متى كان مطلوبًا من حامل اللقب أن يحمل الشهادة على ظهره، مثبتًا أحقيته باللقب للناس، ثم ما علاقة مواجهتى للتطرّف والإرهاب الدينى السياسى بالحصول على دكتوراه الفلسفة فى الاقتصاد الزراعى، ولم أجد فى نهاية الأمر مفرًا من أن أرد على ذلك فى حديث نُشر فى «آخر ساعة»، نشرت فيه صورة شهادة الدكتوراه، مع حمد الله أنها من جامعة عين شمس (المصرية) حتى لا أُتهم بشرائها من الخارج، ومع ذكر أسماء المشرفين على الرسالة والمناقشين لها وجميعهم على قيد الحياة، وللقارئ أن يتساءل معى عن وصف مناسب لهذا النوع من المعارك، أكثر من كونها ضريبة يدفعها الشرفاء وثمنًا يؤديه المخلصون لله والوطن عن طيب خاطر، ودليلًا على ما وصل إليه المناخ الفكرى من تخلُّف وقصور، وشبيه بهذا ما نشرته الجريدة الأخيرة على مدى أسابيع متتالية من أخبار مختلفة عن تعاون «علمى ومادى وثيق» مع إسرائيل، دون أن يقدّموا بينة أو دليلًا على ما يدّعون لكونه ببساطة -غير صحيح- لكنها الديماجوجية التى تسود مناخنا الثقافى، والتى تتسق تمامًا مع التطرُّف والتخلُّف، وهما مترادفان، ومحاولة استدراج البسطاء بعيدًا عن المعركة الأساسية، عن إحساس بالعجز عن المواجهة، والفشل فى الرد، والقصور فى التصدى وهى فى النهاية، وأمثالها من الترهات، غثاء لا نفع فيه وتطاول لا رد عليه، وتدنٍّ لا نُستدرج إليه، وما دمنا نتحدث عن التدنى فلا بأس من أن أعرض على القارئ نموذجًا له، سوف يجد فى الكتاب ردًا عليه، وهو ما عرضه الشيخ صلاح أبوإسماعيل فى صفحات كاملة، فى أعداد متتالية من جريدة «الأحرار»، حين تخيّل -والخيال حق لأصحابه- أننى أدعو فى كتابى «قبل السقوط» إلى إباحة الزنى، فطلب منى أن «آتى له بزوجتى وأهلى، فإذا فعلت فلا كرامة لى، وإذا لم أفعل، فأنا أنانى»، وبالله عليك أيها القارئ بماذا تُسمى ذلك؟ وبالله عليك أيضًا ماذا تفعل لو كنت مكانى؟ ولا تسألنى عن سبب عرض ما سبق عليك، فجزء من واجبى وأنا أقدم لك هذا الكتاب، أن أوضح لك المناخ الذى صدر فيه، والخلفية وراء ما حفل به من معارك، ولعلك تفزع حين أذكر لك أن ما سبق كان أهون ما فى الأمر، وأن ما خفى كان أسوأ وأمرّ، لكنى أطمئنك، إن كنت مؤيدًا، بأن مثلى لا ينثنى، وأؤكد لك، إن كنت معارضًا، أن مثلى لا ينحنى، وذلك كله لم يزدنى إلا إصرارًا وصلابةً، وعشقًا لوطنى.
لا بأس من اعتذار عن خطأ وقعت فيه، وتردُّد فى بعض المقالات، وقد نبهنى إليه الأستاذ الكبير مصطفى مرعى، حين رددت على هجوم البعض علىّ بأننى أخالف نص مادة من الدستور تنص على أن «الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للقوانين»، مرددًا المقولة نفسها، ومفسرًا إياها أو مُهوِّنا من تأثيرها، بينما حقيقة الأمر أن النص الدستورى لم يذكر «الشريعة الإسلامية»، بل ذكر «مبادئ الشريعة الإسلامية»، والفرق بينهما واسع وشاسع، بل إن النص بهذا الشكل لا يعنى شيئًا يُذكر، ولا تترتب عليه نتائج ذات تأثير، ولا يبرر الاستناد إليه فى الدعوة إلى تغيير القوانين الحالية، لأنها جميعًا لا تخالف «المبادئ»، التى لا يغير من جوهر الأمر كثيرًا أو قليلًا أن تكون مصدرًا رئيسيًّا، أو المصدر الرئيسى، أو حتى المصدر الوحيد، كما ينادى البعض ويتشدق، عن مزايدة ربما، أو عن عاطفة دينية مشبوبة غالبًا، أو عن جهل بالقانون أو بالشريعة أو بهما معًا. لأن ما نُشر قد نُشر وأصبح من حق القراء علىّ أن أنقله كما هو دون تغيير، فإنه يكفينى الإشارة إلى ذلك فى المقدمة مع الاعتذار.
وأخيرًا..
هى غمة ستنزاح..
وهو مأزق تاريخى سوف نعبره بإذن الله..
وهى ردّة حضارية سوف نتجاوزها دون شك..
وهو اختبار لشجاعة الشرفاء وانتهازية الجبناء..
وهو قدر البعض أن يتحدى الجميع..
من أجل الجميع..
وهكذا كان..
وهكذا -فى تقديرى- ما يجب أن يكون.
مصر الجديدة - 14 ديسمبر 1986.


عندما رشّح أستاذ الجيل، أحمد لطفى السيد، نفسه لعضوية البرلمان، تفتّق ذهن منافسه عن حيلة طريفة، فقد أخذ يجوب القرى والكفور معلنًا أن أحمد لطفى السيد -والعياذ بالله- ديمقراطى.
ولأن الجهل بهذه المصطلحات كان سائدًا، فقد أخذ المستمعون يردّدون وراءه عبارات من نوع «أعوذ بالله، أستغفر الله»، بينما انبرى أنصار «لطفى السيد» لإنكار الأمر، مؤكدين أنه من أسرة مؤمنة لم يُعرف عنها خروج على العقيدة أو انحراف عن الملة.
وكان موقف المدافعين عن «لطفى السيد» عصبيًّا وضعيفًا أمام عبارات المنافس الحاسمة: «لقد سمعته بأذنى يردِّد ذلك، وأقسم بالله أننى لو سمعت هذا من غيره عنه لأنكرته، وهأنذا أعرض الأمرَ عليكم، فإن كنتم تريدون ترك الإسلام واعتناق الديمقراطية فانتخبوه، هذا شأنكم وقد أبلغت، اللهم فاشهد».
حدث هذا قبل أيام من عقْد أحمد لطفى السيد مؤتمرًا شعبيًا فى الدائرة، ولغيابه فى القاهرة، فإن شيئًا من حديث المنافس لم يصل إليه، وفى الموعد الموعود، احتشدت الجموع، واختصر أحمد لطفى السيد حديثه، معلنًا ترحيبه بتلقى الأسئلة، التى دارت جميعها حول مضمون واحد هو: هل صحيح ما هو شائع عن أنك ديمقراطى؟
وبهدوء العلماء، ووقار الأساتذة، رد أحمد لطفى السيد: نعم، أنا ديمقراطى، وسأظل مؤمنًا بالديمقراطية حتى النهاية.
وبقية القصة معروفة، وضحايا القصة معروفون، بل إن شئت الدقة معروفان، فقد كانا بالتحديد: السرادق الذى احترق، وتأمين الترشيح الذى لم يُسترد.
حدث هذا فى العشرينات من هذا القرن، وأصبح نادرة من نوادر الحياة السياسية فى مصر، خصوصًا بعد أن أصبحت الديمقراطية مطلبًا شعبيًا، ودخل أحمد لطفى السيد تاريخ السياسة المصرية من باب الديمقراطية الواسع، بينما أهمل التاريخ منافسه أو ذكره، وإن أدخله أيضًا فى باب من أبوابه، هو باب النوادر السياسية.
شبيهٌ بهذا ما يدور اليوم من حوار حول العلمانية، وما يطلقه أنصار التيار السياسى الدينى حولها من أوصاف وصفات، فهى -والعياذ بالله- نبت شيطانى وافد، ومفهوم إلحادى دخيل، وتأثير مقصود من الإمبريالية أو الصهيونية أو كليهما معا، وكفر -ضمنى- عند المعتدلين، وصريح عند غيرهم، بل قل هى إفساد فى الأرض عند الطرف الأول وردّة لا شُبهة فيها عند الطرف الثانى، لا علاج لها إلا بالقتل بعد الاستتابة، أو أقل القليل بالقطع من خلاف أو الصلب، وفى المقابل تراجع الساسة عن اللفظ أو التمسُّك به، وفضّل أنصار العلمانية -أو من توقع الجميع أن يكونوا أنصارًا لها- أن يُمسكوا العصا من المنتصف، بعد أن جعلوا أحد طرفيها علمانيًا ورفضوه، ووصفوا الطرف الآخر بالثيوقراطية (أى حكم رجال الدين) ورفضوه، وفضّلوا أن يقفوا بين بين، أما كنه هذا البين، فهو شىء غامض، تمامًا مثل شربة (الحاج محمود)، التى يعلن عنها حلاقو الصحة فى الأرياف، مؤكدين بالأيمان الموثقة أنها مزيلة للدود، مانعة للأمراض، مورّدة للخدود، وإذا أردت دليلًا على مدى تراجع المناخ الفكرى فى مصر، فدونك حزب الوفد الجديد، ولك أن تقارن بين ما أعلنه مصطفى النحاس من رفضه الدولة الدينية أو العسكرية، ودعوته إلى الدولة العلمانية، وهو إعلان ثابت بشهادة مكتوبة لا يمكن إنكارها، لأنها أتت من سكرتير عام حزب الوفد الجديد، وهو نفسه من عُرف باسم (ابن النحاس)، حيث كان مديرًا لمكتبه ثم وزيرًا فى وزارته (1)، وبين بيان الوفد الجديد الذى أصدره بعد أكثر من ثلاثين عامًا حين ادلهم المناخ، وحين عادت إلى ذاكرة قادته صورة أحمد لطفى السيد وسرادقه وتأمينه، وحين أرادوا أن يدخلوا التاريخ من باب جديد، هو باب خفة الرأى، وهى لا تختلف كثيرًا عن خفة اليد، غاية ما فى الأمر، أن المنتشل مختلف، فهو صوت لدى أصحاب الرأى الخفيف، ونقود لدى أصحاب الأيدى الخفيفة.
ما علينا، أو قل علينا أن نتجرع مرارة الزمن الردىء وأن نتأسى بأحمد لطفى السيد، على بُعد الشقة بيننا وبينه، ونحن نجد أقوامًا يُخيّرون الشعب بين الإسلام والعلمانية، وكأنهما طرفا نقيض أو كأن المسلم لا يكون علمانيًا، وأن العلمانى ليس مسلمًا.
موقف مشابه فى رد فعله، وسوف يكون مشابهًا فى فعله بعد زمن، فللتاريخ حركته وإيقاعه، وحركته لا تعود القهقرى أبدًا، وإيقاعه لا يمت للجهل بصلة، ولا للرّدة الحضارية بسبب، ولا لتغييب العقل بوسيلة.
قد يرى القارئ أننى مبالغ فى التشبيه، أو متحيّز فى ضرب الأمثلة، وعذره أننا فى الثمانينات، وبين الثمانينات والعشرينات أكثر من نصف القرن، وهى فترة كفيلة بمزيد من تنوير العقل، وتفتيح الأذهان، وتوسع المدارك، وهذا كله صحيح لولا -وآهٍ من (لولا) هذه- أن الديمقراطية هى اللفظ الوحيد الذى يتفق عليه الجميع، ويختلف حوله الجميع أيضًا، شأنها فى ذلك شأن العلمانية، فأنت تستطيع أن تذكر، دون أن يُنكر عليك أحد ذلك، أن كل نظام فى العالم يدّعى أنه نموذج الديمقراطية الصحيحة، ويصل به التأكيد أحيانًا لأن يضمنها اسم الدولة فألمانيا الشرقية نفسها ألمانيا الديمقراطية وألمانيا الغربية تطبّق ما يُطلق عليه اسم ديمقراطية العالم الحر، وليبيا تطبّق ما تسميه الديمقراطية الشعبية أو المباشرة، وفى كل الأحوال تجد نفسك أمام مأزق لا ينجيك منه أن تعود إلى دوائر المعارف أو حوادث التاريخ، بقدر ما ينجيك أن تسلم بحقيقتين، أولاهما أن اللفظ لا بد أن يرتبط بمفهوم أو تعريف، وأن من يتحدث عن الديمقراطية لا بد أن يُحدد ما يقصده بها، وأنه مسئول فقط عن مفهومه أو تعريفه، وثانيتهما أن لكل دولة فى العالم ظروفها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتاريخية، التى تفرز مفهومًا للديمقراطية، لا بد أن يختلف عن مفهومها فى دول أخرى، فالممارسة الديمقراطية والحزبية فى الولايات المتحدة الأمريكية مثلًا، تختلف جملة وتفصيلًا عن نظيرتها فى المملكة المتحدة، رغم انتماء كل من الدولتين إلى مجموعة العالم الحر.
هذا عن الديمقراطية، وهو ما ينطبق جملةً وتفصيلًا على العلمانية.
فالعلمانية فى فرنسا تختلف عنها فى المملكة المتحدة، فعلى حين تنفصل الدولة عن الدين بصورة كاملة فى فرنسا، فإن رأس الدولة هو نفسه رأس الكنيسة، ممثلًا فى الملك فى المملكة المتحدة، وهو فرق، إن كان شكليًا إلا أنه فرق، والمؤكد أن العلمانية فى مصر تختلف عنهما، فهى تعنى فى مصر الفصل بين الدين والسياسة، لكنها لا تعنى الفصل بين الدين والدولة، حيث توجد مساحة لتداخلهما، وقد استقر ذلك وارتقى إلى مرتبة العُرف، فالدولة ترعى المؤسسات الدينية، وتختار قياداتها، وتحتفل بصورة رسمية بالأعياد والمناسبات الدينية، وتفرد للدين مساحةً واسعةً فى وسائلها الإعلامية وفى مؤسساتها التعليمية، لكن ذلك كله يتم فى إطار محدّد ومحدود، لا يخرج بمصر عن العلمانية ولا يُدخلها فى إطار الدولة الدينية.
إن أنصار العلمانية يرونها فصلًا بين الدين والدولة، إما بقدر شامل وكامل، وإما بقدر محدود يقصر الفصل على أمور السياسة وشئون الحكم، وفى المقابل يرى أعداؤها أن الفصل مستحيل، وأن الخلط فريضةٌ دينيةٌ، وأن الإسلام دين ودولة، وأن من يقبل بالدين ويرفض الدولة، إنما يُنكر معلومًا من الدين بالضرورة، ويقصدون بالمعلوم من الدين، تنظيمه -فى زعمهم- أمور الحكم وشئون السياسة، وهم فى ادعائهم لا يقيمون الحجة ولا يُفحمون، بل هم فى كل وادٍ يهيمون، فهم يحيلونك إلى «القرآن»، فإن ذكرت أنه لا ينطق بلسان، وأنه لم يتناول أسلوب اختيار الحاكم أو طبيعة نظام الحكم ببيان، أحالوك إلى «الشورى»، فإن سألت عن كنهها فى تفسيرهم، وعن مدى إلزامها للحاكم، اختلفوا إلا عليك، وتنازعوا إلا حول تكفيرك، وأحالوك إلى «السُّنة»، فإن ذكرت أن عهد الرسول، عليه أفضل الصلاة والسلام، مرتبط به، وأنه لا يقوم حجة على اللاحقين، فإن ناقشت أو جادلت أو حلَّلت، هاجوا وماجوا وادعوا أنك دخلت المناطق المحرّمة، فإن واجهتهم بالمنطق، تمنطقوا بإلغاء العقل، وإن واجهتهم بأخطاء الصحابة، استعاذ البعض، وأعلن البعض الآخر أن أخطاء المسلمين ليست حُجة على الإسلام، وهو قول مقبول، لكن من قال إننا نتعرّض للإسلام؟! الإسلام فى القلب والعقل معًا، لكنا نحتج على دعوتهم للحكم بالإسلام، وهو شىء جد مختلف، لأن الإسلام فى رأينا دين وليس دولةً (بمعنى ومبنى الدولة الحديث)، وضمير وليس سيفًا (بمعنى السيف القديم)، وعندما يأتينا المعترض علينا بالإسلام دينًا فليس لنا إلا أن نخشع، وليس علينا إلا أن نخضع للدين، وليس له، وللعقيدة، وليس للمتحدث باسمها، أما عندما يأتينا بدعوى الحكم بالإسلام، فليس لنا حتى أن نسأله مثالًا، فهو لا يتحدث من فراغ، ونحن لا نرد عليه من فراغ، وشاهدنا عليه هو التجربة، وما أظن أن أكثر من ألف عام تقصر عن تقديم تجربة أو تعجز عن تبيان نموذج.
ليس لهم إذن أن يخرجوا علينا من جديد بالدعوة إلى الدولة الدينية، مسبلين العينين، مجتزئين التاريخ، مبتسرين الوقائع، مزورين الأحداث، هاتفين أمام حقائق التاريخ بأنها إسرائيليات، وأمام دعاوى المنطق بأنها تغلغُّل للصهيونية، وأمام قوة الحجة برفع سيف التكفير، ليس لهم، ولا يعنينا، ولا يهز من إيماننا شعرة بأنهم على خطأ، أو قل على طمع، وأننا على حق أو قل يقين، وما كان لنا أن نلتفت إليهم، لولا، (وآه من لولا هذه).
ليست شجاعة أن نقول ما نقول، لكنه الواجب، وليس اجتراءً أن نذكر ما نذكر، لكنه الحق، وليس افتراءً أن نُنكر ما نُنكر، لكنه الصدق، وحسبنا أننا لا نرعى للوطن حقًا، ونحفظ لأجيال المستقبل أملًا، ونتحسّر ونحن لا نرى العالم يلهث ركضًا للأمام، بينما البعض يهرب إلى شعاب الجبال، ويرى الصاروخ، فيتحسر على الناقة، ولا يرى فى حضارة الغرب إلا شذوذًا ودعارة، ومجونًا وخلاعة، وفسقًا وزنى، وهو فى تكراره لهذه الألفاظ يُلفت أنظارنا إلى ما يهتم به، ويدغدغ حواسه، ويملأ عليه نهاره أحلام يقظة.
عذرًا إذا اشتطت العبارة، فمأساتنا أننا مختلفون بما فيه الكفاية، محبطون إلى أقصى المدى، مشدودون إلى الخلف حتى إننى أحسب أن الأمام لم يُخلق لنا وخُلق للغير، وأن المستقبل احتكار للآخرين، وأن الأمل عملة صعبة محظورة التداول، وكثيرًا ما أسأل نفسى لماذا؟ وأحسب أننى أملك إجابة تحتمل كثيرًا من الصواب، وتتلخص فى أننا نقلنا عن الغير ولم ندفع الثمن، فلكل شىء ثمنه، للديمقراطية ثمنها، وللعلمانية ثمنها، وللحضارة ثمنها، ولحقوق الإنسان ثمنها، وقد دفع العالم المتحضر ثمن ذلك كله من دماء أبنائه، ووصل إلى ما وصل إليه عابرًا بحورًا من دم، وسائرًا فوق أجساد الآلاف من الضحايا، ولهذا يعضُّ على ذلك كله بالنواجذ، ويتمسك به تمسُّك من حصل على الشىء بجهده وجده، وعرقه ودمه، بينما تلقينا نحن كل ما سبق دون جهد، نقله الرواد إلينا، فعزّ علينا أن نتمسّك به، وصعب أن ندفع عنه، وما همنا فى كثير أو قليل أن نفقد جزءًا منه أو كلًا، وأجزم أننا سوف ندفع الثمن عن قريب، إلا إذا استيقظ كل صاحب ضمير حر، وكل مخلص لوطنه، حريص على تقدُّمه وأعلن بأعلى صوته لا، لا للدولة الدينية، ولا لإنكار العلمانية، ولا لخلط أوراق السياسة والدين، كلها مترادفات.
يقولون «كفر»، حبًا وكرامة، فمن هم حتى يحكموا بالتكفير، وحتى يخرجوا قومًا من دين آمنوا به، وأخلصوا له فى سرائرهم، ولم يروا فيه إلا حبًا وتسامحًا، وأنكروا أن يروا سيوفًا مشهورة، وأكفانًا منشورة، وقبورًا محفورة؟
لهم عقول ولنا عقول، ولهم ماضٍ يهربون إليه، ونهرب نحن منه، ولهم مستقبل يهربون منه، ونسعى نحن إليه، وليس بيننا وبينهم إلا وطن نحلم به متماسكًا ويحلمون به ممزقًا، بل ينكرون حتى وجوده، وما كان لهم أن ينكروا لولا -وآهٍ من (لولا) هذه.. آهٍ من (لولا) هذه.. لأنها تفتح علينا بابًا من أبواب الهم يصعب إغلاقه ويسهل الاندهاش أمامه للوهلة الأولى، حين نردف خلف (لولا)- هزيمة الخامس من يونيو عام 1967، ولا عجب ولا اندهاش ولا إقحام فى ذكر هذه الواقعة أو الفجيعة أو المأساة، فهى ليست منبتة الصلة بالموضوع، بل هى صلبه ولحمته وسداه، فهى لم تكن أبدًا هزيمةً لجيش، ولا لنظام، ولا لشعب، بل كانت هزيمةً لأمل عظيم، فى اقتحام معترك التقدم، وتحطيمًا لقيادة وثق بها الشعب كل الوثوق، وتنازل لها طائعًا عن كثير من الحقوق، لقاء حلم بالحضارة، ووعد بلقاء مع القدر، وتحدٍّ للشرق والغرب معًا، وعناق بالأحضان للمصانع والمزارع والأوبرا والذّرَّة والفضاء، ولأن وجدان الشعب لا ينسى ولا يتأسى، ولأن مرارة الهزائم العظمى لا تُختزل ولا تُمحى، فقد احتاج الأمر إلى عقد كامل، حتى يتمثل الشعب الهزيمة، وحتى يستوعب أبعادها، وحتى يفرزها آخر الأمر فيما نراه من تعامل مع الحضارة بإحساس المنهزم، ومع التقدم بمشاعر المتخلف، ومع العلم بقدرة العاجز، ومع الفضاء بمنطق القاهر والظافر، ومع الأوبرا بمنطق «عدوية»، ومع العقل بمنطق الازدراء، ومع العنف بشهوة الاشتهاء، ومع النصر بإرجاعه إلى الملائكة، ومع نظام الحكم بالدعوة إلى عودة الخلافة، ومع الإخوة الأقباط بالدعوة إلى فرض الجزية، ومع أنفسنا بالجرى خلفًا، فإذا كنا لا نلاحق «آينشتاين»، فلنلحق بـ«ابن حيان»، وإذا كنا عاجزين عن فهم «فولتير»، فلنمسك بتلابيب «ابن تميمة»، وإذا كنا مرتعشين أمام الصاروخ فلنتماسك أمام السيف، ومن لنا بقائد مثل «الوليد»، وحاكم مثل «الرشيد»، وسيّاف مثل «مسرور» وجارية مثل «شهرزاد»، تُبدِّل واقعنا حلمًا، وتملأ رؤوسنا بأقاصيص الرُّخ والساحرة والسندباد، وتمسح عن أذهاننا أفانين الحضارة، وعُقد العلم والعلماء، فإذا هى ملساء كالدمشق، بيضاء من غير سوء، لا تقدر -مثل شهرزاد- على مواجهة الصباح، ولا تستطيع أن تشارك العصر فى مقولاته فتسكت عن الكلام المباح.
نحن إذن أمام استثناء من القاعدة، لا يجوز أن يُقاس عليه، وأمام مبرر قوى لنا ما نراه ونستنكره، وأمام انعطافة للتاريخ لا أحسب أنها جزء من مساره الصحيح، ولا أشك أنها إلى انتهاء.
ولا عجب إذن، إذا حلمنا من جديد بسعد زغلول رسولًا للوحدة الوطنية، وبقاسم أمين محررًا للمرأة، وبمصطفى كامل باعثًا للمصرية، وبطلعت حرب منقذًا للاقتصاد، وبمحمد عبده إمامًا من أئمة الاجتهاد، وبمحمد فريد عَلمًا من أعلام الجهاد.
ولا غرابة إذن، إذا أتى الاجتهاد المعاصر على يد «حافظ سلامة» والجهاد المعاصر على يد «عمر عبدالرحمن»، والاقتصاد المعاصر على يد تجار العملة، والسياسة المعاصرة على يد «الصباحى»، وتحرير المرأة العصرية على يد «صافيناز كاظم»..
لا دهشة ولا عجب ولا غرابة..
الغريب أن نندهش..
والصحيح أن نتعجب..
والصحيح أن نتأمل..
يهتف «حافظ سلامة»: «وا مسيراه»..
ويهتف «عمر عبدالرحمن»: «وا جهاداه».
ويهتف «الصباحى»: «وا دعماه».
وتهتف «صافيناز»: «وا حجاباه».
ويطيل ثلاثة من رؤساء الأحزاب لُحاهم تحسُّبًا وشفاعة مذكرين إيانا بقول الشاعر:
ألا ليت اللحى كانت حشيشا
فنعلفها خيول المسلمينا
ونحن جميعًا مبتسمون صامتون، لاهون، كأن هذا يحدث فى وادٍ غير الوادى، وبلاد غير البلاد، ولعباد غير العباد، وكأن الهتاف ليس موجهًا إلى شعب يجهل الماضى، وكأن المسيرات موجّهة إلى شعب يطحنه الحاضر، وكأن اللحى ليست للمزايدة على شعب يؤرقه المستقبل، لا يكلف الواحد منا نفسه عناء الرد، متصورًا أن الصمت كافٍ، بينما الصمت إحدى الراحتين، الموت أو الانتحار.
يتنادى شباب الجماعات الإسلامية بهدم نظام الدولة بالعنف، لأنه فى رأيهم فساد وإفساد، وجهل وجاهلية وكفر وإلحاد، ويبتسم المعارضون للنظام، مرددين فى دواخلهم: «دعوهم يلقنون النظام درسًا، ويا حبذا لو أسقطوه»، ويبتسم المؤيدون للنظام، مرددين فى كبرياء: «هذا شباب طائش لا يعرف حقيقة الإيمان، ونحن قادرون على إقناعه بفلان وفلان»، ويتناسى المعارضون أن السفينة إن غرقت فبالجميع، ويتجاهل المؤيدون أن الكلمة لا تصمد أمام الخنجر، وأن فلانًا محسوب على جهاز الدولة ذاته، وهكذا ندور، ونحن جميعًا نبتسم، فى حلقة مفرغة، نواجه الجهل بالصمت فيبدأ التخلُّف، الذى نواجهه بالتشرذم، فيبدأ العنف، الذى نواجهه بالتراجع، فيزداد الجهل ويتزايد التخلف ويتضخّم التجمّع ويتصاعد العنف..
ولا حل إلا بكسر أحد جوانب الحلقة..
ولا صمت أمام الجهل..
ولا سلبية أمام التخلف..
ولا تشرذم أمام التجمع..
ولا تراجع أمام العنف.
وأحد الجوانب المفزعة هو أن تتعرض له، وأقصد الجهل..
فإنكار العلمانية جهل بالحضارة الحديثة..
وإطلاق صفة الكفر على العلمانية جهل بالعلمانية..
والدعوة إلى الدولة الدينية جهل بحقوق الإنسان..
والمناداة بعودة الخلافة الإسلامية جهل بالتاريخ..
والحكم على الدولة التى نعيشها، وهى دولة علمانية المبنى والنظام، وبمفاهيم الدولة الدينية جهل بالواقع، وادعاء أن الدولة الدينية سوف تكون مدخلنا إلى التسامح الدينى، لأن صاحب الدين يراه حقًا مطلقًا، ويرى المخالفين لعقيدته على باطل مطلق، ويرى فى استمالتهم، إلى دينه -إن أمكن- واجبًا مقدسًا، فإن قهرهم على اعتناق عقيدته يحفل بالدرجة نفسها من القداسة.
إن التسامح الدينى، وهذه حقيقة قد تُفزع البعض، مفهوم حضارى أكثر منه مفهومًا دينيًا، فالتوراة ترى فى اليهود شعب الله المختار، والإنجيل حافل بلوم اليهود وتوبيخهم وتقريعهم، والقرآن صريح فى اتهام ممن يزعمون أن المسيح ابن الله أو الله أو أن الله ثالث ثلاثة، بالكفر الصريح، وحين تصبح الدولة دينية، فإنها بسلطانها، لا تتسامح أبدًا مع الكفرة إلا فى ظروف النشأة والفتح، تحسُّبًا لردود فعل الأغلبية، وليس لنا أن نذهب بعيدًا إلى التاريخ، أو إلى صفحات كتب الفقه، التى أفردت مساحات واسعة، لما سمته بالشروط المستحبة فى معاملة أهل الذمة، وهى شروط لا أعرف لما مصدرًا، ولا أعرف لحبها سندًا، غير أنها على تخلفها وعلى مجافاتها لروح الإسلام السمح، بل لروح أى دين، لم تغب عن وجدان شبابنا الغض المجاهد بعقيدته (القابض على جمر دينه) الممتلئة صحف المعارضة بالدفاع عنه، والمزايدة عليه، ودون ما كتبه أحد هؤلاء المجاهدين المجتهدين فى كتاب أصدرته دار «الزهراء للإعلام العربى» (1) حيث ذكر ما نصه «وتكلم كثير من أهل الفقه عن شروط أخرى (مستحبة) تضاف إلى هذه الشروط (المستحقة) منها: لبس الغيار، وهى الملابس ذات اللون المخالف للون ملابس المسلمين لتمييزهم عنهم، ومنها كذلك ألا تعلو أصوات نواقيسهم وتلاوة كتبهم، وألا تعلو أبنيتهم فوق أبنية المسلمين، وألا يجاهروا بشرب الخمر أو يظهروا صلبانهم وخنازيرهم، وأن يخفوا دفن موتاهم ولا يجاهروا بندب عليهم ولا نياحة، وأن يُمنعوا من ركوب الخيل» (2).
ويذكر الكاتب بعد أن هذه الشروط ليست بملزمة للمسلمين لأنه لم يجد على إلزامها دليلًا من الكتاب أو دليلًا من السنة، لكنه لا يلبث أن يستدرك قائلًا: «وإن كنا لا نجد فيهما (أى فى الكتاب والسنة) دليلًا على منع أو تحريم»، ولا بأس أن أنقل للقارئ بعضًا من آراء ذلك المجتهد، الذى نشر كتابه، كما ذكرنا عام 1986، حتى يتبين القارئ إلى أى مدى يصل التعصُّب بأصحابه، والاجتهاد المعاصر بأقطابه ممن يسمون أنفسهم بالإسلاميين، اقرأوا معى (3) «أصبح من شعارات القوة المقدسة أن (الدين لله والوطن للجميع)، وهو الشعار الذى يصفه أحد الصحفيين بأنه (صار جزءًا من مكونات الشخصية المصرية الحديثة).
وهو شعار ساذج ينطق مع قائله بغياب وعيه كلية بقضية الإسلام، فضلًا عن غياب علمه بحقائقه الأولية (4)، ففى (دولة الإسلام) -أيًا كان اسمها- ينقسم الناس إلى قسمين: المسلمين وغير المسلمين، فأما المسلمون فهم أصحاب الدولة والسلطان والقائمون على الناس بالقسط، وأما غيرهم فهم أهل عهد وذمة إذا رضوا، فلهم عهدهم وعلى المسلمين برهم وهم تحت السلطان، وإن لم يرضوا فهم أهل حرب وعدوان».
هل هناك دليل أبلغ على ذلك القدر من التفرقة العنصرية التى يدعو إليها فى دولة (دولة الإسلام)، تلك التى تعطى المسلمين وحدهم الحق فى أن يكونوا أصحاب الدولة والسلطان والقائمين على أمر الناس، بل إننى أدعو القارئ إلى تأمل المزيد من آراء الكاتب حين يقول (1): «ولذلك يحلو للأقلية النصرانية فى مصر أن تتحدث كثيرًا عن (الوحدة الوطنية)، فهم فى ظلها والمسلمون سواء، فلا جزية يعطونها عن يد وهم صاغرون، ولا إحساس بالدينونة لحكم المؤمنين، وأما فى ظل دولة الإسلام -أيًا كان اسمها- فلا مفر من الجزية، ولا مشاركة فى الحكم، ولا اعتماد عليهم فى دفع أو جهاد، وإنما هم دومًا فى حالة ينبغى أن تُشعرهم بقوة الإسلام، وعظمته وسُموه، وبره، وخيره، وكرمه، وسماحته، أى فى حالة تدفعهم -على الجملة- للدخول فيه اختيارًا» (2). ولعلى أُسائل نفسى كما يسأل القارئ المستنير نفسه، أيُعقل هذا؟، أيعيش هذا الكاتب فى القرن العشرين؟ ودعك من إمكانية أن يحدث بعض ما أشار إليه، فدونه الثقافة التى يسمونها الغزو الفكرى مداراة للعجز، وقصورًا عن تجاوز الأغانى للأصفهانى عند القلة المثقّفة منهم، ورجوع الشيخ إلى صباه عند الكثرة، ودونه حقوق الإنسان التى تقف حجر عثرة أمام خيالاتهم المريضة.
ما سبق واضح كل الوضوح، ومضمونه أن الدولة الدينية سوف تكون مدخلًا إلى تمزيق الوطن الواحد، وبمعنى أدق، إلى وضع داخلى تصبح فيه الفتنة الطائفية حلمًا، بالمقارنة بما يمكن أن يحدث إذا سيطر أنصار الدولة الدينية على الحكم فى مصر، فى ظل مناخ يعبث به أمثال هذا المتحضر، المتنور، السمح، ولا حل إلا بالعلمانية، تلك التى يصبح فيها أنصار مثل هذا الفكر جزءًا من كيان المجتمع الفكرى، يعرض فكره بدلًا من فرضه، ويدفع عن منهجه بدلًا من دفع الشعب إلى تبنّيه، ويواجه الآخرين بدلًا من توجيههم، ويُفكر كما يحلو له دون أن يملك تكفير الآخرين، وحتى إن كفّرهم ففى قاعات محاضراته، وفى حدود منتدياته، وبينه وبين نفسه دون أن يملك فرض رأى بالقسر وإلا تعرّض لسيف القانون، أو أن يلجأ للعنف إلا واجهته الشرعية بعزله عن المجتمع، حرصًا على النظام العام، وأسوأ ما يحدث فى مواجهة هذا التيار، أن تكون الدولة علمانية وتسلك سلوك الدولة الدينية خوفًا أو تحسُّبًا أو عجزًا، فتتغافل عن سطو القلة على المتنزهات العامة تحت شعار تحويلها إلى مساجد خوفًا من أن تُتهم فى دينها أو فى عقيدتها، وتتسامح أمام السلاح الأبيض وغير الأبيض خوفًا من أن يصفها البعض بأنها تحارب «الإسلاميين»، وتتصدى للدفاع عن آرائها، مستخدمة رجال الدين (الرسميين)، وموثقة لدفاعها بالأسانيد الفقهية وليس بنصوص الدستور أو صحيح القانون أو واضح المصلحة.
إن (الأذكياء) الذين دفعوا برجال الدين إلى الفتوى بأن المشاركة فى انتخابات مجلس الشورى واجب دينى، وأن التقاعس عن تلك المشاركة مخالفة لجوهر ما يدفع إليه الإسلام، مخطئون أشد الخطأ، لأنهم يعطون لتيارات التطرُّف حجة دامغة فى الدفاع عن آرائهم، فالدين هو الحكم إذن وليس الدستور والقانون، والعباقرة الذين تصدُّوا للدفاع عن معاهدة السلام بنصوص القرآن وصحيح السنة، مخطئون ومورّطون لمن دفع بهم، وسعد بهم، وغرق بهم، حين أعطى للمناهضين له سلاحًا يتحاورون به، ويجدون فيه ويستندون إليه، وأقصد القرآن والسنة، ففى الدين متسع دائمًا لأقصى التطرُّف، تمامًا كما أن فيه متسعًا لأقصى التسامح، وارجعوا إلى قول الإمام علىّ بن أبى طالب: «وأن الإسلام حمّال أوجه»، وعودوا إلى وقائع التاريخ وتذكروا وجهًا من وجوه الإسلام، كان وراء ظهور الخوارج واستبسالهم فى القتال وقتلهم لعلىّ بن أبى طالب نفسه.
الأمثلة كثيرة وعديدة، والتناقض واضح ومرفوض، فأنت فى الدولة العلمانية تقبل وترفض انطلاقًا من دفاعك عن المصلحة العامة وفهمك لها، وبمقياس واحد يلزمك وتلتزم به وهو الدستور والقانون، وإذا كان فيهما عجز أو قصور، فعليك أن تتلافاه بالتعديل، أما أن تهملهما، وتدافع عن قراراتك مستندًا إلى ما تعتقد أنه صحيح الدين أو سليم الاجتهاد، فأنت بهذا تعطى الآخرين سلاحًا يطعنونك به، لأنك استعرت سلاحهم، وأعطيتهم المجال لتبرير ما يفعلون، وإنكار ما تفعل، وإهدار دمك لأنك لن تستطيع مع تطرُّفهم صبرًا، ولا مع انغلاقهم مواجهةً، وسوف يخرج عليك، كما حدث فى إحدى صحف المعارضة، من يستنكر أن رئيس الدولة لا يؤم المصريين فى صلاة الجمعة (*)، وأنه إن كان صحيح الإسلام حقًا، ومؤديًا للفرائض فعلًا، فليؤدها أمام المسلمين وإمامًا لهم، وقد يكون منطقًا مقبولًا عندما تصبح الدولة دينية بالفعل، أما فى ظل الإطار الحالى للحكم، فنحن لم ننتخب الرئيس لكونه أكثرنا إيمانًا، أو لعلمنا بأنه أكثرنا تفقهًا فى الدين، أو إسباغًا للوضوء، أو تأدية للفرائض، بل لأننا رأينا أنه أكثرنا -من وجهة نظرنا- قدرة على الدفاع عن الدستور والالتزام به، والحفاظ على القانون، والإلزام به، وهذا هو المقياس الذى نحاسبه عليه، ولا مقياس غيره.
الوضوح هنا مطلوب، وإن كان قاسيًا على البعض ممن تُرهبه الألسنة المشرعة، واتهامات الكفر المقذعة وتشنجات العنف المفزعة، وهى كلها لا تزيد على كونها ظواهر أمراض نفسية إن أسأنا الظن، أو ملامح تخلّف فكرى وثقافى إن أحسنّاه.
ولعلى قبل أن أنتقل إلى نقطة تالية، مُطالب بأن أتوقف قليلًا لكى أجيب عن سؤال لا بد أنه قد خطر على بال القارئ وهو يقرأ ما كتبت فى الصفحات السابقة، حيث يتساءل عن سر حماسى فى الدفاع عن العلمانية، والذود عن الوحدة الوطنية، رغم أن أصحاب الرأى من المسلمين والأقباط يتعمّدون دائمًا عدم الخوض فى هذه القضية، لأنها شائكة فى تقديرهم، وحساسة فى رأى الجميع.
أما الحماس فلا أنكره، وأما السر وراءه فهو حبى لمصر وخوفى عليها، وإدراكى أنها لا تعرف مسلمين أو أقباطًا، وإنما تعرف المصريين، والمصريين فقط، ويقينى بأن كونى مسلمًا لا يعطينى ميزة عن الأقباط، بمقياس الوطنية إلا فى جانب واحد هو أننى أقدر منهم على التعبير عن قضية الوحدة الوطنية، وعلىَّ قول ما أوقن أنه فى صدورهم وما يودون قوله، حفاظًا على الوحدة الوطنية أيضًا وإيمانى بأن أقصر السبل إلى حل المشكلات هو المواجهة، والوضوح، وقد تكون المواجهة قاسيةً لكنها أرحم من الهروب، وقد يكون الوضوح مؤلمًا، لكنه أقل ضررًا من التجاهل، وأحسب أن من قرأوا ما كتبت بأعينهم، وأنكروه بأصغريهم (قلبهم ولسانهم)، يستحضرون الآن ردًا جاهزًا على ما ذكرت من أقوال، وما استخلصت من نتائج، مضمونه أنه ليس هكذا الإسلام، وتتداعى إلى أذهانهم آيات وأحاديث تدعو إلى حُسن معاملة أهل الكتاب، والنهى عن أذاهم، وما كان لمثلى أن يُنكر ذلك أو يتجاهله، وما كان لهم فى المقابل أن ينكروا أننا لا نعرف الإسلام فى الدولة الدينية إلا على يد المسلمين، وأننا نؤمن معهم بأن الإسلام كان آخر الرسالات، وأن محمدًا كان آخر الرسل، وأن من أتى بعده كان بشرًا، وأن ما فعله البشر بمخالفيهم فى العقيدة كان ما تصوروا أنه حكم الله فى الأمر، وأنه قابل للتكرار من جديد، على يد من يرون فى الشروط (المستحبة) إثمًا، ولا يجدون فيها خروجًا ونجد للسماحة تأصيلًا، بقدر ما يجدون، ونجد معهم للتعصب أصلًا، وللشطط تبريرًا، فالسماحة فى الدين، كل دين، والتعصّب فى الحكم بالدين، أىُّ حكمٍ بالدين، والشطط وارد حين لا يصبح رأى الحاكم رأيًا، بل حلالًا، وحين لا يصبح رأى المعارض اجتهادًا، بل حرامًا، وحين لا يصبح المخالف للعقيدة كتابيًا بل آثمًا، وحين تصبح ممارساته الدينية تحديًا لمشاعر الأغلبية، وجهره بعقيدته استفزازًا للجمهور، وخروجًا على جنسية الوطن، التى هى والعقيدة وجهان لعملة واحدة، ولعلى سائل للمنكرين لما أكتب، والمستنكرين لما أحتج به، عن علة رفضهم لما نعيشه الآن من قدر متاح وممكن من المساواة بين المسلمين والأقباط على بساط الانتماء إلى الوطن، وما الذى يقلقهم فى ذلك؟ وما الذى يجدونه منافيًا للإسلام فيه؟، وما الذى يتناقض فى ظله فى دعواهم للسماحة والتسامح والرحمة والمساواة، والعدل والمودة؟
إن كان فيه شطط فليدلونا عليه، فربما رجعنا معهم ورجعوا بنا إلى الحق، وإن كان فيه خروج على العقيدة فليدلونا على موطن الخروج، فنلتزم معهم، ونستجيب لدعواهم، وإن لم يكن فيه -ولن يكون- فليسمعوا لى فإنى لهم محذر، وعليهم شفيق.
نحن كثرة وهم قلة، ونحن مستقبل وهم ماضٍ، ونحن هادئون وهم صاخبون، وما أحسب أفعالهم إلا دافعا لنا للرد، وما أحسب أقوالهم إلا نذيرًا لنا بالمواجهة، وساعتها لن يُغنى عنهم صخب الهذيان، ولا سجع البيان، ولا عنف الغلمان، غير أن من حقهم علىّ أن أبصرهم، وأن آخذ بيدهم إلى الصواب، وأن أرشدهم إلى الطريق الصحيح قبل فوات الأوان، ومعالمه، وأقصد بها أسس الدولة العلمانية التى تتمثل فيما يلى:
أولًا: أن حق المواطنة هو الأساس فى الانتماء، بمعنى أننا جميعًا ننتمى إلى مصر بصفتنا مصريين، مسلمين كنا أم أقباطًا.
ثانيًا: أن الأساس فى الحكم للدستور، الذى يساوى بين جميع المواطنين، ويكفل حرية العقيدة دون محاذير أو قيود.
ثالثًا: أن المصلحة العامة والخاصة هما أساس التشريع.
رابعًا: أن نظام الحكم مدنى، يستمد شرعيته من الدستور (بالمفهوم السابق)، ويسعى لتحقيق العدل من خلال تطبيق القانون (بالمعنى السابق)، ويلتزم بميثاق حقوق الإنسان (بمضمونه الحضارى العام).
وأكاد أتصور أن ما سبق كله مثّل جوهر ما نعيشه اليوم، وما يسعى مثلى لتثبيته وجعله أكثر تحديدًا ووضوحًا، وما يسعى البعض إلى تقويض دعائمه، وهدم أسسه وأركانه، لأنه يتناقض بالكامل مع مفهومهم لدولة دينية، أجزم بأن العصر لا يتسع لها، وأخشى أن ينعطف البعض بمصر إليها، فندفع جميعًا الثمن، وسوف يكون ثمنًا غاليًا بالفعل.
وأعود إلى ما بدأت به، حدث ما حدث لأحمد لطفى السيد حين دعا إلى الديمقراطية، وتسود الديمقراطية اليوم، بل تصبح أملًا ومطمحًا.
ويحدث ما يحدث اليوم للعلمانية وأنصارها، وسوف تسود فى المستقبل وتصبح أملًا، بل لعلها الأمل الوحيد، ذلك لأن للتاريخ -كما سبق وذكرت- حركته وإيقاعه، وحركته لا تعود القهقرى أبدًا، وإيقاعه لا يمت للردة الحضارية بصلة ولا للجهالة بسبب.