رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إبراهيم نصر.. نجم غاب عن فضاء رمضان!


لم أكن أصدق ـ وأنا أستاذ اللغة ـ أن المساحة الزمنية الصوتية لحرف الـ (واو)؛ من الممكن أن يقوم بتغيير معالم العوالم التي تعيش فيها وبينها في "فيمتو ثانية"؛ وهي المساحة الزمنية الصوتية لنطق الحرف الفاصل بين " الحياة (و) الموت" كمثال في استخدامات اللغة متعددة المواقف.

وهي الـ"فيمتو ثانية" التي رحل بعدها مباشرة الفنان متعدد المواهب الدرامية والكوميدية "ابراهيم نصر" .. وهي ( وااااو ) نفسها التي يستخدمها البعض ولكن بمزيد من المساحة الزمنية الصوتية للتعبير عن الدهشة أو المفاجأة ، وشتان بين المسافتين والنتائج المترتبة والمعبرة عن كل منهما.

فلقد كان الرجل يعيش حتى آخر لحظات حياته لا يشكو من أي معضلة تعيق حركة جسده أو فكره، بل كان يستعد لاستكمال لقاءاته بمعجبيه ومحبيه على الشاشة الفضية؛ تواصلاً لعادته السنوية في الالتقاء بهم في شهر رمضان من كل عام، ومنذ التقى ـ مصادفة ـ بالشاعر الغنائي "بخيت بيومي" الذي يصطحبه إلى مبنى التليفزيون المصري لأداء فقرة تكميلية مع المذيعة التليفزيونية الراحلة أماني ناشد في برنامج جماهيري، وبعدها يأخذ طريقه إلى عالم السينما والمسرح والتليفزيون والبرامج الترفيهية .. وأجاد وتألق في تقمص العديد من الشخصيات الكاريكاتورية في البرنامج الشهير على الصعيدين المصري والعربي: الكاميرا الخفية.

ولأن موت الفجاءة .. يتطلب حتمية وضرورة استخراج "صك" ممهور بخاتم النسرـ الشهير في أوراقنا الرسمية ـ للخروج من هذا العالم، جاء التشخيص في تقرير الطبيب : "هبوط مفاجئ في عضلة القلب"!، ولم يكن الطبيب ـ في رأيي ـ مُحقًا في هذا التوصيف .. فهذا "الهبوط" كان بمثابة "ارتقاء" إلى آفاق الخلود لشخصه ولفنه الذي منحه لجمهوره على الساحة الفنية المصرية والعربية على مدى عقود طويلة من الزمن؛ حتى لو غاب بموت "الفُجاءة" عن الساحة الفنية الدرامية والكوميدية بالمسرح والسينما والتليفزيون.

وكان أداء شخصية البوهيمي "جعيدي" في فيلم "شمس الزناتي" المأخوذ عن الفيلم الأجنبي "العظماء السبعة"، وهو "الصعيدي القُحْ" الذي لا يعرف من الحياة سوى الحصول على "الوَكْل ـ باللهجة الصعيدية، أي الأكل" .. من ناتج عمله بورشة الحدادة كنافخٍ للكير، ودائم الإعلان عن التمرد على سلطة صاحب العمل بدافع التطلع إلى الحرية كإنسان لا يقبل الظلم أو القهر والتحكُّم .. ليتحول مع أحداث الفيلم إلى الثائر المناضل الذي يشارك بقوته الجسدية وسلاحه في تحرير قرية من بعض الأقوياء المستبدين بها والمغيرين عليها، ليتألق في أداء تلك الشخصية المركبة المُعقدة إلى أقصى حدود التجسيد في الأداء الحركي والجسماني، بل يقال إنه تفوق في الأداء على الشخصية المحورية البديلة في الفيلم الأجنبي، كما تفوق الفنان العملاق "محمود المليجي" في دور "محمد أبوسويلم" في فيلم "الأرض" المأخوذ عن رواية الكاتب "عبدالرحمن الشرقاوي"، على أداء الممثل العالمي "أنتوني كوين".

وإطلالة على مسيرته ورحلته في عالم الفن منذ ولادته بحي شبرا بقاهرة المعز، نجده قد اكتسب شخصيته الصعيدية من انتسابه إلى الأب الصعيدي الذي ارتحل إلى القاهرة من مركز "النخيلة" بمحافظة أسيوط، ليعمل بين طائفة المعمار والمقاولات، ولكن غريزة الفن الموجودة في أعماق شخصيته أخذته إلى تقليد الشخصيات الموجودة في محيط العائلة؛ ليحظى بلقب "كوميديان العائلة"، وفي مدرسة "عثمان بن عفان" بشبرا يترأس فريق التمثيل ويقدم على مسرحها أعماله المسرحية، وليظل متعلقًا بأهداب الفن حتى لحظة حصوله على ليسانس الآداب .. ليتزوج ويخرج إلى الحياة العملية، وحتى تلقي المقادير في طريقه ـ بالصدفة ـ الشاعر الغنائي بخيت بيومي .. لتدور عجلة الزمان حتى تتوقف مع اللحظة الفارقة في حياة كل إنسان.

وقد نعاه نقيب الفنانين المصريين الفنان أشرف زكي، في بيان له، قال فيه : "إن الفن المصري والعربي فقد فنانًا كبيرًا أثرى السينما والدراما التليفزيونية" وتم تشييع جنازة الفنان الراحل من الكنيسة المرقسية القديمة بالأزبكية، ليوارى جثمانه مقابر الأسرة بمقابر العباسية.

وليجيء نعى الأب بطرس دانيال رئيس المركز الكاثوليكي للسينما، النجم إبراهيم نصر بكلمات مؤثرة، عبر حسابه الرسمي بموقع التواصل الاجتماعي فيس بوك. ونشر الأب بطرس دانيال صورة لإبراهم نصر، وعلق عليها ناعيًا: "الراحة الأبدية أعطه يا رب وبنورك الدائم فلتضئ له وليسترح بسلام آمين. نقدّم تعازينا القلبية في رحيل الفنان الكوميديان إبراهيم نصر الذي أمتعنا جميعًا بأعماله وبرامجه المتنوعة طالبين له الرحمة من الله والعزاء لذويه ومحبيه وجمهوره المحترم".

وكان الأمل أن يكون خبر وفاة "أيقونة الكاميرا الخفية" إحدى دعابات القدر .. أو أحد مشاهده التي أمتعنا بها، ويكون الخبر تعبيرًا عن مقلب من مقالب الكاميرا الخفية ويقول عبارته الشهيرة: نذيع؟ ولكن شاءت الأقدار أن يكون مشهد الرحيل حقيقة.. لأنها النهاية الحقيقية لكل مشاهد الحياة! وأذعنا الحزن على غيابه وذرف دموع محبي فنه بعيدا عمن أنكروا جميل منحه أوقاتا سعيدة لنا ملؤها البسمة والبهجة والدهشة، ومارسوا فتنة ممجوجة تخدم أغراضهم الدنيئة ولكن وعينا دوما له الغلبة وسنترحم على نجمنا المحبوب وسنظل ندعو له بالرحمة والسلام لروحه في عليين.


* أستاذ ورئيس قسم الإنتاج الإبداعي بأكاديمية الفنون