رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"رمضان" من 70 سنة


"الحنين إلى الماضي " النوستالجيا". ورموز ذلك الماضي وأحداثه وقيم أهله وسلوكياتهم وإسهامات شخوصه من أصحاب ملكات الإبداع، أمر بات متكررًا تناوله عبر معظم دوائر الحوار بين الناس في بلادي وفي كل الدنيا وفي كل عصر دون اختصاص فئة أو طبقة أو طائفة، وتتعالى مشاعر الوحشة والحنين تلك والتعبير عنها في فترات الإحساس العام برتابة الأحوال وعدم وجود أهداف أو مشاريع قومية أو عند المعاناة من تراجع أحوال وسمات وأفعال وقيم وطموحات جيل بعد جيل ووجود من يبالغ في تشخيصها بشكل سلبي والتباكي على أحوال العباد وتكرار الحديث عن الزمن الجميل..
في هذا السياق، يرى أساتذة علم الاجتماع إن تراجع أحوال االخطاب الثقافي والإعلامي يعد من أسباب الحنين إلى الماضي والتعلق بأهداب أساطيره..ومعلوم أن الإنسان بطبيعته الفسيولوجية يميل إلى فترات تحقيق النجاحات والتقدم في حياته العامة، يحن دائما للحظات الفخر والمواقف التي يتسم فيه عمله بأداء موفق ملحوظ، يشهد له الأهل والأصدقاء..
ولاشك أن، المبالغة في تصوير الإعلام للحياة في الستينات والسبعينات، ورخص السلع وقوة ترابط العلاقات بين المصريين والخير الوفير بجانب روعة أهل الفن والمغنى والتمثيل في تلك الحقب هي ما ربطت قلوب المصريين بالزمن الجميل، فكان الإعلام قديما يسلط الضوء على المزايا أكثر من العيوب مما كان يجعل المصريين يرون المستقبل أقل روعة.
منذ 70 سنة وفي شهر رمضان المبارك، طالع قراء مجلة الصباح مقالًا بعنوان " حقًا إنه رمضان ولكن.. "
و استهل الكاتب مقاله بسؤال استنكاري " ولكن... أين هو رمضان ؟؟"..
ويسنطرد " " في كل مكان أحل به أسمع: رمضان كريم، في البيت في العمل في الطريق في المقهى رمضان كريم !
حقًا.. رمضان كريم ولكن أين رمضان هل نحن حقيقة في رمضان كما تقول النتيجة والإمساكية وكما قال رجال الرؤيا من قبل ؟...أنا أعرف أن النتيجة روتين حكومي، والإمساكية إعلان عن شيء ورجال الرؤيا، نعم رجال الرؤيا، هل رأوا الهلال حقًا ؟ وهل قال لهم: أنا هلال رمضان ؟..أخشى ما أخشاه ألا يكون هذا هلال رمضان، فلقد رأينا رمضان وصمنا رمضان في الصيف والشتاء فهل كان يشبه هذا الرمضان ؟..حين كان يأتي رمضان كنا نشم رائحة رمضان قبل أن يهل في الطرقات وفي المنازل وفي المساجد وكان كل إنسان يستعد لاستقبال رمضان... حتى المتسولون كانوا يستعدون لاستقبال رمضان فيمزقون ما تبقى من جلبابهم الممزق ويشوهون وجوهم، وأعضاءهم ويقسمون القاهرة إلى مناطق لا يتعدى أحدهم الآخر... "..وكان أصحاب الحوانيت يعلقون " قمر الدين " ويستحضرون " صينية الكنافة " و" القطايف " وبائع الفول والطرشي والسلاطة كانوا يستعدون لرمضان ولزبائن رمضان وما يجلبه من الخير لهم رمضان..حتى الفقهاء كانوا يستعدون لرمضان فكنت ترى العمد والأعيان يفدون إلى القاهرة لاستئجار الفقهاء لتلاوة القرآن في رمضان فكنت ترى السماسرة في محطة القاهرة وعلى المقاهي وأمام الفنادق يشيدون باسم فقيه صوته كالكروان فيسأل عنه العمدة أو العين ويرشد إليه فيأخذه معه إلى الريف ويعود آخر رمضان بمال وجبة وقفطان !
ويستطرد الكاتب عبر فقرات المقال التي يسهب فيها في وصف أحوال المجتمع: "وحين يأتي رمضان كنت تحسه وتلمسه في البيت والطريق بل وفي كل مكان، فلقد صمته في الصيف والشتاء وعرفت أنه رمضان......لقد كان الإنسان لا يشعر بالظمأ في الصيف، لأنه لا يرى ما يسيل لعابه في رمضان فبائع الخروب والعرقسوس لا يظهر إلا قبيل المغرب بقدره وسنجه وفوطته الحمراء بل وكل الحوانيت والمقاهي مغلقة...كان كل شيء تراه قبيل المغرب وفي الليل !وما أحلى الليل في رمضان كنت ترى الأطفال الصغار بفوانيسهم الملونة وهم يصيحون: وحوي يا وحوي إياحة، ولولا الأسامي ما جينا يالله الغفار، أمام كل بيت وفي كل طريق وكان الناس يعطونهم التمر والزبيب وقمر الدين وكنت ترى بين الأطفال ابن الباشا والبيك والعظيم كل هؤلاء مع أولاد الفقراء جنبًا إلى جنب وكان أباؤهم يفرحون بما جلبوا من نفحات رمضان ويوزعونه على الخدم إن لم يأكلوا منه تبركًا برمضان... وعندما ينتصف الليل تستمع إلى " المسحراتي " وهو يطوف بعصاه معلنًا أسماء الجميع أن استيقظوا لسحور رمضان.. "..
وفي ختام المقال بسأل الكاتب مفعمًا بكل مشاعر الحنين إلى الماضي حزينًا: "حقًا كان هذا رمضان وكان اإنسان يتلذذ بسماع " رمضان كريم " فكنت لا ترى مفطرًا في الطريق أو في العمل وإلا عذرته الأطفال وتجمعوا خلفه وهم يصيحون: " يا فاطر رمضان يا خاسر دينك وسكينة الجزار تقطع مصارينك "...وبعد ذلك هل أنت حقًا في رمضان ؟ وهل تشعر بلذة حين تسمع قول القائل رمضان كريم ؟ أن الصائم الآن مظلوم فمنظر البيبسي كولا والكوكاكولا والزمبا واستيم ومنظر المطاعم وريح الشواء ورؤية الشاي والقهوة في المقاهي أمام الجالسين.والسيجار والسيجارة والبايب والنرجيلة في يد المدخنين، كل هذا يسيل اللعاب وصعب على الصائم وألف حرام أن يبقى على صيامه وإلا فهو جماد...".
و يذكر الكاتب القراء بما كانت تبثه محطة الإذاعة حين تذيع على الصائمين: " يا حبيبي تعال الحقني شوف اللي جرالي، وجفنه علم الغزل، وبين الجناين قابلته، وأفوت عليك في نص الليل لما تنامي " وبعد ذلك تذيع القرآن وحديث الصيام.....لقد انتهى رمضان الذي عرفناه بخيره وبره وكرمه وسعته على الصائمين والذي كنا نسر فيه قول الصائم " رمضان كريم ".