رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر.. الموسيقى والتاريخ


إن علاقة الموسيقى بالتاريخ تنبع من مدخلنا من التاريخ الاجتماعي للموسيقى في مصر، فهي لا تعنى بدراسة الموسيقى وتقنياتها وتطورها ولكن تهتم بدراسة الوسط الاجتماعي الذي تتعايش معه، وإبراز أهمية القضايا الاجتماعية والثقافية المتعلقة بأثر الموسيقى في المجتمع المصري.
وسنركز على اللقاء القلق بين الموسيقى الغربية والموسيقى الشرقية في مصر، وتطور تجليات هذا اللقاء الصعب في القرنين التاسع عشر والعشرين انطلاقًا من ثنائية "بلدي" و"أفرنجي"، هذه الثنائية التي لعبت دورًا هامًا في تطور الحياة المصرية منذ تغلغل المؤثرات الغربية في المجتمع المصري.
مصادرنا هنا هي المصادر غير التقليدية، وهي المصادر الأساسية للتاريخ الثقافي والاجتماعي، واعتمادنا سيكون على كتابات الرحالة والعلماء الغربيين الذين زاروا أو عملوا في مصر آنذاك، وكان من ضمن ما استلفت انتباههم "الموسيقى الشرقية" وعقد المقارنات بينها وبين الموسيقى الأوربية، هذا بالإضافة إلى بعض الكتابات الأساسية المصرية التي تناولت الحياة الاجتماعية في القرن العشرين، هذه الكتابات التي تعرضت لتطور الموسيقى وتأثيرها في المجتمع المصري.
ولعل أول هذه المصادر بطبيعة الحال هي كتابات علماء الحملة الفرنسية، هذا المصدر المهم الذي عنوَّنه علماء الحملة بـــــ"وصف مصر". وعلى الرغم من الأهمية التاريخية لهذا المصدر بالنسبة لتاريخ مصر في مطلع القرن التاسع عشر، إلا أن الدراسة المتأنية لهذا المصدر توضح العديد من أوجه القصور حول دقة وموضوعية هذا المصدر، وما يعنينا هنا هو وصف علماء الحملة الفرنسية لحال الموسيقى في مصر آنذاك والمقارنات الظالمة التي صنفوها بين الموسيقى الفرنسية والموسيقى "الشرقية" في مصر.
من أول وهلة في ذلك يتضح لنا مدى سوء الفهم تجاه الموسيقى الشرقية في مصر، فضلًا عن عدم الرغبة في تقبُل الموسيقى الشرقية. ونرى ذلك جليًا في الجزء المخصص للموسيقى والغناء عند المصريين المحدثين، حيث يتضح مدى سيادة النظرة المركزية الأوربية على الحكم على الموسيقى الشرقية وعلى تقبل وفهم المصريين للموسيقى، وعدم قدرة الفرنسيين على فهم الموسيقى "البلدي"، وهي نظرة تذكرنا برأينا الآن في الأغاني الشعبية في مقابل "الغناء الرفيع الراقي".
تحت عنوان مثير هو "حول قلة الأهمية التي يعقدها المصريون على دراسة وممارسة فن الموسيقى وحول قلة ما يعرفونه عن هذا الفن" يلخص هؤلاء العلماء حالة الموسيقى في مطلع القرن التاسع عشر في المقولة التالية:
"لم يعد يوجد من بين المصريين من يحترفون المهن الموسيقية سوى أُناس عارين كليةً من أية موهبة، لم يتلقوا أي قسط من التعليم وليس لديهم أوهى أمل في أن يحصلوا من قبل المجتمع على أدنى اعتبار".
كما يُشير علماء الحملة الفرنسية إلى مدى التباعد بين الموسيقى الأوربية والشرقية في قولهم:
"إنها بالغة البُعد عن مبادئنا الموسيقية".
ويذهب هؤلاء إلى تفسير تخلف الموسيقى الشرقية لأسبابٍ دينية قائلين:
"المصريون هم أقل الشعوب جنوحًا نحو التجديد، والذين من وجهةٍ أخرى ينظرون إلى الموسيقى تلك التي يُحرمها الدين، باعتبارها فنًا جديرًا بالاحتقار".
ثم يحدثنا وصف مصر عن الانطباعات الأولى لعلماء الحملة لدى استماعهم للموسيقى الشرقية:
"موسيقى كانت تخرق منا الآذان، وألحان متكلفة وجافة وباروكية وحواشي ذات مزاج مسرف وهمجي تؤديها أصوات منكرة أنفية، تخلو من كل ثقة وتصحبها آلات موسيقية، نغماتها إما هزيلة ضامرة وصماء أو حادة خارقة للآذان".
ولكن نفس المصدر يعترف بعد ذلك برأيٍ أخر، فبعد مدة من استقرار بعض الأوربيين في مصر لفترةٍ طويلة أصبح لهؤلاء رأي أخر حول تفهم واستيعاب الموسيقى الشرقية:
"إنهم بعد أن أقاموا في هذه البلاد ثمانية عشر أو عشرين عامًا قد اعتادوا على هذه الموسيقى لدرجة أنهم يغبطون أنفسهم عليها، ولدرجة أنهم اكتشفوا فيها جماليات كانوا هم من قبل أبعد ما يكونون عن أن يظنوا وجودها فيها وهكذا فليست هذه الموسيقى إذن باروكية أو همجية بالقدر الذي بدت لنا عليه عند البداية".
هكذا نرى مدى التضارب بين النصوص في ذلك الكتاب المهم الذي يُعتبر مصدرًا مهمًا لتاريخ مصر في مطلع القرن التاسع عشر، ويمكن تفسير هذا التضارب الكبير في ظل الظروف التي أحاطت بكتابة "وصف مصر"، حيث تم تجميع مادته أثناء وجود الحملة في مصر ثم تمت صياغتها على شكل مقالات في صورتها التي خرجت لنا بعد ذلك، ويتضح أثر الفترة الزمنية الطويلة بين جمع المادة وخروج الكتاب للنور في تنقيح ـ أو عدم تنقيح ـ بعض المعلومات والانطباعات التي وضعها علماء الحملة الفرنسية أثناء وجودهم في مصر.
إن النصوص الأولى توضح لنا في الحقيقة طبيعة اللقاء الصعب بين الشرق والغرب في زمن الحملة الفرنسية، وما يهمنا هنا هو لقاء الموسيقى الغربية والشرقية آنذاك؛ إن الانطباعات الأولى لعلماء الحملة الفرنسية تجاه الموسيقى الشرقية هي أميل إلى الصدام، أكثر من اللقاء. فنلاحظ في هذه النظرة مدى سيادة "المركزية الأوربية"، فالحضارة هي أوربا، وما هو خارجها هو أيضًا خارج الحضارة، ويحتاج إلى "رسالة الرجل الأبيض" المستعمر الذي جاء إلى الشرق لنقل "الحضارة" إليها.
وتعتبر النصوص الأولى السابقة مثالًا لمدرسة الاستشراق وتناولها لتاريخ الشرق، فهذه المدرسةـ ومن خلال العديد من الدراسات الناقدة ـ تدرس تاريخ الشرق وحضارته من منظور أوربي بحت؛ فعلى سبيل المثال المدينة العربية هي مدينة عشوائية لأنها لا تسير وفقًا لنظم التخطيط والتنظيم السائدة في أوربا في القرن التاسع عشر، وعليه أيضًا فالموسيقى الشرقية هي عشوائية وهمجية ومنكرة لأنها لا تتشابه مع مثيلتها الأوربية.
هكذا تضافرت العديد من العوامل وراء صنع هذا الصدام المبكر بين الموسيقى الغربية والشرقية، الاستعمار، والاستشراق. لكن العوامل الإنسانية، فضلًا عن استقرار بعض الأوربيين في الشرق كان بمثابة أهم أسباب كشف هذه النظرة الاستعلائية؛ إذ ساعد وجود هؤلاء الأوربيين لفترة طويلة في مصر على تفهم واستيعاب الموسيقى الشرقية من باب قبول الآخر، واكتشاف الجديد فيه، لذا حوى كتاب وصف مصر على هذه النصوص المتضاربة التي تعبر في حقيقة الأمر عن طبيعة الصدام المبكر بين الموسيقى الغربية والشرقية، ولكنها من ناحية أخرى توضح إمكانية حوار الثقافات وفهم الآخر واكتشاف الجديد فيه.
لكن الاستعمار متمثلًا في الحملة الفرنسية، وما تبعه من إحساس الشرقي بانكساره حضاريًا أمام الغربي، سيدفع بالأمور تجاه الصدام أكثر من اللقاء، وسيظهر ذلك جليًا في ظهور ثنائية "بلدي وأفرنجي"، وستنقسم المدينة إلى "الحي البلدي" ذو الطابع الشرقي، و"الحي الأفرنجي" ذو الطابع الغربي، وسينتقل نفس الشئ إلى مجال الموسيقى، إذ سيُنظر إلى الموسيقى الشرقية على أنها "بلدي"، والموسيقى الغربية على أنها "أفرنجي"؛ نذهب إلى سماع الموسيقى الشرقية بالزي العادي، ولكن الموسيقى الغربية نذهب إليها بالزي الرسمي و"الكرافتة"، ويصبح تذوق الموسيقى الغربية هو دليل الرقي والحضارة.