رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«نياندرتال..التجربة».. رواية محفزة للعقل تطرح مضامين فكرية وفلسفية

نياندرتالالتجربة
نياندرتالالتجربة

رغم أنها ظاهريا تبدو رواية تنتمي لأدب الخيال العلمي، إلا أن المدقق في رواية "نياندرتال..التجربة" للكاتب سراج منير، والصادرة عن الكتب خان، سيلحظ أن هناك أكثر من مستوى للسرد، وأكثر من مستوى للتلقي أيضا. فمن القراءة الأولى نحسب أننا أمام رواية خفيفة من روايات أدب الخيال العلمي، أو حتى ما يعرف بالروايات الغرائبية، لكن مع التوغل في السرد نجد أننا بصدد رواية تطرح العديد من القضايا والأفكار الفلسفية حول الوجود ومن أين بدأ وإلى أين يمضي. حول حيواتنا وأفكارنا المسبقة أو المعلبة حولها، حول الأحكام المقولبة الجاهزة أمام أي موقف أو أزمة في حياتنا وحيوات الآخرين.

ليست القصة كما تبدو في ظاهر السرد خيالية عن عمر وشادية اللذين استيقظا فوجدا نفسيهما في مكان غريب لا هو بالغابة ولا جزيرة، يواجهان تحد البقاء على قيد الحياة، سواء في مجابهة أهوال الطبيعة من أمطار وسيول، أو حيوانات تطاردهما طوال الوقت لافتراسهما.

ليست القصة أن بطلي الرواية شادية وعمر يكتشفا بعد العديد من المغامرات للحفاظ علي حياتهما، أنهما ضحية كائنات من عالم آخر، في كوكب آخر يستعد لاحتلال كوكب الأرض، ولا في التجربة وكيفية النجاة منها ومن ثم العودة إلى الحياة كما عرفناها من قبل.

القصة والمحك هنا هو شخصيتي العمل الروائي، شادية وعمر والفترة التي قضياها علي هذا الكوكب، ما تعلماه، وما اختبراه عن حقيقتيهما وإعادة النظر في ما يعتنقانه من أفكار وتصورات عن ذاتيهما وعن العالم والحياة التي عاشاها من قبل هذه التجربة. فـ"عمر" يبدو كشخص فاشل في حياته، رغم حصوله على مؤهل جامعي إلا أنه يعمل سباكا، وما يعنيه هذا في بلد لا يعترف بالعمل اليدوي. عمر الذي مر بزيجتين فاشلتين والذي ظن أنه سبب هذا الفشل، ربما من الترسبات التي ترسخت داخله حول العالم وقبحه، فكان خياره بألا يجيء لهذا العالم بطفل آخر ليجنبه قبح هذا العالم، إلا أنه سرعان ما يتخلى عن هذه القناعات كلها عندما يخوض تجربة تبرز جوهر روحه وشخصيته الحقيقية تلك التي انصهرت بنيران التجربة الأليمة الشاقة التي خاضها في ذلك الكوكب وأناسه الذين اختطفوه كعينة يجرون عليها تجاربهم.

شادية بدورها امرأة تبدو عصبية سليطة اللسان شرسة، لكنها بكل هذه الأدوات تغطي على هشاشتها وخوفها من الرجال وما خلفوه داخلها من بغض لهم، لكنها مع الوقت والتجربة في كوكب "النياندرتال" أو "الأديتيين" الأوائل الذين سكنوا الأرض من قبلنا، غيرتها 180 درجة فاختبرت قناعاتها التي تهاوت في تلك التجربة، وهو ما يشير سواء بالنسبة لشادية أو عمر لحقيقة القناعات والمبادئ التي نظن أننا نعتنقها ونؤمن بها، لكن مع الاختبار الحقيقي الواقعي على الأرض، تتهشم هذه القناعات ونتخلي عنها ببساطة. وهذا لا يعني أن قناعتنا كانت مجرد كلمات علي الأوراق، بقدر ما هي طبيعة هذه القناعات وقدرتها علي الثبات أو التخلي عنها من خلال تجربة حقيقية لها.

على جانب آخر تطرح الرواية فكرة الغرور الإنساني، وكيف أننا محور الكون، متناسين أو متجاهلين أن الأرض بما عليها ما هي سوى ذرة غبار ضئيلة جدا وسط المحيط الكوني اللامتناهي. غرور الإنسان هذا وقناعته بأنه المخلوق العاقل الوحيد في هذا الكون، لم يمنعه من أن يقتل ويدمر، يقمع المستضعفين ويفجر الحروب العبثية طوال تاريخه. وإن كان المؤلف هنا يشير أن الإنسان ليس وحده المتمتع بهذه الوحشية، فعلي الكوكب الذي جرت فيه التجربة كان سكانه أيضا يتوزعون بين الفقراء المعدمين ممن يسكنون باطن هذا الكوكب في ظروف لا ترضي بها الحيوانات، بينما على سطحه الحكام والكهنة ورجال العصابات والشركات الضخمة يتصارعون فيما بينهم للفوز بالنصيب الأكبر من السلطة والمال والجاه.

غزل الكاتب الشاب "سراج منير" في روايته "نياندرتال..التجربة" تجربة روائية محفزة للعقل٬ تعيد مع كل متلقي لها مستوى يختلف عن الآخر في ما تطرحه، فقد يراها البعض رواية رمزية، ويراها البعض الآخر رواية خيال علمي أو غرائبية تطرح مضامين فكرية وفلسفية شتي، إلا أنها في النهاية قدمت سرد مدهش بكتابة رائقة هي السهل الممتنع في آن٬ بجانب المشهدية العالية التي ترشحها لعمل درامي أو سينمائي قد تراه أنت كمتلقي وأنت تتنقل بين سطورها.