رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حكايات لم تحدث إلا فى الصحف


يحكى جابرييل جارثيا ماركيز أنه عند استيقاظه صباح أحد الأيام فى سريره بمكسيكو قرأ فى إحدى الصحف مقالًا يفيد بأنه ألقى محاضرة أدبية مطولة أمس، فى مدينة «بالمادى» على الجانب الآخر من المحيط، وأن المقال اشتمل على تفصيل دقيق لما جرى وقدّم موجزًا بديعًا للمحاضرة. ولم يجد ماركيز عيبًا فى المقال المنشور سوى أن ماركيز لم يكن فى مدينة «بالمادى» تلك، لا أمس، ولا خلال العشرين سنة الماضية، كما أنه لم يُلق فى حياته كلها محاضرة واحدة فى موضوع أدبى. 

ويحكى ماركيز فى السياق نفسه أن المصادفة قادته أكثر من مرة لقراءة لقاءات صحفية معه لم تحدث على الإطلاق، لكنها على حد قوله كانت تعبّر عن أفكار ماركيز وذوقه الشخصى وأفراحه وأتراحه سطرًا بسطر. 

ترد هذه الحكاية وغيرها فى كتاب ماركيز «كيف تكتب الرواية» ترجمة صالح علمانى، والظاهر أنه أصبح شائعًا أن يشتغل بعض الصحفيين الشباب باختلاق أحداث لم تقع ولقاءات لم تتم وأخبار بلا أساس لمجرد أن ذلك التلفيق أسهل من التفتيش عن قضايا حقيقية، كما أنه من الناحية الصحفية أكثر جاذبية وقدرة على لفت الأنظار. 

فى هذا السياق، صارت تغمر بعض صحفنا بغزارة أخبار وتحقيقات لا أساس ولا مصدر ولا مرجع لها سوى مزاج الصحفى المشعشع، وقد قرأت أكثر من مرة حديثًا عن الشاعر أحمد نجم وكيف أنه فى يوم وفاته توجه فى الصباح إلى البنك، وأعطى موظفًا فى البنك خمسمائة جنيه دون أى مبرر، وناول المال لكل من قابله وهو يردد: «خد شوية فلوس». 

أحمد نجم كان كريمًا، لكنه لم يكن سفيهًا، إلا أنها قصة تشبه الحوار الذى لم يحدث مع ماركيز، وبلا أساس ولا أى سند.. قرأت عن أن النحاس باشا طالب بمنع أغنية فريد الأطرش المعروفة «يا عوازل فلفلوا»، من أين جاء هذا الكلام؟ لا تدرى، لكنها عناوين جذابة لمواضيع لم تحدث قط إلا فى الصحف.. انظر أيضًا قصة أن عبدالحليم حافظ كان يغير بشدة من الممثل يوسف شعبان، وبسبب تلك الغيرة تم استبعاد شعبان من فيلم «معبودة الجماهير»، طيب لماذا لم يقل شعبان هذا الهجص فى حياة عبدالحليم حافظ؟ لا تدرى.
وتقرأ أيضًا عن الصراع العنيف الذى دار بين نجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف شاهين، وتبحث فى المكتوب عن أى مصدر لهذه الحكايات فلا تجد، لكنك تلاحظ أن كل تلك الحكايات ظهرت فقط بعد وفاة الفنانين الثلاثة الكبار بزمن طويل.. وستقرأ أيضًا سخافات كثيرة عن معظم الفنانين، وكيف طُلقت مديحة يسرى من محمد فوزى، وماذا قالت فى تلك الليلة، حتى لتظن أن كاتب التحقيق كان جالسًا مع مديحة وأفضت إليه بكل ما فى صدرها.. وهكذا تغمرنا صحافة الأحداث التى لم تقع قط بكل شعشعة الصحفى الذى يتوق لربط اسمه بمادة لافتة للنظر، وموضوع «يفرقع».

يذكر ماركيز أن شخصًا اقترب منه فى إحدى الحفلات، ولكى يتقرب من ماركيز راح يؤكد له أنه على علاقة وثيقة بأخيه، وخجل ماركيز من أن يقول له إنه ليس له ولم يكن له أخ من الأساس!.. وحين أقرأ ذلك الطوفان من التحقيقات أتساءل: أليس الواقع الحى الملموس أكثر إثارة من تلك الحكايات المختلقة؟.. على سبيل المثال عاش بيننا شاعر شاب اسمه ميدو زهير، كان من شعراء ثورة يناير وتوفى منذ أيام، لم يسمع به أحد، وبالبحث فى الصحف التى أشارت إلى وفاته لم أجد معلومة واحدة مفيدة عن حياته.. هو القائل: «ما أعرفش ماذا بيا.. أنا خدت المدى لمداه.. وقضيت فى القضية.. وقلت الألف لا.. ودخلت المجذوبية.. وقتلت وما اتمسكتش..علشان قتلت فيا».. ولماذا بدلًا من اختلاق الحكايات عن شادية وعماد حمدى لا يتوجه الصحفى الشاب إلى المستشفى الذى توفى فيه دكتور هشام الساكت بسبب الوباء؟ أو إلى أسرة الممرضة حبيبة عبدالغنى التى استشهدت خلال الكفاح ضد «كورونا» ليقدم لنا صورة وافية عن تلك البطلة المصرية؟ فإذا خلت الساحة المصرية من الأخبار فإن العالم يشغى بأحداث حقيقية لافتة للنظر، مثل قصة الأم «بينينا باهاتى» التى تعيش فى كينيا وتطبخ الأحجار لأطفالها الثمانية على أمل أن يناموا! أو فليظهر لنا أحدهم بيت أحد شهداء بئر العبد وأسرته وكيف استقبلت قريته نبأ استشهاده فى مواجهة الإرهاب؟.
القصد أن المواضيع الحقيقية كثيرة جدًا، وإذا لم يكن الصحفى يريد البحث عن الحقيقة، فإن بوسعه على الأقل ألا يختلق حكايات لم تقع قط، بينما يخجل أصدقاؤه من أن يقولوا له: هذا لم يحدث، كما لم يحدث أن ماركيز ألقى محاضرة فى مدينة «بالمادى»، ولم يكن له أخ!