رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أبطالى فى السينما.. فتوة وبلطجى وبينهما فاسد


سأحكى لكم اليوم حكاية غريبة عن فتوات مصر الحقيقيين لتعرفوا كيف كانت مصر وكيف أصبحت، حارة درب المهابيل من الحارات المصرية الأصيلة، وهى من اسمها يبدو أن أصحابها مهابيل ولكنهم فى الحقيقة قمة فى الذكاء الفطرى، وقد أطلقوا هم على أنفسهم هذا الاسم من أيام الحملة الفرنسية، وكان سبب ذلك أن هذه الحارة كان يسكن فيها الشيخ سليمان الجوسقى، وقد كان شيخًا أعمى ثم أصبح شيخًا لطائفة العميان كلها، وهى طائفة كانت ذات شنة ورنة فى مصر كلها، المهم هو أن أهل الحارة ومنهم الشيخ الجوسقى كانوا من المصريين الوطنيين أصحاب الألباب، لا يستطيع أى غازٍ أن ينصب عليهم أو يضحك عليهم أو يستغفلهم، وعندما قدمت الحملة الفرنسية إلى مصر ظن نابليون أنه أذكى من المصريين، وأنه يستطيع أن يدخل عليهم من زاوية الدين والشريعة، فأشاع أنه أسلم وأنه جاء إلى مصر كى يطبق الإسلام الصحيح ولينعم الشعب فى عهده بالعدالة، وأخذ الجنود الفرنسيين يفرقون على الناس فى الحوارى منشورات تتحدث عن الشريعة والإسلام، وكان هذا الأمر مذهلًا للمصريين إذ لم يكن قد رأوا الأوراق المطبوعة بالمطبعة من قبل، ولكن هل استطاع نابليون الغازى المحتل المتدثر بالشريعة والإسلام الضحك على عقول المصريين؟ انظروا ماذا حدث.


انتبه المصريون لألاعيب بونابرت، فاتفق مشايخ التجار ومشايخ الطوائف على اختيار عدد من الشباب من كل حارة يكون لهم شيخ، يدافعون عن الحارة ضد جنود الفرنسيين، فكان هذا الأمر هو أول ميلاد للفتوة المصرى، وما أصبح الفتوة فتوة إلا لأنه يدافع عن المصريين، ويحميهم من الغزاة، وكانت كل حارة تجمع فيما بينها مبلغًا من المال لتقدمه للفتوة كى يوزعه على رجاله لأنهم فى الحقيقة كانوا قد انقطعوا عن أعمالهم ولا يوجد لديهم أى مورد للرزق، وحينما زار نابليون حارة درب المهابيل كان يبتغى التأثير على أهلها والظهور بمظهر حامل لواء الشريعة والمدافع عنها، وقد ظن أنه بهذه الصورة سيستطيع إخماد ثورة القاهرة الأولى التى كانت مشتعلة وقتها، فتفتق ذهن أهل الحارة على اصطناع البله والحماقة، فدخلت النمرة على بونابرت وظن أنهم مهابيل، يومها كان لا بد أن يتقابل نابليون مع الشيخ سليمان الجوسقى شيخ طائفة العميان.
ويحكى المؤرخون أن نابليون يومها أراد أن يضحك على دقن الشيخ الجوسقى، فقال له وهو يحاوره أمام أهل الحارة: أنا مسلم يا شيخ أحب الإسلام، ضع يدك فى يدى وأنا أجعلك حاكمًا على القاهرة، فوافقه الشيخ الجوسقى ظاهرًا ومدَّ يده له، فإذا بيد الشيخ الجوسقى ترتفع وتهوى على صدغ نابليون ليأخذ بونابرت قلمًا كبيرًا لم يأخذ مثله فى حياته، ارتعد نابليون مما حدث وهاجت الحارة فتدخل الجند وفرقوا أهل الحارة وتم اقتياد الشيخ الجوسقى إلى سجن القلعة لاستجوابه ومحاكمته، ولم ينكر الرجل مشاركته فى الثورة ضد الفرنسيين ولا لطمه نابليون، وقال إن الإسلام أمره بقتال المعتدين، ولم يتم إعدامه مع قادة الثورة الذين أعدمهم الفرنسيون رغم إدانته لكونه كفيفًا، وظل فى السجن عدة أشهر حتى لقى ربه، وخرج أهل الحارات المصرية فى جنازته يترحمون عليه ويقولون: «اسم الله عليه اسم الله عليه»، فصارت هذه العبارة هى الصك الرسمى الذى يناله كل فتوة بعد أن ينال مكانته.
الفتوة المصرى إذن يحمل بعدًا أخلاقيًا، هو الذى يدافع عن أهل الحارة، وهو الذى يحصل لهم على حقوقهم، وهو الذى يحميهم من اعتداءات اللصوص والبلطجية، وفوق ذلك كان الفتوة صاحب وظيفة رسمية، يتعامل مع الحكومة لضبط الخارجين على القانون، ولأن القوة يمكن أن تكون مفسدة، لذلك كان هناك العديد من الفتوات الذين خرجوا عن «القواعد الأخلاقية للفتونة»، وأصبحوا لصوصًا، هؤلاء أطلق عليهم الناس لقبًا آخر هو «البلطجى»، والبلطجى هو الذى يستخدم «البلطة» فى أعماله الإجرامية ولا يستعمل العصا، و«جى» هى فى اللغة التركية للنسب، كأن نقول «قهوجى» أى صاحب القهوة، وبوسطجى، أى عامل البوستة، وعربجى، أى سائق العربة، وبلطجى، أى الذى يستخدم البلطة فى الغابات، لذلك فإن البلطجى هى مهنة تركية من أصلها، ويبدو أنها لذلك ظلت تمارس البلطجة عبر تاريخها.
كانت هذه مقدمة طويلة ولكنها مهمة بخصوص تلك الدراسة التى أكتبها عن الفتوة فى الدراما المصرية، إذ أردت أن يعرف الناس أن الفتوة المصرى يختلف عن البلطجى، فالفتوة له قيمه وأخلاقه ووطنيته، فإذا انحرف أصبح بلطجيًا، وقد كانت صورة الفتوة فى الدراما المصرية تُحقق تلك المعانى، كما كانت الدراما تستقبح صورة البلطجى، ولم يحدث أن تعاطفت الدراما المصرية مع البلطجى إلا مؤخرًا، وبتتبع الأعمال التى تناولت تلك الشخصية سنجد أن أبرز الأبطال الذين قاموا بأدوارها هم فريد شوقى، ورشدى أباظة، فى حين أن أبرز من قام بدور البلطجى هم محمود المليجى وزكى رستم وتوفيق الدقن ومحمود إسماعيل، ومنذ الثمانينيات برز فى دور الفتوة محمود يس وعزت العلايلى ونور الشريف فى حين كان عادل أدهم هو أشهر من قام بدور البلطجى.
ولأن الفنون عمومًا ينبغى أن تقدم مضمونًا يرتقى بالجمهور ولا ينزلق بهم إلى مهاوى الرذيلة، لذلك كانت السينما، وكذلك التليفزيون، يقدمان صورة نبيلة للفتوة، وفى ذات الوقت كان البلطجى يلقى دائمًا شر أعماله، وللفنون دورها فى صنع وعى عام للجماهير، وهذا الوعى يجب أن يكون إيجابيًا، فلا يقبل أبدًا أن يقدم لنا الفن صورة البلطجى اللص القاتل الذى يعتدى على الآخرين ويسلب حقوقهم، ثم تضع ذلك كله فى إطار برّاق يجعلنا نتعاطف مع ذلك اللص المعتدى، أو أن تجعل من هذا البلطجى قدوة للشباب، وترسخ فى أذهانهم معانىَ مفادها أن الإنسان يجب أن يحصل على حقه بيده، وأن اللجوء إلى الجهات الأمنية والقضائية هو مضيعة للوقت، ومضيعة للحق، ولو عقدنا مقارنة مع فيلم «فتوات الحسينية» الذى تم إنتاجه عام ١٩٥٤، والذى قام ببطولته فريد شوقى ومحمود المليجى، سنجد أن الفتوة الحقيقى هو «بيومى زقلط» الذى قام بدوره فريد شوقى، وقد ورث الفتونة وأصولها من أبيه الذى أوصاه ألا يعتدى على الناس ولا يرتكب شرًا، فى حين أن البلطجى الذى كان يروِّع الناس ويعتدى على حقوقهم هو «جعلص» محمود المليجى، الذى كان يريد أن يحصل لنفسه على لقب فتوة الحارة، والمقابلة هنا كانت بين فتوة يبحث عن قيم الحق والعدالة، وبلطجى يريد أن يعتدى على الناس ويسرق أموالهم، وكلاهما له قوته وأتباعه، وفى هذا الفيلم سنحب الفتوة الذى يريد العدل والحق، ويريد لأهل الحارة الخير كله، وسنكره البلطجى الذى يعتدى على أهل الحارة، ورغم أن البلطجى انتصر فى البداية بعد أن دبر مكيدة تلقى بالفتوة فى السجن، إلا أن البلطجى فى النهاية يحصل على هزيمة كبرى، وينتصر الفتوة، وبالتالى ترتفع قيم العدالة، وتنكسر شوكة الظلم والبلطجة.
وقد سارت كل الأفلام التى تدور حول الفتوة والفتونة فى ذات الإطار، وكلها تقريبًا من تأليف عميد الرواية العربية نجيب محفوظ، ومعظمها مأخوذ من الرواية العبقرية «الحرافيش»، وكان منها فيلم المطارد لنور الشريف، وفيلم الحرافيش لمحمود ياسين، والتوت والنبوت لعزت العلايلى، وصولًا إلى فيلم الجوع الذى نرى من خلاله كيف يتحول الإنسان الخيِّر صاحب القيم العليا إلى إنسان شرير، وهو ما يترجم المعنى الذى أراده المخرج من أن القوة والسلطة يمكن أن تحوِّل صاحبها من النقيض إلى النقيض، وقد نجح أشرف فهمى فى ترجمة هذا المعنى ببراعة شديدة.
ويدور دولاب العمل الفنى لنصل إلى نمط آخر أصبح هو السائد، ففى فيلم إبراهيم الأبيض بطولة أحمد السقا ومحمود عبدالعزيز نجد أنه يدور حول صراع بين مجموعة من البلطجية، واللصوص، صبى يريد الانتقام لمقتل أبيه، فيشب على كراهية القاتل، ويعيش على أمل أن ينتقم، فيخضع نفسه لتدريبات، ثم ينضم لعصابة القاتل لكى يقترب منه، وتتوالى الأحداث التى نرى فيها كمية من الدماء، والعنف والكراهية، بحيث إننا يجب أن نتساءل: ما الرسالة التى يريد هذا الفيلم أن يوجهها للجمهور؟، وفى النهاية لن ترى رسالة ولكنك سترى هدفًا للمنتج، هو أن يضع هذا الكم من العنف ليحصل على مرتبة أولى فى شباك التذاكر.
ويدور دولاب العمل الفنى مرة أخرى، لنتحسر على أعمال ليس من ورائها أى هدف إلا جنى الأرباح، ومن خلالها يتم تشويه الوعى الجمعى للجماهير، وتشكيل مفاهيم شريرة فى نفوس الشباب، بأن أحدًا منهم لن تكون له مكانة إلا إذا كان مثل «عبده موتة» الذى قام بدور البطولة فيه محمد رمضان، وفى مثل أفلام هذا الممثل لن تجد إلا البلطجة والعنف وجلسات المخدرات، وطريقة استعمال السلاح الأبيض، وفى نفس عام فيلم «عبده موتة» نرى لذات الممثل فيلمًا آخر بنفس المعانى ونفس الطريقة، بلطجى، ومسجل خطر، ومخدرات وسرقات، قصتان شبيهتان، بنفس السوء الأخلاقى فى كليهما، بصورة مقززة، ولك أن تتعجب كيف تسمح الرقابة على المصنفات الفنية بمثل تلك النوعية المدمرة من الأفلام، والتى هى أشد خطرًا على الشباب من المخدرات، وإذا كنا قد أصبحنا نعيش تحت سماء الحرية، والدنيا كلها تعيش فى بيت واحد، ومواقع الأفلام مثل نت فليكس تسيطر حاليًا على سوق الأفلام، وأصبحت متاحة للجميع، إلا أن هذا لا يعنى أن يكون المُنتج الفنى المصرى بهذا الانحدار الأخلاقى تحت زعم أن العالم كله يمارس نفس الرذيلة.
ولكى يعرف الناس خطورة مثل تلك الأعمال أتذكر أنه فى فترة الستينيات عرض التليفزيون المصرى مسلسلًا كارتونيًا اسمه «فرافيرو العجيبى»، كان فرافيرو فيه يقوم بدور المنقذ للناس الذى يقبض على اللصوص، ويمنع الجرائم قبل ارتكابها، وفرافيرو «الكارتونى» هذا كان يطير ويحلق فى السماء، فإذا ببعض الأطفال فى تلك الفترة يظنون أن الطيران ممكن إذا قلد الواحد منهم فرافيرو فى طريقته، فترتب على ذلك وفاة عدد من الأطفال، حتى تم منع هذا المسلسل، هذا الأمر يعرفونه فى علم النفس الاجتماعى بالبرمجة الذهنية، وهو الأمر الذى خلفته أفلام البلطجة التى ابتعدت كثيرًا عن أفلام الفتونة، حتى أصبحت السينما فى أيامنا الأخيرة مجرد حالة من حالات البلطجة، وأخذت أعداد كبيرة من الشباب تقلد محمد رمضان البلطجى، وتمسك بالسلاح الأبيض، وتعتدى به على الناس، رأينا هذا كثيرًا وسنراه كثيرا لأنه بتلك الأعمال تم عمل برمجة ذهنية للآلاف من الشباب.