رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أبطالى فى السينما والدراما.. سلامٌ على الخواجة عبدالقادر


أقر وأعترف أننى أحببت الخواجة عبدالقادر وعشتُ معه ومن خلاله أمتع لحظات حياتى، ففى شهر رمضان منذ عدة سنوات عاد الخواجة عبدالقادر إلى الحياة مرة أخرى، وأقصد بعودته إلى الحياة أى عودته إلى حياتى أنا، وليس لأحد أن يتعجب من قولى هذا، فقد كان الخواجة عبدالقادر قد بُعِثَ فى حياتى أول الأمر فى أوائل الألفية التى نعيشها من خلال أحد الصالحين من أهل كفر الشيخ، وكان هذا الصالح قد تعرَّف على الخواجة عبدالقادر فى قرية «دراو» التابعة لأسوان بعد الحرب العالمية الثانية، ثم روى لى النذر اليسير مما جرى بينهما من الأحداث والوقائع، وأخفى عنى الكثير، ولكنه قال لى: ذات يوم ستعرف الخواجة عبدالقادر بالمكاشفة إن شاء الله تعالى، وأوصانى أن أُخفى ما قاله، ولذلك لا يجوز التعدى على خصوصيته بنشره وإفشاء سره، فكتمت هذا الأمر فى نفسى وأخفيته عن الجميع، ولكن اسم هذا الرجل كان يطرق باستمرار باب قلبى، وكانت صورته كثيرًا ما تداعب خيالى حتى وأنا منشغل بكل كيانى فى أمور حياتى وأعمالى، فأراه بلحيته الخفيفة وعيونه الزرقاء وابتسامته المحببة التى اكتسبت صفاءً مريحًا.

إلى أن عاد إلى الحياة مرة أخرى عام ٢٠١٢ كما قلت لكم، ولا أدرى من الذى أعاده للحياة؟ أهو الكاتب المبدع عبدالرحيم كمال مؤلف مسلسل الخواجة عبدالقادر؟ أم أنه العبقرى يحيى الفخرانى الذى نسى نفسه وأصبح هو الخواجة عبدالقادر بنفسه؟ أم أنه المخرج الشاب المتميز شادى الفخرانى؟ ولكنى لا أعلم حتى الآن من هو ذلك المُلهم الذى اختار أغنية التتر من قصيدة الحلاج: «والله ما طلعت شمسٌ ولا غربت إلا وحبك مقرون بأنفاسى ولا خلوتُ إلى قوم أحدّثهم إلا وأنت حديثى بين جلاسى»، فالذى عرفته ولا غضاضة عندى من أن أذكره أن الخواجة عبدالقادر فى الحقيقة كان مفتونًا بهذه القصيدة، يرددها ليل نهار، وعندما كان يأتى ذكر الحلاج فى مجلسه كان يبكى بالدمع الثخين، ولا أظننى أحسب أن هذا الاختيار كان مصادفة ولكنه كان إلهامًا، وإن كان قد جرى فى خاطرى أن المؤلف عرف قصة أثر هذه القصيدة فى حياة الخواجة عبدالقادر من خلال ما رُوى له عنه من الكبار فى عائلته.
وقد أحدثت قصة الخواجة عبدالقادر أثرًا كبيرًا فى حياتى فى فترة إذاعة المسلسل عام ٢٠١٢، كان المسلسل يذاع فى شهر رمضان، وشهر رمضان فى هذا العام الثقيل جاء بعد وصول الإخوان للحكم فى مصر بشهر، وكانت الدنيا قد ضاقت من حولى إذ كنت أعلم الخراب الذى يخطط له الإخوان لمصر بل ولأمتنا، فأخذت ألهج بالدعاء لله وأستغيث به عقب كل صلاة وأنا أردد «يا قادر يا قادر يا قادر» فإذا بعبدالقادر «الخواجة» هو قصة رمضان التى كانت عبارة عن رسالة تلقاها من تلقاها، وفهمها من فهمها، وكانت الرسالة هى أن يد الله لا ترفع عنا أبدًا، وأنه هو مسبب الأسباب القادر على كل شىء، وبقدرته لا بقدرتنا، وبحوله وبقوته دون حولنا وقوتنا سيحمى مصر.
أما أنا فقد أحببتك يا شيخ عبدالقادر، وأحببت قلبك الذى لا مثيل له فى الصفاء، أحببتك حينما روى لى شيخ عجوز قصتك، وأحببتك وأنا أراك رأى العين فى المسلسل الذى حمل اسمك، ولم أهتم بالمقارنة بين قصتك الحقيقية وبعض الاختلافات التى أوردها المسلسل عنك من باب «حرفية» العمل الدرامى وضروراته، ليس من المهم أن تكون إنجليزيًا أو ألمانيًا أو نمساويًا، أتيت إلى مصر أثناء الحرب العالمية الثانية، أو قبلها بسنوات، وليس من المهم أن تكون قد أصبت بالاكتئاب والرغبة فى التخلص من الحياة بعد مقتل شقيقك فى الحرب، أو أن الاكتئاب كان يصاحبك لشعورك بفراغ حياتك وعدم جدواها، أو عدم إيمانك بوجود خالق للكون، لا يهم أن تكون قد أحببت فتاة من الصعيد وأصبحت مشغوفًا بها، أم أن حبك لله لم يجعل لأحد من الناس مكانًا فى قلبك، فأنت الذى قلت لمن زارك فى قرية «دراو»: «إن حبى لله جعلنى أحب كل خلق الله، وما كان حبى للمخلوق إلا تابعًا لحبى للخالق».
نعم، كان المهندس «هربرت دوبر فيلد» واسمه الحقيقى «جليوس فاجو بورتليمو» والذى أصبح اسمه فيما بعد «عبدالقادر عبدالباقى المكاشفى» أو الخواجة عبدالقادر النمساوى، كان يرفض نمط الحياة الأوروبية المادية القاسية التى لم يكن فيها أى قدر من الروحانيات، نعم كان الخواجة عبدالقادر النمساوى يحب الخمر ويعبها عبًا إذ كان يجد فيها ملاذه، أو قل إنه كان بها يهرب من قسوة الحياة، وانشغال الناس بأنفسهم، واحتقارهم للعلاقات الإنسانية الودودة، ولكنه ذات يوم بعد أن لعبت الخمر برأسه رمى نفسه على فراشه فى بيته الصغير، وحينما استيقظ وجد نفسه ملقى على الأرض بجوار الفراش، وكأنما أصابت جسده هزة عنيفة ألقته على الأرض، وعندما أغمض عينيه مرة أخرى راح فى سبات عميق، وفى سباته هذا رأى رجلًا أسمر يعتمر عمامة بيضاء على رأسه، وكان هذا الأسمر ينظر له ويبتسم ويشير له بيده وكأنه يقول له: تعالى! وشاءت أقدار الله أن يسافر هذا المهندس المخمور إلى جبل الأولياء بالسودان الذى كان جزءًا من مصر آنذاك، وكانت الشركة التى يعمل بها قد أُسند إليها إنشاء خزان جبل الأولياء، وهناك فى المعسكر الذى كان يقيم فيه هو ومهندسو وعمال الشركة سمع موسيقى غريبة تتهادى إليه من بعيد، كان وقعها على نفسه غريبًا، إذ أشاعت فى روحه الطمأنينة والهدوء وراحة البال، وكأنها انبعثت من عالم سحرى لا وجود له فى الدنيا، فاقترب من مصدر الموسيقى، حينئذ تخيلتُ وأنا أشاهد هذا المشهد سيدنا موسى عندما رأى نارًا من بعيد، أظنكم تعرفون هذا الموقف وتحفظونه، فالله سبحانه قال عن موسى: «إِذْ رَأَىٰ نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّى آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّى آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى» ولكن الخواجة سمع موسيقى فذهب إليها فوجد عندها هُدى.
كان الخواجة قبل ذلك كاد أن يكفر بالله، وكان كفره عبارة عن اعتراض نفسى على حياته، وكأنه يلقى باللائمة على الله، وهكذا معظم الملحدين، فى نفوسهم نقمة فيعترضون على الله، فينكرونه، وكأن هذا الإنكار يريح ضمائرهم، وعبدالقادر كان مثل هؤلاء، لم تكن حياته تسير على هدى، بل كانت عبثية، كان ناقمًا أن جاء إلى تلك الجبال البعيدة جدًا عن بلاده، غاضبًا من ناس ظلموه عندما كان يعيش فى النمسا، فلم يجد ناصرًا له، وتحت هذه الجبال البعيدة عن بلاده، فى السودان المصرى عند جبل الأولياء بالقرب من الخرطوم، أيقن أن حياته يجب أن تنتهى، وأنه يجب أن يقضى عليها بنفسه، كانت هذه هى الأفكار التى تسيطر عليه حينما كان يستمع إلى الموسيقى التى جاء صوتها إليه من بعيد.
فإذا به ينتفض من غفوته، يا الله، فحينما وصل إلى مصدر الموسيقى ورأى الجالسين يتحلقون حول شيخ كبير، ظن أن نظره يخاتله، أو أن ما شربه من قنينة الخمر أسكر بصره، وخدع عقله، فالشيخ الذى كان يجلس وسط هذه المجموعة من الناس هو هو ذلك الشيخ الذى كان يأتى إليه فى المنام حينما كان فى أوروبا! أيمكن أن تنتقل الأرواح من مكانها لتزور من يُشبهها؟ وأنتم تعرفون أن شبيه الشىء مشدود إليه، ولأننى كنت أعرف أن هذا اللقاء انتهى بالخواجة إلى الإقلاع عن الخمر تمامًا، وأنه أسلم بعدها بأيام قليلة، ولكننى أحببت هذه الانسيابية التى صاحبت الخواجة وشيخه فى مسألة الإقلاع عن الخمر، وضحكت وأنا أرى الشيخ فضل الله يحذر الخواجة من ارتكاب الكبائر مثل القتل والسرقة والزنا وشرب الخمر، ويوافق الخواجة على قائمة المحرمات، ولكنه ببساطة محببة وبتلقائية مذهلة وخفة ظل طاغية يساوم الشيخ فضل الله فى شرب ولو قليل من الخمر، ولكن التنبيه كان صارمًا، وعندما يعود الخواجة إلى بيته يضعف، ويشرب من الزجاجة التى كان فضل الله قد ملأها له، ويسكر الخواجة، ثم يعرف عبدالقادر أن الذى كان فى قنينة الخمر هو شراب العرديب «التمر هندى»! وأن الله أسكره من شراب لا يُسكر!
هل أصبح عبدالقادر بعد إسلامه على يد الشيخ المكاشفى عالمًا، أو فقيهًا، أو مُحدثًا، أو أو أو ؟ لم يكن أى شىء من هؤلاء، ولكننا من قصته عرفنا أنه كان أعلى من كل الفقهاء والمحدثين والعلماء، مع الشيخ عبدالقادر اكتشفنا أن الله يوم القيامة لن يُجرى لنا امتحانات فى الفقه وعلوم الحديث، ولكنها الجامعات المعنية بدراسة تلك العلوم هى التى تجرى تلك الامتحانات لطلابها، ولكن الله يمتحن القلوب، وقلب الخواجة عبدالقادر أصبح صافيًا كاللبن الحليب، ليس فيه أى شائبة، فقد أصبح لا يحفل بالدنيا، زهد فيها ونظر إليها نظرة المسافر المرتحل، ومع زهده هذا تذكرت قصة أحد الفقراء الذى كان من الزاهدين، حين تقابل مع واحد من كبار الأغنياء وكان أيضا زاهدًا، فقال له الفقير: أنت أفضل منى، فأنا زاهد فى الدنيا وهى ليست معى، وأنت زاهد عن الدنيا وهى معك.
ومع زهد الخواجة عبدالقادر لم أتعجب من قلبه الذى أحب تلك الفتاة الصعيدية، أحبها وأمسك يدها لتكون معه فى الطريق إلى الله، نعم يمكن للشيخ أن يُحب، وقد تكون من أحبها هى الوتد الذى سيرتقى به فى الطريق إلى الله، ومع قسوة طبائع أهل الصعيد إلا أن إصراره على المضى قدمًا فى حبه حرَّك مشاعرى، فأنت تستطيع أن تتنازل عن المال والجاه والسلطان، ولكنك لا تملك أبدًا أن تتنازل عن الحب، وقلب عبدالقادر أصبح وكأنه هو الحب نفسه، وحينما ادلهمت الخطوب بالحبيبين، ودبَّر شقيق زينب حبيبة الخواجة أمر قتلهما، فقد كان هذا الشقيق هو كبير القرية وصاحب الأمر والنهى فيها، كان عبدالقادر يستغيث بالقادر، فقد انتهت أسباب الدنيا ولا منجاة لهما إلا من القادر خالق الأسباب.
كانت شخصية الخواجة عبدالقادر فى المسلسل بالنسبة لى رسالة من رب العالمين، استقبلتها بقلب امتلأ بالرجاء، وغضبت من كل الذين أساءوا له، ولكننى أشفقت عليهم لأنهم لا يعلمون، إذ لو كانوا يعلمون أن الله يؤتى الحكمة من يشاء من عباده، وأنه يُلهمها بعلم من لدنه لانتبهوا، ولكن الناس سيظلون فى غفلتهم يعمهون، فسلامٌ عليك يا عبدالقادر، سلامٌ على قلبك المطمئن، سلامٌ على نفسك الراضية، وسلامٌ على الكاتب عبدالرحيم كمال الذى مس شغاف قلوبنا بعبدالقادر وقصته، وسلامٌ على العبقرى يحيى الفخرانى الذى كان كأنه عبدالقادر.