رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

القيادة العسكرية التركية فى ليبيا تجتاح الساحل الغربى


«قوات الجيش الوطنى الليبى» إنشغلت منذ أوائل مارس 2020، بمحاولة إختراق جبهة «ميليشيات السراج» جنوب شرق مصراتة.. دفعت بتعزيزات عسكرية تابعة للكتيبة «128 مشاة» الى محور «الوشكة«.. سيطرت على بوابة بوقرين الغربية، بعد تدمير رتل من «22 سيارة» مسلحة وغرفة عمليات.. دمرت محطتي رادار تركيتين، ومنظومة «هوك» للدفاع الجوي، وبطارية صواريخ أرض جو صينية الصنع عيار 107 مم، في القاعدة الجوية بمصراتة، ومستودع ذخيرة شرقها.. قصفت غرفة عمليات التحكم بالطيران المسير، ومقرات إقامة الضباط الأتراك بالكلية الجوية.. وأسقطت طائرة مقاتلة طراز «L 39»، وأخرى تركية مسيرة.. «الجيش» قام بنشر قواته على مساحات متباعدة، معتمداً على تفوقه الجوى، ومتجاهلاً ان تركيا قد تمكنت من تعزيز دور الطيران المسير فى المعركة، على نحو قلل من فعالية السيطرة الجوية للجيش، ما كلفه بعض طائراته المروحية والمسيرة.. الإختيار الإستراتيجى للجيش جانبه الصواب، فـ«طرابلس» معركته الرئيسية، وهو لن يستطع دخول مصراتة، خاصة بعد ان سحبت معظم تشكيلاتها المقاتلة من العاصمة.
على الناحية الأخرى كانت القيادة التركية فى ليبيا قد تولت قيادة عمليات ميليشيا السراج والمرتزقة السوريين، وأهم مالفت نظر الضباط الأتراك هو ضيق ميادين المناورة نتيجة عدم وجود عمق للأراضى التى تحوزها، لذلك وضعوا على رأس أهدافهم توسيع نطاق جبهة طرابلس فى إتجاه الغرب، بحيث يتسنى الوصول الى الحدود التونسية، مما يوفر عمقاً ومرونة فى الحركة، ويضمن إستمرار حركة التجارة والسفر، خاصة فيما يتعلق بالحصول على المواد التموينية والإستراتيجية، بخلاف مايوفره ذلك من دعم التنظيمات المتطرفة فى تونس.. الهدف مغرى، لكنه أثار قلق السراج، لأن ميليشياته كانت حتى منتصف يناير الماضى فى طريقها للسقوط، نتيجة نقص الأفراد والعتاد، فكيف يمكنها إكتساب أراض جديدة؟!.. الميليشيات والفصائل السورية شنت عدة هجمات إستطلاعية، على محاور مختلفة منذ نهاية مارس الماضى، حققت تقدما لبعض الوقت، ولكن سرعان ما انسحبت.. وبارجة تركية أطلقت صواريخها من عرض البحر، سقطت في منطقة الظهرة الزراعية جنوب مدينة العجيلات الخاضعة لسيطرة الجيش، غرب طرابلس مطلع ابريل.. لكن الجيش تصور ان المستهدف قاعدة «الوطية» التى تقع عل نفس الخط الى الجنوب.. عمليات جس النبض حققت هدفها الخاص بتشتيت دفاعات الجيش، والتمويه على محور هجومها الرئيسى.
ليبيا شهدت تطورات ميدانية متسارعة منذ 13 ابريل، حيث نجحت ميليشيات السراج بمساندة مباشرة من سلاح الطيران التركى ووحداتها البحرية، في السيطرة على مدينتي صرمان وصبراتة الواقعتين غرب العاصمة طرابلس، وغنمت عدداً من المدرعات وعربات صواريخ جراد و10 دبابات وآليات مسلحة، مايعكس نجاحها فى توفير عنصر المفاجأة الكاملة للهجوم.. وانطلقت منهما فى إتجاه مدينة العجيلات، حيث وجهت إنذاراً لقوات الجيش المتمركزة فى الجميل وزلطن ورقدالين بالمنطقة الغربية، وطالبتهم بإلقاء السلاح، وبالفعل تمكنت من السيطرة عليهم، إضافة إلى منطقتي العسة ومليتة الهامتين، وبذلك إستكملت سيطرتها على المنطقة الساحلية من مصراتة حتى الحدود مع تونس.. الغريب ان الميليشيات بمجرد دخولها مدينة صرمان 13 ابريل، سارعت بفتح السجن وإطلقت سراح 393 نزيلا، معظمهم من العناصر الإرهابية والمتطرفة، وذلك بهدف احداث حالة من الفوضى وزعزعة الأمن، فضلاً عن السعى لضم عناصر من المفرج عنهم الى صفوفهم كمقاتلين.
نتيجة إجتياح الميليشيات للغرب الليبى إنعكست على لغة الخطاب السياسى للمسئولين؛ فايز السراج فى مقابلة مع وسائل الإعلام الإيطالية، اعلن انه لا ينوي استئناف محادثات السلام مع حفتر مستقبلاً، وأكد أن قواته باتت جاهزة للسيطرة على كامل الأراضي الليبية!!.. فتحى باشا أغا وزير الداخلية اكد ان أن حكومته باتت أقوى مما كانت عليه سابقا، وتعهد ببدء مواجهة الجيش بـ«يد من حديد»!!.. وصوت الإخوان عاد من جديد يؤكد وجودهم؛ بفتوى الصادق الغرياني التى تجيز تنفيذ تفجيرات انتحارية ضد قوات «الجيش»، معتبراً أن تهريب المعتقلين المتشددين من سجون غرب ليبيا «دعامة من دعائم النصر».
ميليشيات السراج تحت القيادة التركية وبدعم من المرتزقة السوريين هاجمت قوات الجيش على عدة محاور.. بدات بالتقدم للسيطرة على قاعدة عقبة بن نافع الجوية بمنطقة «الوطية» 125 كيلومترا جنوب غرب طرابلس، وهي أقرب قاعدة إستراتيجية تابعة للجيش إلى العاصمة، وتعتبر المركز الحيوي للعمليات الجوية في المنطقة الغربية، طيران الجيش تصدى للهجوم، واستهدف عدة أرتال كانت في طريقها إلى الهدف.. مناطق تمركز الجيش بمدينة عين زارة جنوب شرق العاصمة طرابلس تعرضت للهجوم ايضاً، لكن قوة عمليات أجدابيا تصدت لها، ونجحت فى تدمير 3 عربات مسلحة وقتل أكثر من 15 إرهابيا.. المحور الثالث لهجوم الميليشيات يستهدف «ترهونة» 80 كم جنوب شرق العاصمة طرابلس، والتى تعتبر المعقل الرئيسي الأخير للجيش في غرب البلاد، بعد خسارته لقاعدته الهامة ومركز عملياته فى مدينة «غريان»، معظم أهل المدينة موالون للجيش، وتعتبر المصدر الوحيد لخطوط إمداد قواته على تخوم طرابلس، كما تشكل نقطة انطلاق لقطع الإمدادات عن ميليشيات مصراتة بالعاصمة.. القيادة التركية للميليشيات تدرك أهمية «ترهونة»، لذلك تضغط عليها دون إنقطاع منذ 18 مارس، وقيادة الجيش تتفهم ان سقوطها يعنى إجهاض كل المكاسب التى تم تحقيقها عبر معركة طرابلس، مما يفسر ضراوة القتال والخسائر الضخمة التى يتكبدها الجانبين.
الرهان على تأثير فيروس «كورونا» على الأطماع التركية فى ليبيا أمر غير وارد، بل العكس، يصمم أردوغان على مواصلة الدعم العسكري للسراج، رغم مايمثله ذلك من عبء على الاقتصاد التركي، الذى يعاني من ضغوط عديدة، أدت الى تأخر صرف رواتب المرتزقة السوريين في ليبيا.. ذلك ان تراجع تركيا يعنى هزيمة قاسمة، وخسارة إقتصادية فادحة.. الصادرات التركية إلى ليبيا بدأت فى الزيادة مؤخراً على النحو الذى يتوقع معه وصولها الى 3 مليارات دولار خلال 2020.. الإستثمارات التركية فى المشاريع الليبية تبلغ 19 مليار دولار، لكن معظمها لم يكتمل لظروف الحرب.. مستحقات المقاولين الأتراك بلغت 4 مليار دولار، مابين دفعات مالية وضمانات وآلات ومعدات، ناهيك عما تمثله ليبيا من سوق واسعة لإستيعاب المنتجات التركية.. وفى نفس الوقت تعتبر منفذاً للسوق الأفريقية بفضل موقعها الإستراتيجى، مايكسبها أهمية خاصة فى مجال تفعيل الإتفاقيات الاقتصادية التي وقعتها تركيا مع الدول الإفريقية.. كل ذلك يعنى ان تركيا ، لن ترحل من ليبيا الا بـ«الدماء».
الاتحاد الأوروبي أطلق عملية «إيريني» العسكرية في البحر الأبيض المتوسط نهاية مارس الماضي، تستهدف القيام بمهام تفتيش بحرى لضمان تطبيق الحظر الدولى القائم على تصدير السلاح عن طريق البحر، وتدريب عناصر خفر السواحل الليبي على مراقبة الأنشطة الإجرامية، ومراقبة وجمع المعلومات حول التهريب، والتصدير غير المشروع للنفط والمنتجات النفطية، الا ان عدم إمتلاكها لأى آلية تنفيذية لوقف تهريب السلاح عن طريق الجو، واقتصارها على الرصد بالطيران والأقمار الصناعية، يحد من فاعليتها.. كذلك لم يتم تحديد كيفية التعامل مع السفن التركية التى تحمل أعلاماً أجنبية، أو التى تبحر مصحوبة بسفن حربية.. تركيا وحكومة السراج تحفظتا على العملية، وذلك متوقع، نظراً لتأثيره السلبى على تدفقات الأسلحة التركية، لكن الغريب هو التحفظ الروسي، الذى يرجع لأسباب لاعلاقة لها بالأزمة اللييبة، بقدر تعلقها بحرص موسكو على إمتلاك حرية الملاحة كقوة عظمى فى البحر المتوسط.. العملية الأوروبية لن يكون لها تأثير على التطورات الميدانية العسكرية، على الأقل فى المدى القصير.
ردود الفعل الدولية تجاه التمدد التركى فى الساحل الغربى الليبى كانت بالغة المحدودية، فالكل مشغول فى «الجائحة»، وهى فرصة لكل من يرغب فى تحقيق مكاسب، فى غفلة من المجتمع الدولى، أو حسم قضايا مستعصية، دون إثارة الكثير من ردود الفعل.. عقيلة صالح رئيس مجلس النواب الليبي وجه خطابا إلى أنطونيو غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة، وسفراء الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي بشأن «العدوان التركي».. والخارجية الليبية ببنغازى وجهت رسالة مفتوحة للشعب التركى، تحرض على أردوغان وحزب العدالة والتنمية الحاكم، لدعمهما الصريح للإرهاب، وما سبباه من إضرار بالعلاقة التاريخية بين الشعبين الليبى والتركى، هذه الرسالة محدودة الأثر، إزاء ما اكدته نتيجة التصويت فى البرلمان التركى على إتفاقات السراج من موافقة غالبية النواب.
رد الفعل العربى الوحيد صدر من تونس، وكان صادماً؛ الرئيس التونسي قيس سعيد اتصل بالسراج فى اليوم التالى لسيطرة الميليشيات على الساحل الغربي، ليؤكد موقف بلاده الرسمى الواضح من مسألة دعم حكومة السراج، وأعرب عن ثقته في قدرته على بسط سلطاته على كامل الأرض الليبية!!.. الرئيس التونسى لم يضع فى حساباته وجود القيادة التركية للعمليات، ولا العسكريين الأتراك، ولا المرتزقة السوريين، ولا التعاون مع التنظيمات الإرهابية، أو فتح السجون للإفراج عن عناصرها.. أما الجامعة العربية فلاتزال فى بياتها الشتوى.. لعلهم يستيقظون قبل لهيب الصيف.
22 ابريل 2020