رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اليوم التالى لـ«كورونا» «2»


تطرّقت فى مقالٍ سابق إلى عددٍ من المُتغيرات الاستراتيجية، المُرَجَّح حدوثها، غداة اليوم التالى لحصار وباء «كورونا المُستجد»، «كوفيد- ١٩»، والانتهاء من لجم اندفاعاته الكارثية، التى ضربت قطاعًا واسعًا من البشر، فى دول مختلفة من دول العالم، لا فرق فيها بين غنى وفقير؛ متقدم ومتخلف، على نحو ما تابعنا جميعًا، ونتابع تطورات الموقف ساعة بساعة، وقد أوجز «أنتونى فوتشى»، مدير «المعهد الوطنى للحساسية والأمراض المُعدية» فى الولايات المتحدة، ومستشار الرئيس الأمريكى «ترامب»، القضية فى جملة واحدة: «إن العالم لن يعود إلى ما كان يُعتبر طبيعيًا قبل ظهور فيروس كورونا المُستَجد».
إن الوضع الراهن بين الولايات المتحدة والصين، والاتهامات المُتبادلة بينهما بشأن مصدر العدوى بالفيروس، ومحاولة الرئيس «ترامب» وإدارته إلقاء المسئولية فى ارتباك أداء المنظومة الرأسمالية الاحتكارية المتوحشة، فى طبعتها النيوليبرالية الأمريكية المعولمة، إزاء هجمة الفيروس على الجانب الصينى، والرد الصينى الحاد على هذا الاتهام- يعكس جانبًا من مُقدمات التغير فى أوضاع وترتيبات التوازنات العالمية فيما بعد الجائحة، ويُشير إلى أن المعركة على إعادة ترتيب الأوراق الكونية، والصراع على أوضاع «عالم ما بعد كورونا»، قد بدأ، وبضراوة، حتى قبل أن تنتهى المعركة ضد هذا الفيروس اللعين.
ومن المؤكد أن رياح التغيير ستعصف باستقرار آخر، هذه المرة، يخص «القارة العجوز»، أوروبا، و«وحدتها» الديناميكية، التى كانت مضرب الأمثال فى عمق النظرة وكفاءة الأداء، وتعالوا نراجع بعض الأمثلة الدالة فى هذا السياق:
١- عجز المؤسسات الصحية فى هذه الدول فى مواجهة الأزمة، ونقص الإمكانيات الطبية عن الوفاء بحاجات مواجهة المرض، بشكل صادم، على النحو الذى نقلته وسائل الإعلام الغربية ذاتها.
٢- عجز المنظومة الغربية اللوجستية عن الوفاء بحاجات الشعوب الضرورية للمعيشة فى العديد من دولها، إلى الحد الذى أوضحت وسائل الإعلام بعض ملامحه فى دولة كبرى كبريطانيا، حيث كتبت تحت عنوان: «الجوع يُهدد ١.٥ مليون بريطانى بسبب الإغلاق»، مُشيرة إلى أنه «بعد مرور نحو ٣ أسابيع على الإغلاق الكامل الذى فرضته المملكة المتحدة، لمكافحة تفشى وباء كورونا العالمى، ضربت أزمة جديدة بريطانيا، وهى أزمة الجوع، التى بدأت تتسارع بين الملايين بسبب عزل أنفسهم وخسارتهم دخولهم نتيجة الإغلاق الاقتصادى، مع عدم حصولهم على أى مساعدات حكومية، وكشفت مؤسسة الغذاء فى المملكة المتحدة عن أن ١.٥ مليون بريطانى يقضون أيامًا كاملة دون الحصول على وجبات غذائية، لأنه لم يكن لديهم ما يكفى فى منازلهم، وذلك وسط أزمة غذائية مُتنامية، وأظهر استطلاع للرأى أن ٦٪ من السُكّان، أى أكثر من ثلاثة ملايين شخص، لا يتناولون العشاء، وأفاد الاستطلاع بأن أكثر من مليون شخص قالوا إنهم فقدوا كل دخلهم نتيجة الإغلاق». (الأهرام- ١٣ أبريل). وهو أمر مُستغرب، لم يحدث فى دول أخرى أضعف اقتصاديًا: ومنها مصر على سبيل المثال.
٣- التصرفات الأنانية والذاتية لكل دولة من دول المنظومة الأوروبية الموحدة، والامتناع عن مد يد العون للآخرين، وسيادة مبدأ: «أنا ومن بعدى الطوفان»، وغياب أى جهد تنسيقى بين مكونات هذه المنظومة، والأدهى تصرفات «القرصنة» من بعض الدول لاقتناص شحنات طبية موجهة من الصين لمساعدة دول أخرى، بحجة الحاجة الماسة لها.
٤- السقوط الأخلاقى الذى يعكس انحدار منظومة القيم الإنسانية الحاكمة لهذه المجتمعات، على سبيل المثال إصدار التعليمات بمنع أجهزة التنفس الصناعى عن كبار السن، والترويج لنظريات «مناعة القطيع» المبنية على فلسفة «البقاء للأصلح»، وما كشفه وباء «كورونا المُستجد» عن تفشى القيم والممارسات العنصرية فى أمريكا، بالكشف عن أن النسبة الأكبر من المصابين والمتوفين بعدوى الفيروس هم من الأمريكيين الإفريقيين، بسبب «عوامل بيئية واقتصادية» متراكمة، كما أشار الخبراء.
٥- وفوق ما تقدّم، فإن التداعيات الاقتصادية المؤكدة، المترتبة على معركة الفيروس، كالركود الاقتصادى، وتباطؤ مُعدلات النمو، وإغلاق عشرات الآلاف من المؤسسات الاقتصادية، وفقدان الملايين وظائفهم ومصدر دخلهم، وعجز آليات الضمان الاجتماعى عن حمايتهم فى هذه الأوضاع المأساوية ستضاعف من مشكلات ما بعد الوباء.
والخلاصة أن منظومة الوحدة الأوروبية أيضًا، وربما أيضًا «حلف الناتو»، وغيرهما من المؤسسات الشبيهة، لن تكون بمنأى عن النتائج العميقة لضربة فيروس «كورونا»، وهو ما أكدته تصريحات عديدة لمسئولين رفيعى المستوى فى إيطاليا وفرنسا وإسبانيا والتشيك، وغيرها.