رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رؤية فى رؤية الهلال يا فضيلة المفتى


نحن الآن قُدَّام شهر رمضان، على وشك أن نلحق به ويلحق بنا إن كتب الله لنا عمرًا، ولأن فضيلة مفتى الديار المصرية سيُرسل حتمًا لجانه الشرعية لتستطلع الهلال من خلال الرؤية البصرية، وذلك وفقًا لما أعلنته دار الإفتاء فى بيانها الذى صدر منذ عدة أيام، فإننى أود بهذه المناسبة أن أخاطب فضيلة المفتى خطاب الأخ لأخيه، والمُتعلم للمُعلم، وأحسب أنه سيقرأ خطابى هذا بعناية العالم، ويحدونى الأمل أن يكون فهيمًا فى موضع الفتوى، مجددًا فى موضع التجديد، مقدامًا فى موضع الإقدام، وإنى لأحسبه كذلك.
تعلم يا فضيلة مفتى ديارنا المحروسة أنه ليست هناك لغة من اللغات الحية بلغت من التمام والكمال ما بلغته لغتنا العربية، ولا توجد لغة تتفوق عليها فى الغنى والثراء والاتساع والامتداد، ولا لسان يقترب فى دقته المدهشة العجيبة من لسان القرآن الكريم.. ملحوظة «الكمال فى اللغة غير التمام، واللغة غير اللسان، والدهشة غير العجب، والغنى غير الثراء، والاتساع غير الامتداد»- وقد أظهر القرآن الكريم لنا معجزة اللغة العربية، فعرفنا من خلاله أن الضوء غير النور، فرب العزة يقول «هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا» والجسم غير الجسد، فالجسم يطلق على ما يكون فيه روح وحركة، أما الجسد فيطلق على مـا ليس فيه روح أو حياة؛ وذلك استنادًا لقول الله تعالى: «وَإذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ»، وقوله تعالى «وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا».
وتعلم فضيلتكم بما توافر لديكم من علم ومعرفة أن الصب غير السكب، فالصب يدل على شدة الاندفاع والقوة، لذلك يقال عن المُحب الذى اندفعت مشاعره بقوة إنه «صب»، كقول الشاعر: «الصب تفضحه عيونه»، وعن الصب الذى يدل على شدة الاندفاع قول الله سبحانه وتعالى فى سورة عبس: «أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا» ومثله قوله سبحانه وتعالى فى سورة الفجر «فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ» أما السكب فيدل على نزول السائل برفق وهدوء وتتابع مثل قوله سبحانه وتعالى فى سورة الواقعة «وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ، وَمَاء مَّسْكُوبٍ» وهكذا دواليك، وعند هذا الحد أقول لنفسى: حسبك، إذ لا يجوز فى حضرة الفقيه الإطالة فى هذا الباب أكثر من هذا، ولكنها مجرد أمثلة ضربتها، ولا يغيب عن فضيلتكم أن تتبع الفروق فى اللغة العربية والقرآن الكريم يحتاج إلى مجلدات ومعاجم تتشابه، أو تتماثل، أو تتطابق مع معجم الفروق اللغوية لأبى هلال العسكرى.
فلماذا بعد كل هذا يا فضيلة مفتى ديارنا المحروسة نقصر رؤية هلال رمضان على رؤية البصر وحده دون غيره، مع أن القرآن الكريم لم يقصر الرؤية على رؤية البصر فقط؟، نعم أنا معك يا فضيلة المفتى فى أن آراء كثير من العلماء وأصحاب المذاهب تواترت على أن رؤية هلال رمضان يجب أن تكون بالبصر، ليس هذا فحسب، بل قال بعضهم إن الرؤية يجب أن تكون مقصورة على البصر المجرد دون الاستعانة بآلة أو عدسة لتقريب المسافات، أو دون الاستعانة بالمراصد والحسابات الفلكية لإدراك الهلال.
والحجة التى يستند إليها أصحاب هذا الرأى ويستندون عليها هى الأحاديث الصحيحة، إلا أنها مع صحتها ظنية الدلالة، ومنها ما أورده البخارى ومسلم فى صحيحيهما عن حديث أبى هريرة أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غبى عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين»، وهناك أحاديث كثيرة تورد نفس المعنى مع اختلاف فى بعض الألفاظ والكلمات، فأنتم تعلمون قبل غيركم أن معظم الأحاديث رُويت بالمعنى وليست بحصر اللفظ، وهذه الأحاديث فى رأى أصحاب «رؤية الهلال بالعين المجردة» تدل عندهم على تعليق الصوم والفطر على رؤية هلال رمضان وشوال رؤية بصرية، بالعين دون غيرها، وقد أجاز البعض مثل ابن باز وابن عثيمين الاستعانة بالعدسات التلسكوبية، ولكن الألبانى اشترط أن تكون الرؤية بالبصر دون الاستناد إلى وسيلة رؤية تُقرِّب المسافات، وكل أتباع المذاهب فى زماننا، نقلوا عن أشياخهم، وأرباب مذاهبهم، لذلك لم يجيزوا الرؤية عن طريق الحسابات الفلكية العلمية، أو الأقمار الصناعية.
وإذا كانت الأحاديث الشريفة يا فضيلة المفتى قد وردت بها ألفاظ الرؤية على إطلاقها دون أن تتقيد بالبصر، فإنه لا يجوز صرفها إلى الرؤية البصرية دون غيرها من وسائل الإدراك، لأن الرؤية أوسع وأعم وأشمل من المشاهدة والبصر والنظر، ولا يجوز الاستناد إلى قول الرسول، صلى الله عليه وسلم، «فإن غم عليكم فاقدروا له» أو «عدوا ثلاثين ثم افطروا»، لأن أحاديث الرسول، عليه الصلاة والسلام، ليست موجهة لجيل واحد فى زمن واحد، ولأن غم الهلال على الناس أو ستره قد يكون لقوم ليست لديهم إمكانيات الرؤية العلمية فماذا يفعلون حينئذ؟ يفعلون ما أمرهم به الرسول، صلى الله عليه وسلم، فى الحديث، أما الذين يمتلكون كل الممكنات العلمية والعقلية والحسابات الرياضية والفلكية والمراصد وغيرها مما ستتيحه العلوم المستقبلية لهم فلن يغم عليهم، هذا عن شبهة «إن غم علينا الهلال»، أما وقد وردت الرؤية فى الأحاديث على العموم فينبغى أن تفهم على سياق هذا العموم دون أن نضع لها قيد البصر، فالرؤية لغة غير النظر والبصر والمشاهدة، وقد وردت الرؤية فى كثير من الآيات فى القرآن الكريم على نحو يدل على الإدراك بحاسة غير حاسة البصر، وتدل على الإدراك بالفؤاد والعقل والقلب، فالكثير من آيات «أَلَمْ تَرَ» اتفق المفسرون على أن معناها ألم تعلم، فالرؤية هنا هى العلم مثل قوله تعالى فى سورة البقرة «أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِى إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ» أى: ألم يصل إلى علمك، وقوله سبحانه «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ» و«أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ» أى: ألم تعلم.
ولا أزيدك علمًا إذا قلتُ إن الله قال فى سورة النجم «مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى» والذى رأى هنا هو الفؤاد وليست العين يا فضيلة مفتى ديارنا، وأنت الأعلم منى بالفروق بينهما يا مولانا، وهناك آيات الرؤيا التى يدرك الإنسان فيها ويشاهد الأشياء وهو فى سبات عميق وعينه معطلة عن النظر، مثل قوله سبحانه وتعالى فى سورة يوسف «وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّى أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ»، والرؤية هنا كانت فى نومه، فالإنسان يرى فى منامه بفؤاده وليس ببصره، وقول يوسف عليه السلام «يَا أَبَتِ إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ»، وقوله سبحانه فى سورة الصافات على لسان سيدنا إبراهيم «قَالَ يَا بُنَىَّ إِنِّى أَرَىٰ فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ»، ولو كنا فى مجال الإحصاء لأحصينا الكثير والكثير ولكن المقام لا يتسع.
وأظنك يا مولانا تبحرت فى هذا الباب، وتعلم أن الكلمة فى اللغة التى تعنى إدراك الأشياء بالعين هى «البصر»، كقوله سبحانه وتعالى فى سورة البقرة «وَتَرَكَهُمْ فِى ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ» فلم يقل هنا: لا يرون، وفى سورة الأعراف «وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا» وفى سورة طه «قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ»، ولم يقل: رأيت بما لم يروه، وتُستخدم كلمة البصر ومشتقاتها أحيانًا للدلالة على الوضوح مثل قوله تعالى فى سورة الإسراء «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَىْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا»، وهذه الآية فى حد ذاتها تشير إلى أن الأيام والشهور والسنين إنما تكون من توالى الليل والنهار، ومن هذا التوالى نعرف الحساب والعلوم الفلكية التى نحسب بها عدد الشهور ثم عدد السنين.
أما كلمة النظر يا مولانا الفقيه فتُستخدم لغة للدلالة على اتجاه الإنسان بعينه إلى الأشياء، ففى سورة البقرة «وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ» وفى سورة البقرة أيضًا «فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ» وفى سورة الأعراف «وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ»، والآية هنا اشتملت على النظر والبصر، ذلك أن النظر وفقًا لما ورد فى كتب فقه اللغة هو توجه العين إلى الشىء، فنقول: نظر إلى المفتى فأبصره جالسًا، وأبصره أى رآه بعينيه، ونقول: رغم أنه نظر إليه إلا أنه لم يبصره، ومن ذلك قول الله سبحانه وتعالى فى سورة الأعراف «وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ».
فإذا كانت كلمة الرؤية فى اللغة عظيمة الاتساع فى معانيها وفقًا لما سبق، فهى تعنى الإدراك بالنظر، أو البصر، أو المعرفة، أو الفهم، أو العلم، فهل يصح لنا فى مجال رؤية الهلال أن نضيق واسعًا، ونتجمد عند أحد معانى الرؤية دون باقى المعانى الأخرى، ومن غير أن يكون هناك نهى وفقًا للأدلة الشرعية- عن استخدام باقى معانى الرؤية، أنا أعلم يا مولانا أنك فقيه، ورغم أنك مالكى المذهب إلا أننى أرى فيك مجددًا، لا تقف عند قول المذهب، ولكن تنطلق بعقلك الذى وهبه الله لك، فتنظر إلى النصوص الشرعية، وتستخرج منها ما غاب عن الأولين، ليس لآفة فى تفكيرهم، ولكن لأننا فى زماننا أُتيحت لنا من المعارف والعلوم ما لم يكن متاحًا عندهم، ولا يقدح فى هذا ما قد يقال من أن الحسابات الفلكية كانت معروفة فى أزمانهم، لأننا الآن لا نقف عند حد الحساب الفلكى فقط، ولكن دخلت فى حياتنا الأقمار الصناعية التى ترى المعادن والثروات وهى فى باطن الأرض، وترى الكواكب والثقوب السوداء والمجرات فى أعالى السماء، أقول قولى هذا وأدعو الله أن يهبك علمًا من لدنه.