رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

القراءة مثل الحب.. تأتى مبكرًا


لم تكن فى طفولتى طفولة، ولكن كانت هناك مكتبة صغيرة فى صوان بصالة البيت، أغرتنى الكتب المرصوصة بداخلها أن أسحب كتابًا لأقرأه وراء كتاب. لحسن حظى كان معظم الكتب روايات عربية وأيضًا أجنبية مترجمة، ثم قادتنى خطواتى إلى مكتبة مدرستى الإعدادية فالثانوية، وفيهما وجدت ثروات أدبية وفكرية كان من بينها كتاب صغير مضغوط بعنوان «فقه اللغة» يضم مرادفات وأضداد الكلمات. إلى الآن ما زال هذا الكتاب عندى، مما يعنى أننى استوليت عليه حينذاك بطريقة ما!
فى كل الحالات فتحت عينى على مكتبة فى البيت وأخرى فى المدرسة. أتذكر ذلك، بمناسبة الاحتفال السنوى باليوم العالمى للكتاب فى ٢٣ أبريل، وهو يوم لا يقتصر على الاحتفاء بالأدباء وصناعة الكتب، بل يمتد إلى تعزيز ونشر مفهوم وعادات القراءة. أيام كنا ندرس فى الستينيات كان مقررًا علينا حصة كل أسبوع مخصصة للقراءة داخل المكتبة. للأسف اختفت هذه الحصة من برامج التعليم المدرسى الآن، ولا أدرى كيف هى أحوال المكتبات بصفة عامة ومكتبات المدارس التى يستحيل من دونها الحديث عن تعزيز عادة القراءة لدى الشباب، لكن الإحصائيات بهذا الشأن غير مبهجة، إذ لا توجد مكتبات فى أكثر من أربعة آلاف قرية مصرية تضم نحو ستين بالمئة من السكان. أضف إلى ذلك نسبة الأمية المرتفعة التى وصلت عام ٢٠١٩ حسب معطيات الجهاز المركزى للإحصاء إلى نحو عشرين مليون نسمة، أضف إلى ذلك محدودية الدخول، مما يجعل من الأمية وقلة ذات اليد عدوًا رئيسيًا للقراءة والكتب.
وقد جاء فى معطيات مرصد الأحوال المصرية أن ٨٨٪ من الأسر المصرية لا يقرأ أى من أفرادها أى شىء على الإطلاق! وعندما عقد المؤتمر القومى الأول للمكتبات المدرسية فى أبريل ٢٠١٣ لاحظ د. مصطفى حسام الدين أستاذ المكتبات بجامعة القاهرة أنه «لا توجد سياسة عامة لتطوير المكتبات العامة فى مصر، لا كجزء من السياسة الوطنية للمعلومات ولا بشكل منفصل، سياسة مكتوبة ومعلنة تحدد أهداف هذا التطوير والأسس التى يستند إليها والخطط الاستراتيجية والمتوسطة والقصيرة التى وضعت لتنفيذ هذه السياسة».
وعندما نتحدث عن «التنوير» أو نتحدث عن مواجهة الإرهاب، فإننا فى واقع الأمر، وإلى حد كبير نتكلم عن القراءة والوعى وعن المكتبات والكتب وحصة القراءة فى مكتبة المدرسة التى لم يعد لها وجود الآن. ومن المؤسف أن معظم الآباء يتصورون أنهم يقومون بدورهم حين يتكفلون بطعام وشراب وملابس ومصاريف أطفالهم.
وقد سألتنى ذات يوم سيدة فاضلة: «ابنتى تحب القراءة أنا لا أقصر فى مطالبها من ملبس وطعام وغير ذلك، لكن بالنسبة للقراءة لا أدرى ماذا أفعل؟». نظرت إليها طويلًا ثم قلت لها بصراحة: «إن الطعام والشراب والمأوى يكفى لنمو بطة أو ماعز، أما الطفل فيحتاج إلى أكثر من ذلك لكى ينمو إنسانًا، يحتاج إلى مكتبة، وأنت لا تربين دجاجة بل إنسانًا».
أعتقد أن الأسرة بحاجة إلى الالتفات لأهمية المكتبة داخل البيت، حتى لو كانت مكتبة صغيرة، على أن تضم روايات وأعمالًا مكتوبة للأطفال، مثل كتب كامل الكيلانى وغيره. وحين يفتح الطفل عينيه على الكتاب، ويحس مبكرًا بمتعة اقتحام عالم الخيال، ومعايشة شخصيات وأحداث أخرى، فإنه لن يكف عن القراءة لاحقًا.
إلى الآن، ما زالت حية فى ذاكرتى المشاهد الأولى من الروايات الأولى التى بدأت قراءتها وأنا صبى، كما ما زال حيًا لا يفارق عينى وهج لمبات دار الأوبرا القديمة وأنا صبى صغير جالس أشاهد لأول مرة فى حياتى «العشرة الطيبة» لسيد درويش. القراءة والفن مثل الحب يجب أن تبدأ مبكرًا.