رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشيخ عبدالله الشرقاوى.. الوطنية الصادقة والشجاعة


ولد الإمام عبدالله حجازى إبراهيم الشرقاوى فى قرية «الطويلة» من ضواحى «بلبيس»، بالقرب من قرية «القرين» فى محافظة الشرقية سنة ١١٥٠هـ، ومن هنا نُسب إلى الشرقية، حفظ فى طفولته القرآن الكريم فى قرية «القرين»، حيث نشأ بها، وتطلع إلى المعرفة فشد رحاله إلى الجامع الأزهر، حيث درس على يد كثير من أعلام علمائه.
كان متسامحًا متساهلًا، وقد خاض فى حياته أحداثًا جسامًا، كان يلقاها بالمرونة والحكمة، وقد أعانته نزعته الصوفية على الرفق والتؤدة والتسامح، على الرغم مما قاساه من خصومة وعداء، كان شيخ علماء الشافعية ومفتيهم فى عصره. لما مات الشيخ أحمد العروسى، شيخ الأزهر عام ١٢٠٨هـ، تولَّى الإمام الشرقاوى مشيخة الأزهر بعده. والذى كانت فى فترة توليه هذا المنصب الجليل قد ألمَّت بمصر أحداث كبيرة، كانت الوطنية هى حمية عبدالله الشرقاوى حتى مماته، إلا أن السياسة خدعته وجعلته طواعيةً أو جبرًا ضالعًا فى مؤامرة حِيكت ضد أحد رفاق النضال.
جاء الفرنسيون ودخلوا القاهرة عام ١٧٩٨م بعد مقاومة رائعة، وبعد أن استقر الفرنسيون بمصر، وضع نابليون بونابرت نظام حكم البلاد، فقرر حكم القاهرة بمجلس مكون من ٩ أعضاء، على أن تكون السلطة المدنية للحكومة بيده، وكان الشيخ الشرقاوى من أعضاء هذا المجلس، ثم أمر نابليون بونابرت بتكوين مجلس لكل مديرية عدده ٧ أفراد، وذلك من أجل مصالح المديرية، وتم اختيار الشيخ «الشرقاوى» رئيسًا للديوان، وبذلك أصبح رئيسًا لحكومة القاهرة المدنية، بالإضافة إلى مشيخة الأزهر، ولقب بذى الرياستين، ظن نابليون أن «الشرقاوى» قد تم إغراؤه بهذه المناصب، فقام نابليون ذات مرة بوضع طيلسان الجمهورية الفرنسية على كتف الشيخ الشرقاوى، فألقى به على الأرض، إلى أن اندلعت ثورة القاهرة الأولى وحافظ على الأزهر وقيمته، برغم حادثة قصفه، وكان الشيخ «الشرقاوى» يستغلُّ مكانته فى الشفاعة لدى الفرنسيين فى دفع الأذى عن زعماء الشعب، وكثيرًا ما كان يقف فى وجه الفرنسيين، ولأنَّه رأى فيهم الخطر الداهم على مصر فكان يجبُ التصدِّى لهم. واكتشف الفرنسيون أنَّه تجاوب مع الثورة، فاعتقلوه مع غيره من الزعماء فى سجن القلعة، لكن سرعان ما أخرجوه لحاجتهم إليه، بعد فشل ثورة القاهرة عام ١٧٩٨ ضد الفرنسيين، قام نابليون بونابرت بحل المجلس واستمر معطلًا مدة شهرين، ولكن سرعان ما أعاده نابليون، ولكن بشكل جديد، حيث قام بتكوين مجلسين: أولهما الديوان العمومى وتكوّن من ٦٠ عضوًا من الأعيان المصريين وممثلى الطبقات المختلفة، وهذا المجلس يجتمع بناء على دعوة من حاكم القاهرة، وكان الشيخ «الشرقاوى» من أعضاء هذا المجلس، ثم انفض بعد ثلاثة أيام، وثانيهما المجلس أو الديوان الخصوصى وعدد أعضائه ١٤ عضوًا، ويجتمع يوميًا لبحث ونظر مصالح الناس، وكان الشيخ «الشرقاوى» رئيسًا لهذا المجلس، وهو عبارة عن مجلس وزراء بإشراف الوزراء، وبرحيل نابليون ثم تولى كليبر منصب كبير الفرنسيين بمصر ووصولًا إلى اندلاع شرارة ثورة القاهرة الثانية وختامًا بقيام سليمان الحلبى بقتل القائد الفرنسى كليبر، أحضر الفرنسيون الشيخ «الشرقاوى» مع الشيخ «العريشى»، قاضى مصر، وتم حجزهما ساعات وطلب الفرنسيون منهما البحث عن الأزهريين الأربعة الذين ذكرهم سليمان الحلبى فى التحقيق، ولكنهما ثارا لذلك الموقف الفرنسى، فحاول الفرنسيون الزج بالشيخ «الشرقاوى» فى ذلك الأمر، ولكن انتهى الموضوع حين تم إلقاء القبض على من ساعدوا الحلبى فى قتل كليبر، وعند اضطراب الفرنسيين بسبب مجىء الحملة العثمانية الإنجليزية لمصر ثم احتلال الأتراك العريش قام الوكيل الفرنسى باستدعاء أعضاء الديوان، ثم اعتقل ٤ منهم، وكان فى مقدمتهم الشيخ عبدالله الشرقاوى، ثم أُرسلوا إلى القلعة ومكثوا فى سجنهم ١٠٠ يوم، وتم إطلاق سراحهم بعد معاهدة جلاء الفرنسيين عن مصر.
بعد خروج الفرنسيين من مصر بذل الشيخ عبدالله الشرقاوى جهدًا فى النضال، بدليل اشتراكه مع زعماء الشعب فى عزل خورشيد باشا وتولى محمد على الحكم فى بيت القاضى، وكان فى مقدمتهم الشيخ «الشرقاوى»، فعلم الشعب بذلك، فاجتمع ما يقرب من ٤٠ ألفًا وقاموا بمظاهرة ضد الأتراك وظلمهم السافر، ثم طلب القاضى وكلاء الوالى، وعندما حضروا إليه عقدوا المجلس، وتم عرض مظالم الشعب ومطالبهم وهى: (١) عدم فرض أى ضريبة على القاهرة إلا بعد أن يقرها العلماء والأعيان. (٢) جلاء الجنود عن القاهرة وانتقال حامية القاهرة إلى الجيزة، (٣) عدم السماح بدخول أى جندى إلى مدينة القاهرة وهو مسلح.
وبعد أن وصلت رسالة القاضى إلى خورشيد باشا، وهى محملة بهذه المطالب شعر بأن موقفه خطير فأرسل إلى العلماء بمقابلته، ولكنهم لم يذهبوا؛ لأنهم فطنوا لمؤامرته، فرفض خورشيد باشا مطالب الشعب، فقام العلماء ووكلاء الشعب باجتماع فى المحكمة واتفقوا مع الشعب على عزل خورشيد باشا واختيار محمد على واليًَا على مصر وأبلغوه بذلك.
تردد محمد على فى أول الأمر، ثم قبل بعد أن أوضح له الشيخ عبدالله الشرقاوى والسيد عمر مكرم أن هذه هى رغبة الشعب المصرى، ثم ألبساه خلعة الولاية، وكانت هذه هى أول مرة فى تاريخ مصر الحديث يُعزل فيها الوالى ويُختار بدله بإرادة الشعب، استمر محمد على مطيعًا لكل ما تم الاشتراط عليه إلى أن تم جلاء حملة «فريزر» وبجلائها بدأت جذور الأزمة والشقاق بين محمد على والزعامة الشعبية بكل رجالها، وكان سبب هذا كما ذكره عبدالرحمن الرافعى فى كتابه «عصر محمد على»: «أنه من الراجح أن محمد على باشا كان يميل فى ذات نفسه إلى التخلص من الزعامة الشعبية التى أجلسته على قمة المجد، لأن هذه الزعامة كانت فى هذه السنوات الأولى من حكمه بمثابة سلطة ذات شأن تستقصى عليه وتراقب أعماله مراقبة مستمرة، وكانت ملجأ الشاكين ممن ينالهم الظلم أو تخيفهم مساوئ الحكام، وهو كانت له أحلام وطموحات رأى أنها ستكون، وبلا شك، مكبلة ومقيدة بالزعامة الشعبية ولربما صنعت دولة داخل الدولة أو حكامًا شركاء لحاكم، فخطط الباشا للتخلص من السيد عمر مكرم وفى نفس الوقت إضعاف المشايخ الذين كان الانقسام قد دب بينهم».
وتوفى «الشرقاوى» بعد هذا الموقف بـ٣ سنوات، وتم وضعه تحت الإقامة شبه الجبرية تقليلًا لنفوذ الأزهر وسطوته.
وبرغم أنه فى أواخر أيامه تم وضعه تحت الإقامة شبه الجبرية للقضاء على نفوذ الأزهر، ظل الشرقاوى ينشرُ العلم ويدرسه ويناضلُ ضدَّ الظلم ويمنعه حتى وافته المنية، يوم الخميس، ٩ أكتوبر ١٨١٢م، وذكر الجبرتى أنه لما مات الشيخ الشرقاوى صلى عليه بالأزهر جمع كثير، ودُفِنَ فى مدفنه الذى بناه لنفسه، فقد كان الشيخ الإمام عبدالله الشرقاوى ناظرًا على وقف وقفته السيدة الخاتون «خوند طغاى الناصرية» بالصحراء للصوفية والقراء، وكان الفرنسيون دمَّروه، فأنشأ الشيخ به مسجدًا وبنى لنفسه إلى جواره قبرًا وعقد عليه قبة، وجعل تحتها مقصورة بداخلها تابوت عالٍ مربع وبنى بجانبه قصرًا ملاصقًا له، وإن الباشا- الوالى- أصدر فرمانًا بعمل مولد سنوى له، واحتفى الناس بهذا المولد، وأقاموا الموائد ومدوا مناضد الأطعمة، وحضره جمع كبير من الفقهاء والمشايخ والأعيان.